باب ذكر أخلاقه الشريفة وأوصافه ومعانيها
أكْرِمْ بهِ خُلُقُهُ القرءانُ *** فهوَ لدى غضبِهِ غَضْبانُ
يرضى بما يرضاهُ ليسَ يَغضبُ *** لنفسهِ إلا إذا تُرتكبُ
محارمُ الله إذًا فينتقمُ *** فاحدٌ لذاكَ أصلًا لم يَقمْ
بعثهُ الرحمنُ بالإرفاقِ *** كيما يتمَّ صالحَ الأخلاقِ
أشجعهم في موطنٍ وأنجدا *** وأجودُ الناس بنانًا ويدا
قوله: “أكرم به” أي ما أكرمه على الله إذ جعل خُلقه القرءان أي ما دل عليه من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده، وقوله: “فهو لدى غضبه غضبان” أي كل مكان جاء فيه غضب الله فهو غضبان لأجله، يرضى بما يرضاه القرءان ويتأدب بآدابه ويتخلق بأخلاقه ويلتزم أوامره ولا يغضب لنفسه إلا إذا ارتكبت محارم الله فإنه حينئذ ينتقم من مرتكبها، وقوله: “فأحد لذاك أصلًا لم يقم” فيه تقديم وتأخير ولفظ [رواية] البغوي [1]: فإذا تُعدّي الحق لم يقم لغضبه شيء” أي لشدة انتقامه، وفي رواية الطبراني [2]: “فإذا انتهكت حرمة الله كان أشد الناس غضبًا لله” أي فينتقم من مرتكب ذلك كما هو شأن أكابر المرسلين. وقد بعثه الله الرحمن بالإرفاق أي رفقًا بهذه الأمة لكي يتمم مكارم الأخلاق. وكان أشجع الناس أي أقواهم قلبًا وأكثرهم جراءة لملاقاة العدو، وقوله: “في موطن” أي في مكان القتال وطالما استنجده الخائف عند خوفه فأنجده أي أعانه ونصره، وقوله: “أجود الناس بنانًا ويدا” البنان الأصابع واحدها بنانة، وفي رواية الترمذي [3]: “كان أسخى الناس كفًا”.
ما سُئلَ قطُّ حاجةً فقالَ لا *** وليسَ يأوي منزلًا إنْ فَضلا
مما أتى درهمٌ أو دينارٌ *** حتى تريحَ منهما الأقدارُ
أصدقُ لهجةً وأوفى ذمهْ *** ألينهم عريكةً في الأمة
أكرمهم في عشرةٍ لا يحسبُ *** جليسه أن سواهُ أقربُ
حياؤهُ يربو على العذراءِ *** في خِدرها لشدةِ الحياءِ
ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط يعني حاجة من متاع الدنيا يباح إعطاؤه فقال لا، بل إنما يعطيه أو يقول له ميسورًا من القول فيعده أو يدعو له، وقول الناظم: “وليس يأوي منزلا” أي إلى منزله إن فضل أي بقي مما أتي أي من الذي يأتيه من نحو غنيمة درهم أو دينار، حتى يريحه منهما أي من همّ الدينار والدرهم الأقدار فيفرقه على مستحقيه، وكان أصدق الناس لهجة أي لسانًا يعني كلامًا والمعنى كلامه أصدق الكلام فلسانه أصدق الألسنة، وقوله: “وأوفى الناس ذمة” أي عهدًا وأمانًا، وألينهم عريكة أي أحسنهم معاشرة فكان على الغاية من التواضع وقله النفور والخلاف، هكذا كان حاله مع جميع الأمة أي أمة الإجابة، وكان أكرمهم في عشرة أي في حسن صحبة من يصاحبه ويعاشره لا يحسب جليسه أي من يجالسه أن سواه أقرب إليه منه لعظم إكرامه له، وكان أشد حياء من العذراء في خدرها وهو المراد بقول الناظم: “حياؤه يربو” أي يزيد على العذراء في خدرها، وقوله: “لشدة الحياء” حشو كمل به الوزن.
