باب ذكر الهجرة من مكة إلى المدينة المشرفة
وإذْ فشا الإسلامُ بالمدينةِ *** هاجرَ مَنْ يحفظُ فيها دينَهْ
وعَزمَ الصديقُ أن يُهاجرا *** فردّهُ النبيُّ حتى هاجرا
معًا إليها فترافقا إلى *** غارٍ بثورٍ بعدُ ثمَّ ارتحلا
ومعهُما عامر مولى الصدّيق *** وابنُ أرَيْقِطِ دليلٌ للطريق
فأخذوا نحوَ طريق الساحل *** والحقُّ للعدو خيرُ شاغلِ
تَبِعهم سُراقةُ بن مالك *** يريدُ فَتْكًا وهوَ غيرُ فاتِكِ
لمَّا دعا عليهِ ساخَتِ الفرس *** ناداهُ بالأمانِ إذْ عنهُ خَنَسْ
وحين فشا الإسلام أي ظهر وانتشر بالمدينة شكا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وجدوه من أذى المشركين واستأذنوه في الهجرة إلى المدينة فأذن فهاجر إليها كل من يحتفظ على دينه، فخرجوا أرسالًا قيل: وأوّلهم أبو سلمة أخو النبي من الرضاعة وجلست عنه زوجته بمكة نحو سنة ثم أذن لها بنو المغيرة فهاجرت، وقيل: مصعب بن عمير، فآواهم الأنصار وواسوهم ولم يبق بمكة إلا المصطفى والصديق والمرتضى [1] أو محبوس أو مريض، وعزم الصديق على المهاجرة فقال له النبي: “لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبًا” [2] فلم يزل يرده عن المسير حتى هاجرا معًا، وسبب هجرته أن قريشًا لما رأت خروج من أسلم إلى المدينة بالذراري والأطفال خافت خروج المصطفى وعلمت أنه قد صار للمسلمين منعة وقوة فاجتمعوا للتشاور في أمره وحضرهم إبليس في صورة شيخ نجدي فأشار كل برأي وإبليس يرده إلى أن قال أبو جهل: نأخذ من كل قبيلة من قريش غلامًا بسيف فيضربونه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يمكن بنو عبد مناف حرب الكل فيرضوا بالعقل، فقال النجدي: هذا هو الرأي فتفرقوا عليه، وأخبر جبريل النبي بذلك فلم ينم في مضجعه تلك الليلة، واجتمعوا ببابه يرصدونه لينام فيثبوا عليه فقال لعلي: “نم على فراشي وتسجَّ ببردي فلن يخلص إليك شيء تكرهه” وأخذ حفنة تراب وخرج عليهم فلم يروه فوضع التراب على رءوسهم وهو يتلو سورة يس إلى قوله تعالى: {فأغشيناهم فهم لا يُبصِرون} [سورة يس] ثم انصرف فأتاهم ءاتٍ فقال: خرج محمد وما منكم إلا مَنْ وضع على رأسه ترابًا فوضع كل منهم يده على رأسه فوجد التراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليًا على الفراش متسجيًا ببرد رسول الله فيقولون: هذا هو نائم على فراشه فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي من الفراش وجاء المصطفى إلى بيت الصديق ظهرًا فقال: “إن الله أذِنَ لي في الهجرة” فقال: الصحبةَ، عندي ناقتان أعطيك إحداهما فقال: “بالثمن” فتجهزا قالت عائشة: وضعنا لهما سُفرة من جرابٍ فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به فمه فسميت ذات النطاقين، فخرجا من خوخة لأبي بكر ليلًا فترافقا إلى الغار وهو بثور جبل بقرب مكة فدخلاه، وخيّم العنكبوت على بابه وفرخت حمامة وطلبت قريش المصطفى أشد الطلب وجعلت لمن دل عليه مائة ناقة وأتوا إلى الغار فوجدوه كذلك حتى قال أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى رجله لرءانا فقال: “اسكت ما ظنك باثنين الله ثالثهما” [3] فتقدم جمع منهم فنظروا الحمامتين والعنكبوت فقالوا: ليس في الغار شيء، وكان عامر بن فهيرة يأتيهم ليلًا ثم يسرح مع الناس ومكثا ثلاث ليال يأتيهما عبد الله بن أبي بكر يخبرهما بما سمع من القوم وبعد ثلاث ارتحلا ومعهما عامر بن فهيرة يخدمهما، واستأجرا عبد الله بن أريقط من بني عبد بن عدي يدلهما على الطريق وكان كافرًا إذ ذاك ولم يعرف به إسلام فأخذوا نحو طريق الساحل أسفل من عُسفان والحق سبحانه شاغل لعدوهم عن اتباع ءاثارهم من تلك الجهة، وبلغ سراقة بن مالك المدلجي أن سوادًا مر بالساحل فركب فرسه منتهزًا للفرصة خفية من قومه “يريد” برسول الله صلى الله عليه وسلم “فتكًا” أي قتلًا ليحصل على ما جعلت قريش لمن رده أو قتله “وهو غير فاتك” به لأن الله حماه وعصمه، فحث في الطلب حتى أدركهما فصُرع عن فرسه فأخرج الأزلام فاستسقم بها فخرج ما يكره فركب وحث في الطلب فصار أبو بكر يكثر التلفت والمصطفى يقرأ ولا يلتفت فلما قرب منهما قال: “اللهم اكفناه كيف شئت وبما شئت” [4] ودعا عليه فساخت يدا فرسه إلى بطنها في أرض جلدٍ وخر عنها فناداه بالأمان لحبسه عن لحوقه له فدعا له فانطلق فرسه ووقف المصطفى حتى جاءه فأخبره ما يريد به قومه وأنهم قد جعلوا فيه الدية فقال: أخف علينا فرجع فوجدهم يلتمسونه فقال: ارجعوا فقد استبرأت لكم ههنا، قال: فخرجت وأنا أحب الناس في تحصيلهما ورجعت وأنا أحبهم في أن لا يعلم بهما أحد وفي ذلك يقول مخاطبًا لأبي جهل:
أبا حكمٍ لو كنت والله شاهدًا *** لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدًا *** رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني *** أرى أمره يومًا ستبدو معالمه
بأمرٍ يود الناس فيه بأسرهم *** بأن جميع الناس طرًّا تسالمه
ويقال: إن المصطفى كتب له كتابًا بالأمان في عظم أو أدم وأنه وافاه به يوم الفتح فرحب به وأمّنه، ووقع لسراقة هذا علمٌ من أعلام النبوة وهو قول المصطفى: “كيف بك إذا لبست سواري كسرى” [5] فلبسهما أيام عمر.
[1] المراد علي رضي الله عنه.
[2] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [22/177-178]، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [6/62]: “رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن بشير الدمشقي ضعفه أبو حاتم”.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التفسير: باب {ثاني اثنين إذْ هُما في الغارِ إذ يقولُ لصاحبهِ لا تحزنْ إنَّ اللهَ معنا}، ومسلم في صحيحه: كتاب فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحمد في مسنده [1/4].
[4] أخرجه أحمد في مسنده [1/3]، والبيهقي في دلائل النبوة [2/483-484].
[5] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة [6/325].