وكلُّ ما اسْتَثْنَيْتَهُ مِنْ مُوجَبِ *** تَمَّ الكلامُ عندهُ فلْيُنْصَبِ
تقولُ جاءَ القومُ إلا سعدا *** وقامتِ النسوةُ إلا هِندا [1]
أي أن الاسم المستثنى معدود من جملة المفاعيل ولنصبه شروط: أن يكون من كلام موجَب بفتح الجيم أي غير مسبوق بنفي أو شبهه [2]، وأن يكون المستثنى فضلة يتم الكلام بدونه كما مثّل به، فلو استثنيت من كلام غير تام لم يكن للاستثناء أثر بل يكون وجود إلا كعدمها، ويسمى الاستثناء المفرّغ [3] ولا يكون إلا بعد النفي ونحوه كقولك: ما جاء إلا سعد، وما قام إلا هند، وما رأيت إلا زيدًا، وما مررت إلا بعمرو، ولعل الشيخ احترز عنه ولم يتعرض لحكمه لأنه جاز على حسب العوامل.
وإنْ يكُنْ فيما سِوى الإيجابِ *** فأوْلِهِ الإبدالَ في الإعرابِ
تقولُ ما المَفخرُ إلا الكرمُ *** وهَلْ مَحَلُّ الأمنِ إلا الحَرَمُ
أي وإن يكن الاستثناء في غير الموجَب وهو النفي والنهي والاستفهام الذي فيه معنى النفي فأوْلِهِ الإبدال أي أعطه إياه، أي فاجعل المستثنى تابعًا للمستثنى منه في إعرابه بدلاً منه كقولك: ما جاء أحد إلا زيد برفع زيد بدلاً من أحد، وما رأيت أحدًا إلا زيدًا بنصبه، وما مررت بأحد إلا زيد بجره، ومثله لا يقم أحد إلا زيد، وهل قام أحد إلا زيد.
تنبيه: قد فُهم من تقرير قول الناظم: “وإن يكن” أن كان تامة وفاعلها مقدر، وما في قوله: “فيما” زائدة، وأما تمثيل الشيخ ففيه نظر لأنه من قبيل الاستثناء المفرغ لأن قوله: “ما المفخر” مبتدأ، “إلا الكرم” خبره كقوله تعالى: {وما مُحَمَّدٌ إلا رسولٌ} [سورة ءال عمران/144]، وهكذا قوله: “وهل محل الأمن إلا الحرم” وهل محل الأمن: مبتدأ وقوله: “إلا الحرم” خبره فالاستثناء فيهما من كلام غير تام، إذ لو قلت: ما المفخر، وهل محل الأمن، لم يُفد إلا على مذهب يحيى الفراء بتقدير ما يتم به الكلام قبل إلا كأن يقدر وهل محل الأمن مكان إلا الحرم.
تنبيه: ما ذكره من أن إعراب المستثنى في غير الموجب إعراب المستثنى منه بدلاً ليس هو على سبيل الوجوب كما توهم عبارته بل هو الأجود مع أن نصبه مطلقًا كالموجب عربي فصيح وبه قرئ قوله تعالى: {ما فَعلوهُ إلا قليلاً} [سورة النساء].
وإنْ تَقُلْ لا ربَّ إلا الله *** فارْفَعهُ وارفَعْ ما جرى مَجراهُ
أي وإذا استثنيت من اسم لا التي لنفي الجنس المبني على الفتح فارفع المستثنى باعتبار محل اسمها ولا تفتحه باعتبار لفظه فتقول: لا رب إلا الله بالرفع لأنها لا تعمل إلا في النكرة، ومحل اسمها قبل دخولها الرفع، والاستثناء هنا من كلام تام لأن التقدير لا رب لنا إلا الله.
تنبيه: ما ذكره أيضًا إنما هو على إرادة الإبدال وأما على قراءة من قرأ: {ما فعلوهُ إلا قليلاً} بالنصب فيجوز النصب في: لا رب إلا الله وشبهه على الاستثناء.
وانْصِبْ إذا ما قُدّمَ المُستثنى *** تقولُ هلْ إلا العراقَ مَغْنى
أي إن ما ذكر من الإبدال في غير الموجب إنما هو إذا تأخر المستثنى عن المستثنى منه ليصح اتباعه إياه كما سبق، فإن تقدم المستثنى على المستثنى منه تعين نصبه كقولك في النفي: ما جاء إلا زيدًا أحد، وفي النهي: لا يقم إلا زيدًا أحد، وفي الاستفهام: هل إلا العراقَ مغنًى أي محل إقامة، يقال: غَنِيَ بالمكان يَغنى كرضيَ يرضى أي أقام، ومنه: {كأن لمْ يَغْنَوا فيها} [سورة الأعراف/92] والتقدير: هل لنا منزل إلا العراق.
تنبيه: وما ذكره من الإبدال أيضًا إنما هو في الاستثناء المتصل وهو الذي يكون فيه المستثنى من جنس المستثنى منه كالأمثلة السابقة، وأما إذا كان المستثنى من غير جنس المستثنى منه [4] فيتعين نصبه أيضًا كقولك: ما في الدار أحد إلا حمارًا، ولم يتعرض له في النظم.