نظرهُ للأرض منهُ أكثرُ *** إلى السماءِ خافضٌ إذْ ينظرُ
كان نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء كما في خبر الترمذي [4]، يعني نظره إلى الأرض حال السكوت وعدم التحدث أطول من نظره إلى السماء، والنظر كما في الصحاح [5] بفتحتين: “تأمل الشيء بالعين”، والأرض الجرم المقابل للسماء وإنما كان نظره إلى الأرض أطول لأنه أجمع للفكرة وأوسع للاعتبار أو لأنه أكثر الناس حياء وأدبًا مع ربه أو لأنه بعث لتربية أهل الارض لا لتربية أهل السماء، أما في حال التحدث فكان يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء، فلا تعارض بين حديث الترمذي هذا وبين حديث أبي داود [6]: “كان إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء”. وقوله: “خافض” الطرف “إذ ينظر” أي كان لا يثبت بصره في وجه أحد لشدة حيائه ذكره الناظم تبعًا لقول عياض [7] إنه روي كذلك، وقيل: كأن المراد إذا نظر إلى شيء ما خفض بصره لأن هذا شأن المتواضع وهو متواضع بسليقته، وشأن المتأمل المتفكر وهو مشغول بالتفكر في ءالاء ربه، وقيل: هو كناية عن لين جانبه ومزيد تواضعه أو عن عدم كثرة سؤاله أو استقصائه إلا في واجب، والطرف العين وهو في الأصل تحريك الأجفان عند النظر فوضع موضع النظر.
أكثرهم تواضعًا يُجيبُ *** داعيهِ بعيدٌ أو قريبُ
من عبدٍ أو حرٍّ فقيرٍ أو غني *** وأرحمُ الناس بكلّ مؤمنِ
وطائفٍ يَعْروهُ حتى الهِرهْ *** يُصغي لها الإناءَ غيرَ مرّهْ
كان أكثر الناس تواضعًا كيف وقد خُير بين أن يكون نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا فاختار الثاني. وقوله: “يجيب داعيه” أي من دعاه، وقوله: “بعيدٌ” أصله النصب على الحال من ضمير المفعول ورفع هنا خبرًا لمبتدإ محذوف، أي يجيب كل من دعاه من بعيد أو قريب من عبد أو حر أو فقير أو غني دني أو شريف، وكان أرحم الناس بكل مؤمن وبكل طائف فلا يختص برحمته من يعقل بل تعم رحمته جميع الخلائق حتى من لا يعقل كالوحش والطير، وكان كل طائف يعروه أي يقصده حتى الهرة فكانت تأتيه فيصغي لها الإناء لتشرب يفعل ذلك غير مرة بل كل هرة أتته يفعل بها ذلك.
كانَ أعفَّ الناس ليسَ يُمسِكُ *** أديدَ مَنْ ليسَ لهنَّ يملكُ
يُبايعُ النساء لا يُصافحُ *** أيديهنَّ بل كلامٌ صالحُ
كان أعفّ الناس أي أنزههم عما لا يليق ومن عفته أنه ليس يمسك أيدي نساء من ليس لهن يملك من رق ونكاح، ولفظ الحديث: “وما لمست يده يد امرأة قط لا يملك رقها” [8] ولو قال الناظم:
كان أعف الناس أيضًا ما مسكْ *** قط يدًا ليس برقها ملكْ
كان أقرب إلى لفظ الحديث لكن فيما عبر به شمول لما ملك بالزوجية دون هذه. وكان يبايع النساء ويستغفر لهن امتثالًا لقوله تعالى: {واستغفر لهنَّ الله} [سورة الممتحنة] لكن “لا يصافح أيديهن” بل مبايعته لهن “كلام صالح” يعني بايعهن بالكلام لا بالمصافحة في اليد عند المبايعة.
