بابٌ فِيه (ذِكْرُ كِفايةِ اللهِ) نَبِيَّهَ ﷺ أذَى (المُستَهزِئِينَ)
مِن كُفّارِ مَكّةَ
152- |
وَقَدْ
كَـفَـى الْمُسْتَهْزِئِينَ البُعَدَا |
|
اللهُ رَبُّـنَـا فَـبَـاؤُوا
بالرَّدَى |
153- |
فَـعَـمِـيَ
الأَسْــوَدُ ثُـمَّ الأَسْــوَدُ |
|
الآخَـرُ اسْـتَسْـقَـى فَأَرْدَتْهُ
اليَدُ |
(وَقَدْ كَفَى)
اللهُ عزّ وجلّ نَبِيَّهُ ﷺ أذَى أعدائِهِ (الْمُسْتَهْزِئِينَ) بِه السَّاخِرِينَ منه بمكّة
ورَؤُوسُهُم ثمانِيَةٌ، وهم (البُعَدَا)ءُ مِن رحمةِ اللهِ الخاصّةِ، فحَفِظَ (اللهُ رَبُّنَا)
نَبِيَّهُ مِن أولئكَ المستَهزِئِينَ وأنزَل عليه: ﱡﱕ ﱖ ﱗﱠ ، فأخزَى
اللهُ عزّ وجلّ الكُفّارَ المستَهزِئِينَ([1])
بِنَبِيِّهِ السَّاخِرِينَ مِنهُ (فَبَاؤُوا)
أي رَجَعُوا وانْقَلَبوا (بالرَّدَى) أي بالهَلاك بِضُروب مِن
البَلاء.
روَى
البُخاريُّ في «صحِيحِه» عن ابنِ مسعودٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُصَلِّي عِندَ
البَيتِ، وأبُو جَهلٍ وأصحابٌ له جُلُوسٌ إذ قالَ بَعضُهم لِبَعضٍ: أَيُّكُم يَجِيءُ
بِسَلَى جَزُورِ([2])
بَنِي فُلانٍ فيَضَعُه على ظَهْرِ مُحمَّدٍ إذا سَجَد؟ فانْبَعَث أشْقَى القَومِ([3])
فجاء به فنَظَرَ حتَّى سجَدَ النَّبِيُّ ﷺ وضَعَهُ على ظَهْرِه بَينَ كَتِفَيهِ
وأنا أنظُر لا أُغْنِي شَيئًا لو كانَ لِي مَنَعةٌ([4])،
قال: فجَعَلُوا يَضْحَكُونَ ويُحِيلُ بَعضُهم على بَعضٍ([5])
ورَسولُ الله ﷺ ساجِدٌ لا يَرفَعُ رأسَه، حتَّى جاءَتْهُ فاطِمةُ فطَرَحَتْ عَن ظَهْرِه
فرَفَعَ رَسولُ الله ﷺ رأسَه ثمّ قالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلاثَ
مَرَّاتٍ، فشَقَّ علَيهِم إذْ دَعا علَيهِم، قال: وكانُوا يَرَونَ أنَّ الدَّعْوةَ
في ذلكَ البَلَدِ مُستَجابةٌ، ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي
جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ،
وَالوَلِيدِ ابْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي
مُعَيْطٍ».
وأهلَكَ اللهُ تعالَى المُستهزِئينَ بالنّبيّ ﷺ (فَعَمِيَ
الأَسْوَدُ) بنُ المطَّلِب
بنِ الحارِث بعدَ أنْ دَعا علَيه رسولُ الله ﷺ بالعَمَى، وذلكَ أنّ جبريلَ عليه
السّلامُ أتَى النَّبِيَّ ﷺ وهو يَطُوفُ بالبَيتِ فقامَ وأقامَ رَسولُ اللهِ إلى جَنْبِه،
فلَمَّا مَرَّ به الأسوَدُ بنُ المُطَّلِب رَمَى جبريلُ في وَجْهِه ورَقةً خَضراءَ
فعَمِيَ([6]).
154- |
كَـذَا
أَشَـارَ لِلْوَلِـيـدِ فَانْتَقَـضْ |
|
الجُرْحُ وَالعَاصِـيْ كَذَاكَ
فَعَرَضْ |
155- |
لِرِجْلِهِ
الشَّـوْكَةُ حَـتَّـى أُرْهِـقَـا |
|
وَالحَارِثُ اجْـتِـيـحَ بِقَـيْـحٍ
بَزَقَا |
(ثُمَّ) هَلَكَ (الأَسْوَدُ الآخَرُ) وَهُو ابنُ عَبدِ يَغُوثَ بنِ وَهبٍ الزُّهرِيُّ ابنُ خالِ
النَّبِيّ وذلك أنّه (اسْتَسْقَى) أي أصابَهُ مَرضُ الاستِسقاءِ، وفي الخبَرِ
أنَّ الأسودَ مَرَّ بالنَّبِيِّ ﷺ وكان جِبريلُ عِندَه، فقال جبريلُ: قد كُفِيْتَه،
وأشارَ إلى بَطْنِ الأسوَدِ بإِصْبِعِه فاستَسْقَى الأسوَد في الحالِ([7]).
