الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فِيه (ذِكرُ) صِفةِ (فِراشِه) الّذي كانَ يَنامُ علَيهِ (ﷺ)

400-        

الطِّـيْـبُ وَالنِّسَـاءُ حُـبِّـبَـا لَـهُ


 

وَيَكْـرَهُ الرِّيـحَ الكَـرِيْهَ كُـلَّـهُ


401-        

وَطِـيْـبُـهُ غَـالِـيَـةٌ وَمِـسْــكُ


 

وَالْمِسْـكُ وَحْدَهُ كَذَاكَ السُّـكُّ


 






ومِن دُنْيانا (الطِّيْبُ وَالنِّسَاءُ) قد (حُبِّبَا لَهُ) ﷺ أي جُعِلَ فيه المَيلُ الطبيعيُّ لذلك مِن دُونِ تتبُّعٍ له لهوًى أو مَقصِدٍ لا خيرَ لهِ، فإنّ تعديدهَ ﷺ الزّوجاتِ كان لمَقاصدَ صحيحةٍ كثيرةٍ، مِنها نشرُ الإسلامِ عن طريقِ النِّساءِ، فإنّ زوجاتِه رضيَ الله عنهُنَّ كُنَّ يُعَلِّمْنَ النِّساءَ الدّينَ وهو أرجَى لنَشرِ الدّعوةِ إلى الله بينَ النِّساءِ، حتّى إنّهُنَ رضي الله عنهُنَّ نَشرنَ العِلمَ بينَ الرِّجالِ إذْ كُنَّ يُستَفتَينَ فِيما سَمِعْنَهُ مِن رسولِ الله ﷺ.

وتعديدُه ﷺ النِّكاحَ إلى هذا الحَدِّ الّذي أباحَهُ له رَبُّه عزَّ وجَلَّ يَدُلُّ على قُوّةِ الرسولِ البدنيّةِ، ولَم يَكُن ﷺ مُتتبِّعًا للشَّهَواتِ، حاشاه.

أمّا الطِّيبُ فهو ﷺ أطيَبُ رائحةً مِن الطِّيبِ الّذي يَتطيَّبُ بهِ النّاسُ، وقَد سبَقَ الكلامُ على ذلكَ فِيما قَبلُ، ومع ذلكَ فإنّه ﷺ كان يتطيَّبُ لِما في ذلكَ مِن نَفعٍ للقلبِ والدِّماغِ وغيرِ ذلكَ، وكان يُعلِّمُ أصحابَه ذلكَ لِما فيه مِن المنافِع الطّبّيّة وكَمالِ النّظافةِ المطلوبةِ مِن المؤمِن عند حضورِ الجماعاتِ والجُمعةِ ونحوِها مِن مَجالِس الخيرِ الّتي يَجتمِعُ النّاس فيها فيكونُ ذلكَ أبعدَ للرّائحةِ المؤذيةِ.

والمذكورُ هُنا في النَّظم هو اقتباسٌ مِن حديثِ أنسٍ رضي الله عنه عن النّبِيّ ﷺ قالَ: «إِنَّمَا حُبِّبَ إِلِيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»، وقد رواهُ الحاكم في «المُستدرَك» بإسقاطِ «مِنْ دُنْيَاكُمُ». وفي رِوايةٍ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا» وهي مِن طريقٍ عندَ الحاكِم وعند النَّسائيّ وأحمدَ وأبي يعلَى. فإنْ قيل: كيفَ يستقيمُ قولُ «الدُّنْيا» معَ ذِكرِ الصّلاةِ بعدَها والصّلاةُ عمَلٌ للآخِرة؟ فالجوابُ كما قالَ الكلاباذيّ الحنَفيّ([1]): “فكأنّه قالَ «حُبِّبَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا» أي مُدّةَ كَونِي فيها هذه الأشياءُ الثلاثةُ، فتكونُ هذه الأشياءُ في الدُّنيا لا مِن الدُّنيا وإنْ كانتْ فيها”.

قال العَجْلونيُّ في «كَشف الخَفاء»([2]): قال الحافظُ ابنُ حجَرٍ في «تخريجِ أحاديثِ الرّافعِيّ» تبعًا لأصلِه، والولِيُّ ابنُ العِراقيّ في «أمالِيّه»: “إنّ لَفظَ «ثَلَاث» لم يقَع في شىء مِن طُرُقه بل هي مُفسِدةٌ للمعنَى”.