أشدُّهم لصبحهِ إكرامًا *** ليسَ يمدُّ رجلهُ احتراما
بينهم ولم يكن يُقدِّمُ *** رُكبتهُ على الجليسِ يكرمُ
فمن بديهةً رءاهُ هابهُ *** طبعًا ومن خالطهُ أحبَّهُ
كان أشد الناس لأصحابه إكرامًا لهم ومن ذلك أنه كان لا يمد رجله بين جلسائه احترامًا لهم وفي رواية: “كان أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيئًا من أطرافه إكرامًا واحترامًا لهم”، ولم يكن يقدم ركبتيه على جليسه بل كان يكرمه بتجنب ذلك تواضعًا وإيناسًا، ومن رءاه بديهة أي رؤية بديهة فهو مفعول مطلق يعني فجأة من غير مخالطته ومعرفة أخلاقه أو قبل النظر في أخلاقه العلية وأحواله السنية هابه وعظمه وخافه طبعًا أي بالطبع وإن لم يره قبل ذلك لما علاه من صفات الجلال ونعوت الكمال، ومن خالطه وعاشره أحبه لما يشاهده من محاسن أخلاقه ومزيد شفقته وتواضعه وباهر عظيم تألفه وأخذه بالقلوب، فكانت تحنُّ إليه الأفئدة وتقرُّ به العيون وتأنس به القلوب، فكلامه نور ومدخله نور ومخرجه نور وعمله نور، إن سكت علاه الوقار وإن نطق أخذ بالقلوب والبصائر والأبصار.
يَمْشي معَ المسكينِ والأرْملةِ *** في حاجةٍ مِنْ غيرِ ما أنَفَةِ
يَخْصِفُ نعلَهُ يَخيطُ ثوبهُ *** يحلِبُ شاتَهُ ولنْ يعيبَهُ
كان يمشي مع المسكين والأرملة إذا أتياه في حاجة همّ يفعل ذلك من غير أنفة بفتح الهمزة والنون وزيادة ما يقال أنف من الشيء إذا شرفت نفسه عنه وتنزه عنه، وكان يخصف نعله أي يخرزها، ويخيط ثوبه أي يرقعه ويعمل في بيته كما يعمل الآحاد، وكان يحلب شاته ويخدم نفسه أي يتعاطى خدمة نفسه بنفسه ولا يعيبه ذلك.
يخدِمُ في مهنةِ أهلهِ كما *** يقطعُ بالسكينِ لحمًا قدُما
يُردِفُ خلفهُ على الحِمارِ *** على إكافٍ غير ذي استِكْبارِ
يمشي بلا نعلٍ ولا خُفٍّ إلى *** عِيادةِ المريضِ حولَهُ المَلا
وكان يخدم في مهنة أهله بفتح الميم أي خدمتهم يعني يتعاطى ذلك معهم وربما تحمله عنهم جمله، وذلك مثل تقطيع اللحم الذي يقدم إليه للأكل بالسكين فإنه كان يتولى ذلك بنفسه وذلك لا يأنف منه، وكان يردف خلفه عبده أو خادمه أو قريبه يفعل ذلك على الحمار فغيره من نحو ناقة أو بغلة أولى، وكان يركب على إكاف بكسر الهمزة وهو للحمار كالسرج للفرس يفعل ذلك من غير تكبر، وكان يمشي حافيًا بلا نعلٍ ولا خف إلى عيادة المريض وحوله الملأ من أشراف قومه وأصحابه سموًا ملأ لأن رؤيتهم تملأ العين.
يُجالِسُ الفقيرَ والمسكينا *** ويُكرمُ الكِرامَ إذْ يأتونا
وكان يجالس الفقراء والمساكين والعبيد والإماء ويعودهم ويزورهم ويتفقد حالهم ويشهد جنائزهم، ويكرم أهل الفضل والكرام حين يأتون إليه وربما بسط لبعضهم رداءه ويقول: “إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه” [9] فكان يحافظ على تألف أهل الشرف ترغيبًا لهم ولقومهم في الإسلام.