والاستِسقاءُ في البَطن هو انتِفاخٌ فيه بِسَبَب اجتماع ماءٍ أصفَرَ داخِلَه حتَّى
تبرُزَ السُّرَّة وتُسمَع خَضْخَضةُ الماء داخِل الْمُصابِ به إذا تَحَرَّك (فَأَرْدَتْهُ اليَدُ)
أي أَهْلَكَتْ يَدُ جِبريلَ علَيه السَّلامُ الأَسْوَدَ بنَ عَبدِ يَغُوثَ.
(كَذَا أَشَارَ)
جِبريلُ علَيه السَّلامُ (لِلْوَلِيدِ) أي لِساقِ الوليدِ بنِ المغِيرةِ وكان قد
أصابتهُ
شَظِيّةُ
نَبْلٍ فمَنَعه الكِبْرُ والتِّيهُ أنْ يَنْزِعَها في الحالِ فترَكَها (فَانْتَقَضَ) عليه (الجُرْحُ) بإشارةِ يَدِ جِبريلَ عليه السَّلامُ([8])
وتَأَلَّم الوَلِيدُ منهُ حتّى ماتَ.
(وَالعَاصِي)
بنُ وائلٍ السَّهْمِيُّ (كَذَاكَ) قد هلَكَ حِينَ أشارَ جِبريلُ علَيه السَّلامُ
إلى أَخْمَصَيْهِ، فخَرَج العاصِ على راحِلَتِه ونَزَلَ في شِعْبٍ مِن شعِاب مكّة (فَعَرَضَ لِرِجْلِهِ الشَّوْكَةُ)
فدخَلَتْ في أَخْمَصِه فصارَت رِجلُه كَعُنُق البَعِير (حَتَّى أُرْهِقَا) أي لَحِقَه الموتُ وغَشِيَه الهَلاكُ
بِسَبب ذَلِك، وفي بعضِ النُّسَخِ: «أُزْهِقَا» بمعنَى هلَكَ.
(وَالحَارِثُ)
بنُ العَيطَلَةِ بالعَين المُهمَلة أو الغَيطَلةِ بالغَين المُعجَمة السَّهْمِيُّ
أَوْمَأَ جِبريلُ علَيه السَّلامُ إِلَيهِ فـ(ـاجْتِيحَ) أي أَصابَتْهُ جَائِحَةٌ وهي الشِدَّةُ
فابتُلِي (بِقَيْحٍ)
يَمْخُطُه مِن أَنْفِه فـ(بَزَقَا) قَيْحًا حتَّى ماتَ.
156- |
وَعُـقْـبَـةٌ
فِـي يَـوْمِ بَـدْرٍ قُـتِـلَا |
|
أَبُـو لَـهَـبْ بَـاءَ سَـرِيعًا
بِالبَـلَا |
157- |
ثَامِـنُهُمْ
أَسْـلَـمَ وَهْـوَ الحَـكَـمُ |
|
فَـقَـدْ كَـفَـاهُ شَــرَّهُ إِذْ
يُسْــلِمُ |
(وَعُقْبَة)
بنُ أَبِي مُعَيْطٍ (فِي يَوْمِ بَدْرٍ قُتِلَا) كافِرًا شَرَّ قِتْلة، وهو
أحَدُ السَّبعة الذين دعَا عليهم رسول الله ﷺ حين تضاحَكُوا يومَ وَضَعَ عُقبةُ
سَلَى الجَزُور على ظَهْرِ النَّبِيّ ﷺ وهو ساجِدٌ عِند الكَعبة، وقد مَرَّ ذِكرُ
القِصّةِ قَرِيبًا.
وكذا (أَبُو
لَهَب) عبدُ
العُزَّى بنُ عبدِ المُطَّلِب عَمُّ النّبِيّ ﷺ وأحدُ أشَدِّ النّاس عَداوةً لَهُ
قَدْ (بَاءَ) أي
رَجَع قَتِيلًا (سَرِيعًا) أي بِسُرعةٍ (بِـ)ـسبَبِ (البَلَا)ءِ القَوِيّ الّذي حَلَّ علَيهِ، فقَد ابتَلاهُ اللهُ
بالعَدَسَة – وهي بَثْرةٌ تُشْبِهُ العَدَسة تَخرُج في موضع مِن الجسَدِ تَقتُل
صاحِبَها غالِبًا – وذلك بَعد وَقْعة بَدرٍ بِسَبعِ ليالٍ فماتَ، وترَكَهُ ابْناهُ
في بَيتِه ثلاثًا ما يَدْفِنانِه حتَّى أنْتَن، وكانت قُرَيشٌ تَتَّقِي العَدَسةَ
كما تَتَّقِي الطّاعونَ، حتّى قال لَهُما رَجُلٌ مِن قُرَيشٍ: وَيْحَكُما ألا تَسْتَحِيَانِ؟!