وذهبَ بعضُهم إلى تكلُّف تأويلِ لَفظِ “ثلاثِ” المشتهرةِ على ألسِنة العامّة – كما قال العجلونيّ([3]) – ورَدَّ المحدِّثُ الفَتَّنِي([4]) ذلكَ بقولِه([5]): “وهذه الزِّيادةُ “ثلاث” تُفسِدُ المعنَى، وتَكلَّفوا للجواب عنها بما لا يُساوِي ذِكرَه”.

وسمعتُ شيخَنا الحافظَ الهرري رضي الله عنه يقول: “إنّ الرّسولَ ﷺ لا يُدخِلُ الصلاةَ في أمورِ الدُّنيا، وهذه اللَّفظةُ «ثَلاثٌ» لم تَثبُت عن رسولِ الله ﷺ”.

(وَ)كانَ رسولُ الله ﷺ (يَكْرَهُ الرِّيحَ الكَرِيْهَ) أي الخبيثَ غيرَ المُستطابِ (كُلَّهُ) مطعومًا كان أو غيرَه.

روَى مُسلِمٌ وابنُ حِبّان في «الصحيح» وغيرُهما عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه قالَ: لَمْ نَعْدُ أَنْ فُتِحَتْ خَيْبَرُ فَوَقَعْنا أَصْحابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي تِلْكَ البَقْلَةِ الثُّومِ والنّاسُ جِياعٌ، فَأَكَلْنا مِنْها أَكْلًا شَدِيدًا، ثُمَّ رُحْنا إِلَى المَسْجِدِ فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الرِّيحَ فَقالَ: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الخَبِيثَةِ شَيْئًا فَلا يَقْرَبَنّا فِي المَسْجِدِ»، فَقالَ النّاسُ: حُرِّمَتْ حُرِّمَتْ، فَبَلَغَ ذاكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: «أَيُّها النّاسُ إِنَّهُ لَيْسَ بِي تَحْرِيمُ ما أَحَلَّ اللهُ لِي، وَلَكِنَّها شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَها».

وأمّا ما رواهُ أحمدُ في «مُسنَدِه» وأبو داودَ في «السُّنَن» عن خِيارِ بنِ سلَمة أنّه سألَ عائشةَ رضي الله عنها عن البصَلِ فقالتْ: «إِنَّ ءَاخِرَ طَعامٍ أَكَلَهُ رَسُولُ اللهِ طَعامٌ فِيهِ بَصَلٌ» فقد ذهبَ عدَدٌ مِن الشُّرّاحِ إلى القولِ بأنّ البصَل المُرادَ هو المطبوخُ الّذي أُمِيتَتْ

رائحتُه الخبيثةُ، كذا ذكرَهُ الطِّيبيُّ([6]).

(وَطِيْبُهُ) الّذي كانَ يَتطيَّب به ﷺ هو (غَالِيَةٌ وَمِسْكٌ) معًا، والغاليةُ مُركَّبٌ مِن مِسكٍ وعَنبرٍ وكافُورٍ وقَد يكونُ معَهُ عُودٌ، يُخلَطُ الكُلُّ بماءِ الوَردِ ثُم يُسَكُّ على حَجرٍ، ويُقال: إنَّ أوَّلَ مَن سَمّاه بذلك سليمانُ بنُ عبدِ المَلِك، وقيل: إنّ عبدَ الله بن جعفرٍ أهدَى لمُعاويةَ قارُورةً مِن الغالِية فسأله: كم أنفَقَ عليها؟ فذكر مالًا، فقال: هذه غالِيةٌ([7]).

(وَالْمِسْكُ) كانَ أيضًا طيبَه (وَحْدَهُ)(كَذَاكَ) كانَ ﷺ يتطيّب بالطِّيب المعروفِ وهو (السُّكُّ) وهو طِيبٌ يُتخَذُ مِن الرّامِك([8]) مَدقوقًا مَنخولًا مَعجونًا بالماءِ، ويُعرَك شديدًا ويُمسَحُ بِدُهنِ الخِيرِيِّ([9]) لئَلّا يَلصَقَ بالإناءِ، ويُترَكُ ليلةً، ثمّ يُسحَقُ المِسكُ ويُلقَمُه ويُعرَكُ شديدًا ويُقرَصُ ويُترَك يومَين ثمّ يُثقَب بمِسَلّةٍ ويُنظَم في خَيطِ قِنَّبٍ([10]) ويُترَك سَنَةً، وكُلَّما عَتُقَ طابَتْ رائِحتُه([11]).