ليسَ مُواجِهًا بشيءٍ يكرههُ *** جليسهُ بل بالرضا يُواجههْ
كان لا يواجه أحدًا من الناس بشيء يكرهه لا سيما جليسه بل يواجهه بالرضا ويقوب إذا بلغه عن أحد ما يكرهه: “ما بال أقوام يصنعون كذا” ولا يقول ما بال فلان يفعل كذا [10]، وفي نسخة: “يشافهه” بدل يواجهه، وكان يقبل بوجهه وحديثه على أشراف القوم.
يَمْزَحُ لا يَقولُ إلا حقًا *** يجلسُ في الأكلِ معَ الأرِقا
وكان يمزح مع أصحابه مؤانسة لهم وتألفًا لما كانوا عليه من شدةٍ فكان يمازحهم تخفيفًا عليهم لكنه لا يقول إلا حقًا [11] لأنه معصوم عن الكذب فالمزاح لا ينافي الكمال حيث لم يخرج عن القوانين الشرعية، وكان يجلس في الأكل مع العبيد الأرقاء ويتشبه بهم في الجلوس للأكل فلا يترفع عليهم ويقول: “إنما أنا عبد ءاكل كما يأكل العبيد وأجلس كما يجلس العبيد” [12].
يأتي إلى بَساتِنِ الإخوانِ *** يُكرمُهُمْ بذلكَ الإتيانِ
أي كان يذهب إلى بساتين أصحابه يقصد بذهابه إليهم إكرامهم وتألفهم وقد ذهب إلى بستان أبي الهيثم وغيره، وأصل بساتن بساتين جمع بستان فحذف الياء للوزن، والبستان فعلان قال الفراء [13]: عربي، وقال بعضهم: رومي معرب.
قيلَ لهُ يدعو على الكفارِ *** دَوْسٍ وغيرهمْ منَ الفُجَّارِ
فقالَ إنما بُعثتُ رحمهْ *** وليسَ لعَّانًا نبيُّ الرحمهْ
بلْ سألَ اللهُمَّ فاهْدِ دَوْسا *** وائْتِ بهم فأصبَحوا رُؤوسا
كان من شدة رحمة المصطفى بالخلق أنه قيل له: قد دعا نوح على قومه فلو دعوت على من وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسر رباعيتك ولو دعوت على دوسٍ وغيرهم من الكفار فقال: “إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانًا” [14] وهو مراد الناظم بقوله “وليس لعانا نبي الرحمة” فلم يجب من سأله إلى الدعاء [عليهم بل دعا] لهم فقال: “اللهم اهد دوسًا وائتِ بهم مسلمين” فأصبحوا رءوسًا في الإسلام، وحديث البخاري [15]: “جاء الطفيل إلى النبي فقال إن دوسًا قد هلكت عصت وأبت فادع الله عليهم فقال: “اللهم اهد دوسًا وائتِ بهم” فأسلموا. ودوسٌ قبيلة من اليمن من الأزد وهو في النظر بالجر بدل من الكفار، وقوله “وغيرهم” عطف على المجرور.
لمْ يكُ فَحَّاشًا ولا لعَّانًا *** ولا بخيلًا لا ولا جبانًا
يختارُ أيْسَرَ الأمورِ إذْ ما *** خُيِّرَ إلا أن يكونَ إثما
قوله “لم يك” أصله لم يكن حذفت النون تخفيفًا أي لم يكن المصطفى بالفاحش في كلامه وفعاله، وقوله “فحاشا ولا لعانا” من أبنية المبالغة لكن صيغة المبالغة فيهما غير مرادة بل المراد نفي أصل الفعل، ولم بخيلًا ولا جبانًا أي ضعيف القلب عن القتال ونحوه، كان يختار أيسر الأمور أي إذا خُير بين أمرين أو أمور اختار أيسرها إلا أن يكون إثمًا فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه.