إنَّ أباكُمَا قَدْ أَنْتَنَ في بَيْتِه لا تَدْفِنانِه، فَقالا: إِنَّما نَخْشَى
عَدْوَى هذه القَرْحةِ، فقال: انْطَلِقا فأَنا أُعِينُكُما علَيهِ، فما غَسَلُوه
إلّا قَذْفًا بالمَاءِ علَيهِ مِن بَعِيدٍ ما يَدْنُونَ مِنهُ، ثُمَّ حمَلُوه إلى
أعلَى مَكّةَ فأَسْنَدُوهُ إلى جِدارٍ ثُمّ وَضَعُوا علَيهِ الحِجارةَ([9]).
أمّا
(ثَامِنُهُمْ) أي رؤُوسِ
المشرِكِين الَّذِين كانُوا يُؤْذُونَ رسولَ الله ﷺ فقَد (أَسْلَمَ) يوم الفَتْح (وَهْوَ الحَكَمُ) بنُ أَبِي العاصِ (فَقَدْ) كُفِيَ رَسُولُ اللهِ شَرَّه أي (كَفَاهُ)
اللهُ تعالَى (شَرَّهُ إِذْ يُسْلِمُ) أي حيثُ أسلَمَ الحَكَمُ بنُ
أَبِي العاصِ، وهو والدُ مَروانَ بنِ الحكَمِ وعَمُّ الخليفةِ الرّاشِدِ عُثمانَ
بنِ عَفّانَ رضي الله عنه.
وكانَ
الحكَمُ قبل إسلامِه يُحاكِي مِشْيةَ النّبيّ ﷺ استِهزاءً به والعياذُ باللهِ،
فلَمّا رءاهُ النّبيُّ ﷺ قال: «كُنْ كذلكَ»، فرُفِعَ الحكَمُ إلى أهلِه صرِيعًا
وقد مكثَ على تِلكَ الحالِ شهرَين ثُمّ أفاقَ يختَلِجُ ويرتَعِشُ وبقي على تِلكَ
الحالِ إلى أنْ ماتَ([10]).
وقد
رَوَى الحاكِمُ في «المُستدرَك» أنّ الحكَمَ قبل إسلامِه استَأْذنَ علَى النَّبِيّ
ﷺ فعَرَف النَّبِيُّ ﷺ صَوتَه وكَلامَه فقالَ: «ائْذَنُوا لَهُ عَلَيْهِ
لَعْنَةُ اللهِ وَعَلَى مَنْ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ إِلَّا الْمُؤْمِنُ مِنْهُمْ
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، يُشْرِفُونَ فِي الدُّنْيَا وَيَضَعُونَ فِي الْآخِرَةِ،
ذَوُو مَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ،
يُعْطَونَ
فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ».
وقال
البلاذُريّ([11]):
إنّ الحَكمَ كان مَغمُوصًا عليهِ في دِينِه أي مُتَّهَمًا، وقد ورَدَ أنّه
اطَّلَعَ يومًا على رسولِ الله ﷺ وهو في بعضِ حُجَرِ نِسائِهِ فخرَجَ إليهِ
النّبيُّ ﷺ بعَنَزةٍ([12]).
وتَتبَّعهُ الحاكِمُ بقَولِه([13]):
“هذا حديثٌ صَحِيحُ الإِسنادِ ولَم يُخَرِّجاهُ، ولْيَعْلَم طالِبُ العِلم أنّ
هذا بابٌ لَم أذكُرْ فيه ثُلُث ما رُوِي، وأنَّ أوَّلَ الفِتَنَ في هذه الأُمّة فِتْنَتُهم،
ولَم يَسَعْنِي فيما بَيْنِي وبينَ اللهِ أنْ أُخَلِّي الكِتابَ مِن ذِكْرِهِم”.
([1])
ومِنهم
مَن هُم في عصرنا هذا كالدكتور يوسف القرضاوي المصري الذي قال في قناة الجزيرة
القطرية في برنامج يُسَمّى «الشريعة والحياة» مع المذيع ماهر عبد الله في عام 2002
م: “إنّ محمدًا يجتهد في الدين ويخطئ”، ومن المستهزئِين أيضًا عمرو خالد
المصري الذي قال: إنّ دعوة النَّبِيّ ليست مثالية بل هي فاشلة”، ومثلهما
الوهابي محمد العرِيفي السعودي الذي قال: إنّ النَّبِيّ كان يبيع أو يهدي الخمرَ”،
ومنهم أيضًا رجب ديب الدمشقي الذي قال عن
النَّبِيّ: “شحّاد دندبُوري” وهي عبار باللهجة العاميّة لبلاد
الشام تدل على الاستخفاف والاستِهزاء، ويدخل
فيهم أيضًا قول بعض مشايخ الوهابية: “محمد لا ينفع أو هو جيفة أو هو
طارِش” وهي باللّهجة البدوية في ناحية الدِّرْعية تعني أنّه كساعي البريد
الّذي يُوصِل للنّاس رسالةً ولا يَنفَعُهم في غير هذا.
([5]) أي يَنسُبُ بَعضُهم فِعلَ ذلكَ إلى بَعضٍ
بالإشارةِ تهَكُّمًا، وعِندَ مُسلِمٍ: «وَيَمِيلُ» أي مِن كَثرةِ الضَّحِك.