402-        

بَخُورُهُ الكَـافُورُ وَالعُـوْدُ النَّـدِيْ


 

وَعَيْـنَـهُ يَكْـحُـلُـهَا بِالإِثْـمِـدِ


403-        

ثَـلَاثَـةً فِـي العَـيْـنِ لِلْإِيـتَـارِ


 

وَرُوِيَ اثْـنَـتَـيْـنِ فِـي اليَـسَـارِ


وأ





مّا (بَخُورُهُ) ﷺ فهو (الكَافُورُ وَ)قد طُرِحَ فيهِ (العُوْدُ النَّدِيْ) وهو عُودٌ طيِّبُ الرّائحةِ ينبُت في بلادِ الهندِ.

رَوَى مُسلِمٌ في «صحيحِه» والنّسائيُّ في «السُّنَن» عن نافِعٍ أنّ ابنَ عُمَرَ رضي الله عنهُما كانَ إِذَا استَجمَرَ([12]) استَجمَرَ بِالأَلُوَّةِ([13]) غَيرَ مُطَرَّاةٍ([14]) وَبِكَافُورٍ يَطرَحُهُ مَعَ الأَلُوَّةِ ثُمَّ قَالَ: «هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللهِ ﷺ».

 (وَ)أمّا (عَيْنُهُ) أي عيناهُ الشّريفتانِ فكانَ ﷺ (يَكْحُلُهَا) مِن مُكحُلةٍ له قبل أن يَنامَ (بِالإِثْمِدِ) وهو معروفٌ (ثَلَاثَةً) مِن المَرّاتِ (فِي العَيْنِ) أي كُلِّ عَينٍ (لِلْإِيتَارِ) أي ليكونَ العددُ وِترًا لِكُلِّ عَينٍ، (وَ)فُسِّرَ الإيتارُ([15]) بِما (رُوِيَ) أنّه ﷺ اكتحَلَ في العَينِ اليَمِينِ ثلاثةً و(اثْنَتَيْنِ فِي) العَينِ (اليَسَارِ) الشّريفةِ.

روَى ابنُ ماجهْ وأبو داودَ في «السُّنَن» عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ النَّبِيّ ﷺ قالَ: «مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لا فَلا حَرَجَ».

ورَوَى التّرمذيُّ في «السُّنَن» عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهُما قالَ: قال رسولُ الله ﷺ: «إنَّ خَيرَ مَا تَدَاوَيتُم بِهِ اللَّدُودُ([16]) وَالسَّعُوطُ([17]) وَالحِجَامَةُ وَالمَشِيُّ، وَخَيرُ مَا اكتَحَلتُم بِهِ الإثمِدُ فَإنَّهُ يَجلُو البَصَرَ وَيُنبِتُ الشَّعرَ([18])»، وَكَانَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ مُكحُلَةٌ يَكتَحِلُ بِهَا

عِندَ النَّومِ ثَلاَثًا فِي كُلِّ عَينٍ.



([1])  بحر الفوائد المشهور بمعاني الأخبار، أبو بكر الكلاباذي، (ص/25).

([2])  كشف الخَفاء ومزيل الإلباس، أبو الفداء العجلوني، (1/392).

([3])  المصدر السّابِق، (1/391).

([4])  بفتح الفاء وتشديد التّاء المفتوحةِ مِن بلاد الگجرات شمال غرب الهند.

([5])  محمد طاهر الفَتَّنِي، تذكرة الموضوعات، (ص/124).

([6])  فُتوح الغَيب في الكَشف عن قناع الرَّيب، شرف الدين الطِّيبِيّ، (9/2586).

([7])  النّظم المُستعذَب، ابن أبي الرّكب، (1/257).

([8])  شَىءٌ أسوَدُ يُخلَط بالطِّيبِ، هو أصلُ السُّكِّ الذي لا يُعمَلُ إلّا مِنه، قاله النُّويريّ «نِهاية الأرَب في فُنون الأدَب» (12/70).

([9])  بكسر الخاء وتشديد الياء نوعٌ مِن الأزهار، وقيل: هو دُهن الخَطْمِيّ.

([10])  بكَسرٍ فُنُونٍ مُشدَّدَةٍ، نوعٌ مِن النّباتِ.

([11])  تاج العَروس مِن جَواهِر القامُوس، محمد مرتضى الزَّبِيدي، (27/200).

([12])  استِعمالُ الطِّيب والتَّبخُّر به.

([13])  العُودُ يُتبخَّرُ به.

([14])  أي غيرَ مَخلوطةٍ بِغَيرِها مِن الطِّيب.

([15])  سِفر السّعادة، مجد الدّين الفيروزءابادي، (ص/261).

([16])  مِن الأدوِيةِ الّتي يُسقاها المرِيضُ في أحَدِ شِقَّيِ الفَمِ.

([17])  ما يُجعَل مِن الدَّواءِ في الأنفِ.

([18])  أي شعَر الأهدابِ النّابتةِ على الأجفانِ.