تنبيه ءاخر: الحاصل مما سبق أن الاستثناء إذا كان عن كلام غير تام فلا أثر له، وإن كان عن كلام تام فهو متصل ومنقطع، فالمنقطع منصوب مطلقًا، والمتصل إن قدم فيه المستثنى على المستثنى منه فهو منصوب أيضًا، وإن تأخر فهو موجب وغير موجب، فالموجب منصوب أيضًا، وغيره يجوز نصبه أيضًا، والأجود إبداله من المستثنى منه مرفوعًا كان أو منصوبًا أو مجرورًا، والناصب للمستثنى ما قبل إلا من فعل ونحوه بواسطة إلا كما نصب المفعول معه بواسطة الواو، وقيل الناصب نفس إلا واختاره ابن مالك.
وإنْ تكُنْ مُستَثنيًا بِما عدا *** أوْ ما خلا أو ليسَ فانْصِبْ أبدا
تقولُ جاؤوا ما عدا محمدَا *** وما خلا عَمْرًا وليسَ أحمدا
أي أن ما سبق من إبدال غير الموجب إنما هو إذا استثنيت بإلا، فإن استثنيت بالثلاثة المذكورة نصبتَ المستثنى أبدًا كما مثّل به، فأما خلا وعدا ومثلهما حاشا فالمنصوب بهما مفعول به وهما فعلان ماضيان غيرُ متصرفين وفاعلهما ضمير مستتر وجوبًا عائد على البعض المفهوم من المستثنى منه أي جاء القوم، وجاوز بعضهم محمدًا، وترك بعضهم عمرًا، وأما ليس فالمنصوب بها خبرها لما سيأتي أنها ترفع الاسم وتنصب الخبر، فاسمها مستتر على ما سبق أي جاء القوم، “وليس” بعضهم “أحمدا” وهي واسمها وخبرها في موضع الحال.
تنبيه: قد سبق للشيخ أن حاشا وخلا من حروف الجر وألحقنا بهما عدا، وذكر هنا أن خلا وعدا وألحقنا بهما حاشا من أدوات الاستثناء، وأن المستثنى بهما منصوب، وذكرنا أنهما حينئذ فعلان وعنده أن حاشا حرف حرف جر أبدًا، وعدا فعل ينصب المستثنى أبدًا، وخلا حرف إن جرَّت، وفعل إن نصبت، والنصب عند الشيخ مشروط باتصالهما بما المصدرية كما أن الجر مشروط بعدم اتصال خلا بما وهذا هو مذهب سيبويه وأكثر البصريين، لكن مذهب الكوفيين ورجحه ابن مالك وأتباعه أن عدا وخلا وحاشا يجوز بهن الجر إذا تجردن عن ما، والنصب إذا اتصلن بما إلا أن حاشا لا تدخل عليها ما فيجوز بها الجر والنصب مطلقًا.
وغيرُ إنْ جِئتَ بها مُسْتَثْنِيَهْ *** جرَّتْ على الإضافةِ المُسْتَولِيَهْ
وراؤُها يُحْكَمُ في إعرابِها *** مثلُ اسمِ إلا حينَ يُستثنى بها
أي ومن أدوات الاستثناء غير، والمستثنى بها مجرور لما سبق أنها ملازمة للإضافة وهي معنى قوله: “جرت” بفتح الجيم وتشديد الراء على الإضافة “المستوليه” أي الغالبة عليها، وحكم رائها أنها تعرب بما يستحقه الاسم الواقع بعد إلا من النصب في جميع الأحوال السابقة، لكنه هنا على الحال ومن الإبدال حيث كان الاستثناء متصلاً عن كلام تام غير موجب ولم يقدم فيه المستثنى على المستثنى منه فتقول: جاء القوم غيرَ سعد، وهل غيرَ العراق مغنى، بنصب غير فيهما، وكذا: ما جاء أحد غيرَ حمار، في المنقطع بالنصب، بخلاف: ما جاء أحد غير زيد فيجوز نصبه والرفع على الإبدال أرجح، وقوله: “مثل اسم إلا” منصوب نعتُ مصدر محذوف أي حكمًا مثل حكم اسم إلا.
تنبيه: الحاصل أن الاستثناء يكون إما بحرف وهو إلا وفي المستثنى بها التفصيل السابق، وإما بفعل وهو خلا وعدا وكذا حاشا وليس والمستثنى بها منصوب، وإما باسم وهو غير والمستثنى بها مجرور ولم يذكر سواءٌ منها لأنها عند سيبويه ليست منها إلا في الشعر.
[1] في نسخة: “دعدا”.
[2] هو النهي والاستفهام.
[3] سمي مفرغًا لأن ما قبل “إلا” تفرغ لطلب ما بعدها ولم يشتغل عنه بالعمل فيما يقتضيه.
[4] أي منقطعًا فينصب في حال النفي والإيجاب.