لمْ يُرَ ضاحِكًا بملئِ فيهِ *** بل ضَحْكُهُ تَبَسُّمًا يُبْديهِ
قوله: “لم ير” مبني للمفعول أي كان لا يراه أحد وهو يضحك بملئ فيهِ بل كان ضحكه تبسمًا يبديه أي يظهره. وفي خبر الترمذي [16]: “ما كان ضحكه إلا تبسمًا”.قالوا: أطلق النفي مع ثبوت أنه ضحك حتى بدت نواجذه إلحاقًا للقليل بالعدم فالمراد أن أغلب أحواله أنه كان جل ضحكه التبسم.
يعجبُ ممَّا يعجَبُ الجليسُ *** منهُ فما بوجههِ عُبُوسُ
أصحابهُ إذْ يَتَتاشدُونا *** بينهم الأشعارَ يضحكونا
ويذكرونَ جاهليَّةً فما *** يزيدُ أن يشركهم تبسُّما
كان المصطفى يَعجب بفتح أوله مما يعجب جليسه منه، وفي خبر الترمذي [17] عن علي: “يعجب مما يعجبون ويضحك مما يضحكون”، فما كان يرى بوجهه عبوس بضم عين عبوس يقال: عبس عبوسًا قطَّب وجهه فهو عابس وعبس اشتد فهو عبوس كرسول، وكان أصحابه حين يتناشدون فيما بينهم الأشعار بحضرته يضحكون ويذكرون أشياء من أمور الجاهلية فما يزيدهم على أن يشركهم تبسمًا في وجوههم تلطفًا بهم وإيناسًا لهم، فقوله: “يَعجب” بفتح أوله وثالثه والتعجب استحسان الشيء والإخبار عما يرضاه، وقوله: “يشركهم” بفتح أوله وثالثه.
قدْ وَسِعَ النَّاسَ بِبَسْطِ الخُلقِ *** فَهُمْ سواءٌ عندَهُ في الحقّ
ما انتهَرَ الخادِمَ قطُّ فيما *** يأتيهِ أو يتركُهُ مَلُوما
في صُنعِهِ للشيءِ لِمْ صَنَعْتَهُ *** وتَرْكِهِ للشيء لِم تَرَكْتهُ
يقولُ لوْ قُدِّرَ شيءٌ كانا *** سُبحانَ مَنْ كَمَّلهُ سُبحانا
قد وسع حلم المصطفى جميع الناس في في معاشرتهم ببسط الخلق فهم عنده في الحق سواء، ما انتهر خادمًا قط فيما فعله أو تركه وما قال له في شيء صنعه لم صنعته ولا في شيء تركه لم تركته، بل يقول لو قدر شيءٌ أي لو قدر الله فعل هذا الأمر أو الشيء لكان، فسبحان من كمل أوصافه الجميلة [الجليلة]، وقول الناظم: “وسع” بكسر السين، وقوله: “الخلق” بسكون اللام، وقوله: “ملومًا” بفتح الميم الأولى اسم مفعول من لامه يلومه عذله وهو نصب على الحال أي ما انتهر حال لومه، وتكرير سبحان للتأكيد والمضاف إليه محذوف وتقديره سبحانه.
وفي الجُلوسِ يَحتبي تواضُعا *** ومرةً كالقُرفُصاءِ خاضِعا
مجلِسهُ حِلْمٌ وصَبرٌ وحَيَا *** يبدأُ بالسَّلامِ مَنْ قدْ لقِيا
ويُؤْثِرُ الداخلَ بالوِسادهْ *** أو يبسُطُ الثوبَ لهُ زيادهْ
كان المصطفى يحتبي في الجلوس ففي خبر أبي داود وغيره [18]: “كان إذا جلس في مجلس احتبى بيديه” فكان يفعل ذلك تواضعًا لله، وكان يجلس مرة القرفصاء بضم القاف والفاء كما في خبر الشمائل [19]، وكان أبدًا خاضعًا مجلسه مجلس حلم وصبر وحياء كما في خبر الشمائل أيضًا [20]، يبدأ من لقيه بالسلام ويؤثر الداخل عليه بالوسادة كما في خبر أحمد، أو يبسط له ثوبًا زيادة في إكرامه كما فعله مع جرير حين دخل عليه، ورد ذلك من طرق.
