الخميس نوفمبر 21, 2024

 

والمصدرُ الأصلُ وأيُّ أصلِ *** ومنهُ يا صاحِ اشتقاقُ الفعلِ

وأوْجَبَتْ لهُ النُّحاةُ النَّصْبا *** كقولِهِمْ ضرَبْتُ زيدًا ضربا

 

أي أن المصدر هو الأصل الذي اشتُقت منه الأفعال والصفات لأنه هو في الحقيقة الفعل المعنوي والقيام والقعود والضرب مثلاً هي الفعل الصادر من قام وقعد وضرب وإنما الفعل اللفظي كقام وقعد وضرب والصفات كقائم وقاعد وضارب إخبار عنه فذكرها يغني عن ذكره، فإذا ذكر معها صار تأكيدًا ووجب نصبه لأنه المفعول في الحقيقة ويسمى المفعول المطلق، فإذا قلت: قام زيد قيامًا فكأنك قلتَ أحدث زيد قيامًا، وقام يغني عن قولك قيامًا، وإنما ذكرته تأكيدًا كما في: { وسَلِّموا تسليمًا} [سورة الأحزاب/56].

 

فلو ذكر المصدر مع غير المشتقات منه نحو: أعجبني قيام زيد لم ينتصب وإن كان لفظه لفظَ المصدر لأن أعجبَ لا يدل عليه فلا يكون ذكره تأكيدًا له وبهذا خَص وجوب النصب بنحو: ضربت زيدًا ضربًا، نعم إذا اتحد اللفظان في المعنى قام أحدهما مقام الآخر، فتقول: جلس زيد قعودًا وقعد جلوسًا.

 

وقدْ أُقيمَ الوَصفُ والآلاتُ *** مُقامَهُ والعدَدُ الإثباتُ

نحْوُ ضربتُ العبدَ سوطًا فهَرَبْ *** واضْرِبْ أشدَّ الضربِ مَنْ يَغشى الرّيَبْ

واجلِدْهُ في الخَمْرِ أربعينَ جلْدَهْ [1] *** واحْبِسهُ مثلَ حبسِ مَوْلًى عبدَهْ

 

أي وقد يُقام مُقام المصدر في انتصابه أشياءُ منها وصفه كضربته شديدًا أي ضربًا أشد الضرب، وكذا قوله: “واحبسه مثل” أي حبسًا مثل “حبس مولى عبده” لأن فيه معنى التشبيه، ومنها الآلة التي فُعل بها كضربته سوطًا أو عصًا، ومنها عدده كضربته ضربتين ومنه قوله: “واجلده في الخمر أربعين جلده”.

 

تنبيه: لعله إنما خص العدد بالإثبات دون النفي لأنك لو قلت مثلاً: ما جلدته أربعين عقَّبته بالإضراب فقلت مثلاً: بل عشرين فصار نيابةُ العدد عن المصدر ملازمةً للإثبات، و”الريب” مواضع التُّهم، وهمزة أربعين في النظم موصولة لإقامة الوزن، و”مقامه”: بضم الميم الأولى.

 

ورُبَّما أُضْمِرَ فِعْلُ المصدرِ *** كقولِهِمْ سَمْعًا وطَوْعًا فاخْبُرِ

ومِثلهُ سَقْيًا ورَعْيًا *** وإنْ تَشأْ جَدْعًا لهُ وكَيًّا

 

أي أن المصدر ينتصب بما سبقه من فعل أو وصف مشتق منه وربما أضمر فعله كقولهم عند الأمر بفعل: سمعًا لك وطوعًا وحبًّا وكرامة أي أسمع لك سمعًا وأطيع طوعًا، وأحبك حبًا، وأكرمك كرامة، وقولهم في الدعاء للإنسان: سَقيًا له ورَعيًا بفتح أولهما أي سقاه الله ورعاه، وفي الدعاء عليه: جدعًا له وكيًّا أي جدع الله أنفه وكواه فهي في الحقيقة منصوبة بأفعال من جنسها لأن المقدر كالمنطوق به وهو معنى قوله: “فاخبر” بضم الباء الموحدة فعل أمر أي فاختبر ذلك، ولكن ذلك يحفظ ولا يقاس عليه إلا في الطلب وهو الدعاء كما مثّل به الناظم، وكذلك الأمر نحو: {فَضَرْبَ الرِّقابِ} [سورة محمد/4].

 

ومِنْهُ قدْ جاءَ الأميرُ رَكْضا [2] *** واشتَمَلَ الصَّمَّاءَ إذْ توضَّا

 

أي ومن المصدر المنصوب بفعل مضمر أيضًا ما جاء من المصادر واقعًا موقع الحال كقولك: جاء الأمير ركضًا أي يركض ركضًا، وأقبل زيد سعيًا أي يسعى سعيًا، فلو قلت: جاء الأمير راكضًا، وأقبل زيد ساعيًا لكان انتصابهما على الحال كما سيأتي.

 

تنبيه: إنما اختار الشيخ تَبَعًا لجماعة انتصاب مثل هذا على المصدر لأن الحال لا يكون إلا وصفًا والجمهور وهو مذهب سيبويه، والأرجح عند ابن مالك وأتباعه أن مثل ذلك منصوب على الحال الواقع بلفظ المصدر، وإنما أُقيمَ مُقام المصدر أيضًا نوعُ المصدر المبيّن لهيئة الفعل إذا كان له هيئاتٌ متعددة كقولك: “اشتمل الصماء” أي الشملة بكسر الشين لمن يستر جميع بدنه بثوب لأن الاشتمال يقع على هيئات كثيرة، والصماء نوع منها، ومثله قولهم: قعد القُرفُصاء لمن احتبى بيديه، ومشى المُطيطاء بتخفيف الطاء لمن يتبخترُ في مِشيته ويرد يديه إلى ورائه، وظاهر كلام الشيخ أنّ “اشتمل الصماء” منصوب بفعل مقدر كجاء الأمير ركضًا وليس كذلك بل هو من أمثلة ما أقيم فيه النوعُ مقام المصدر.

[1] في نسخة: “واجلِدْهُ حدًّا أربعين جلدَه”.

[2] في نسخة: “ومثله جاء الأميرُ ركضًا”.