ليسَ يقولُ في الرّضا والغضبِ *** قطعًا سِوى الحَقّ فخُذهُ واكتُبِ
يَعِظُ بالجِدِّ إذ ما ذكَّرا *** كأنهُ مُنذرُ جَيشٍ حّذَّرا
ويَستنيرُ وجهُهُ إنْ سُرّا *** تخالُهُ مِنَ السرورِ بَدْرا
كان المصطفى لا يقول في حالة الرضا والغضب إلا الحق قطعًا لعصمته، وقوله: “فخذه” ضميره راجع إلى مصدر المضارع الذي هو يقول أي فاقبل قوله كله على أي حالة كان فهو حق واكتب عنه كل ما يقوله في حال الرضا والغضب فإنه معصوم لا ينطق إلا بالحق، وكان يعظ الناس أي يخطبهم بالجد والاجتهاد إذا ذكرهم بآيات الله وخوفهم من عقابه فكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذرُ جيش أي قوم يُصَبّحهم عدوهم، رواه مسلم وغيره [21]. وقوله: “حذرا” أي خوفهم من النار ليس له كبير فائدة هنا، وكان إذا سرَّ استنار وجهه حتى تخاله أي تحسب وجهه من السرور بدرًا أي قمرًا كاملًا، وفي خبر الشيخين [22]: “كان إذا سرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر”.
يمنعُ أن يمشيَ خلفهُ أحدْ *** بل خلفهُ ملائكُ الله الأحدْ
وليسَ يَجْزي سيئًا بمثلهِ *** لكن بعفو وبصفحٍ فضلِهِ
كان يمنع أن يمشي خلفه أحد بل يمشي خلفه ملائكة الله الواحد الأحد وفي خبر أبي نعيم [23]: “امشوا أمامي وخلوا ظهري للملائكة”.
وقوله: “وليس يجزي” بفتح أوله ويضم، وسيئًا بفتح المهملة وشد التحتية أي لا يجازي الكلام والفعل القبيح بمثله، وفي الصحيح [24]: “ولا يجزي بالسيئة مثلها”، وقوله: “لكن بعفو” مجرور بالباء الموحدة أي لكن يقابل بالعفو، وقوله: “وبصفح” مثله، وقوله “فضله” بالجر بدل اشتمال من عفو أي يعفو عنه تفضيلًا عليه مع القدرة، فمن ذلك عفوه عن اليهودية التي سمته، وعن اليهودي الذي تقاضاه دَينه فأغلظ عليه، وعمن جذبه بردائه حتى أثرت حاشيته في عنقه وقال: “هذه قسمةٌ ما أريد بها وجه الله” [25] إلى غير ذلك مما لا تسعه بطون الدفاتر.
كان يحبُّ الفألَ مِمَّنْ ذكرَهْ *** وكانَ يكرهُ اتباعَ الطِّيَرَهْ
كان يحب الفأل وهو أن يسمع كلامًا حسنًا فيتيمَّن به ممن ذكره كقوله وقد سمع رجلًا يقول يا خضرة حال خروجه لخيبر [26]: اخرجوا بنا إلى خضرة: “أخذنا فالك من فيك” فما سل فيها سيف، وكان يكره اتباع الطيرة وهي التشاؤم بالشيء يسمعه أو يراه، وقوله: “اتباع الطيرة” بمثناة فوقية مشددة والطيرة بكسر ففتح.
[1] شرح السنة [13/272].
[2] أخرجه الطبراني في المعجم الصغير [ص/386-387].
[3] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب المناقب: باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
[4] انظر “الشمائل” للترمذي [ص/175 و189] و”شرح السنة” للبغوي [13/271].
[5] الصحاح [2/830].
[6] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب الهدي في الكلام.
[7] الشفا [1/119]، وقال الحافظ السيوطي في مناهل الصفا [ص/67]: حديث “أنه كان لا يثبت نظره في وجه أحد” ذكره صاحب الإحياء ولم يجده العراقي”.
[8] لفظ البخاري في صحيحه: كتاب الأحكام: باب بيعة النساء “وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها”.
[9] أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب الأدب: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، والطبراني في المعجم الكبير [2/304 و325]، والحاكم في المستدرك [4/292]، والبيهقي في سننه [8/168]، وانظر مجمع الزوائد [8/15 و16].
[10] أي في الأغلب.
[11] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [12/299]، والمعجم الصغير [ص/290]، وانظر مجمع الزوائد [8/89] و[9/17].
[12] أخرجه عبد الرزاق في مصنفه [10/415 و417]، وابن سعد في طبقاته [1/288]، والبغوي في شرح السنة [13/248]، قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [9/19]: “رواه أبو يعلى وإسناده حسن” اهـ.
[13] انظر المصباح المنير [ص/19].
[14] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب النهي عن لعن الدواب.
[15] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير: باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم.
[16] أخرجه الترمذي في سننه: كتاب المناقب: باب في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم.
[17] الشمائل المحمدية [ص/277-278].
[18] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الأدب: باب في جلوس الرجل، والترمذي في الشمائل [ص/119].
[19] الشمائل المحمدية [ص/118].
[20] الشمائل المحمدية [ص/267].
[21] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة: باب تخفيف الصلاة والخطبة، والنسائي في سننه: كتاب صلاة العيدين: باب كيف الخطبة، وابن ماجه في سننه: المقدمة: باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وأحمد في مسنده [3/311-319-338-371].
[22] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي: باب حديث كعب بن مالك، ومسلم في صحيحه: كتاب التوبة: باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه.
[23] أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء [7/117]، وعزاه السيوطي في الجامع الصغير [1/251]، لابن سعد ورمز لضعفه.
[24] أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ: “ولا يدفع بالسيئة السيئة”، كتاب البيوع: باب كراهية السخب بالأسواق. ورواية الشارح أخرجها أحمد في مسنده [6/174، 236].
[25] اعلم أن سب النبي صلى الله عليه وسلم وانتقاصه كفر، ويكون صاحبه كافرًا خارجًا من دين الإسلام بالإجماع، ويقتل بعد استتابته أي الطلب منه الرجوع عن ذلك والدخول في دين الإسلام بالشهادتين إن لم يتب، فإن تاب ودخل في الإسلام فلا يقتل عند بعض العلماء ويقتل عند ءاخرين.
فإن قيل: كيف يكون سبّ النبي كفرًا وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل هذا الرجل الذي انتقصه بهذه المقالة.
فالجواب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك قتله لأنه لم يكفر وإنما لمصلحة أخرى، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري [12/293] ما نصه: “قوله –أي النبي-: “فإن له أصحابًا”، هذا ظاهره أن ترك الأمر بقتله بسبب أن له أصحابًا بالصفة المذكورة، وهذا لا يقتضي ترك قتله مع ما أظهره من مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بما واجهه، فيحتمل أن يكون لمصلحة التآلف كما فهمه البخاري، لأنه وصفهم بالمبالغة في العبادة مع إظهار الإسلام، فلو أذن في قتلهم لكان ذلك تنفيرًا عن دخول غيرهم في الإسلام، ويؤيده رواية أفلح ولها شواهد، ووقع في رواية أفلح: “سيخرج أناس يقولون مثل قوله” اهـ.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتله بعد ذلك كما ثبت في مسند أحمد بإسناد جيد [3/15].
[26] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [17/20]، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [5/106]: “رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وكثير بن عبد الله ضعيف جدًا، وقد حسّن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات” اهـ.