الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فِيه (ذِكرُ صِفةِ خاتَمِه ﷺ) وخبَرِ نَقْشِ ذلكَ الخاتَمِ

400-        

خَـاتَـمُـهُ مِـنْ فِضَّـةٍ وَفَصُّـهُ


 

مِـنْـهُ وَنَقْشُـهُ عَـلَـيْـهِ نَصُّـهُ


401-        

“مُحمَّدٌ” سَـطْـرٌ “رَسُـولُ” سَـطْـرُ


 

“اللهُ” سَـطْـرٌ لَيْسَ فِـيـهِ كُـبْـرُ


402-        

وَفَـصُّـهُ لِبَاطِـنٍ يَـخْـتِـمُ بِـهْ

 

وَقَـالَ لَا يُنْقَـشْ عَلَيْهِ يَشْـتَبِهْ


 
















وكان (خَاتِمُهُ) ﷺ – بفَتحِ التّاءِ وكسرِها – مَصُوغًا (مِنْ فِضَّةٍ وَ) كانَ (فَصُّهُ) أي فَصُّ الخاتِم – بتثليثِ الفاءِ والفتحُ أفصَحُ – مصوغًا (مِنْهُ) أي مِن فِضّةٍ أيضًا لكوَنِه جُزءُا مِن الخاتَم، وكان له ﷺ خاتمٌ بفَصٍّ مِن غيرِ الفِضّةِ كما يأتِي.

(وَ)كان (نَقْشُهُ) أي مَنقوشُ فَصِّ الخاتمِ ظاهِرًا (عَلَيْهِ) و(نَصُّهُ) ثلاثةُ أسطُرٍ فـ(مُحمَّدٌ سَطْرٌ) أي كُتِبَ فيهِ وَحدَه و(رَسُولُ) مكتوبٌ (سَطْرُ) أي فيهِ وحدَهُ أيضًا، ولفظُ الجلالةِ (اَللهُ) بقطعِ الهمزةِ للوَزنِ وحدَهُ (سَطْرٌ) أي مكتوبٌ فيهِ.

ولَم يَكُن لخاتمهِ ﷺ نَقشٌ في أوّل الأمر، فقد رَوَى الشّيخانِ وبعضُ أصحابِ السُّنَنِ وابنُ سَعدٍ في «الطَّبقات» – واللَّفظُ له – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا رَجَعَ مِنَ الحُدَيبِيَةِ فِي ذِي الحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ أَرسَلَ الرُّسُلَ إِلَى المُلُوكِ يَدعُوهُم إِلَى الإِسلامِ وَكَتَبَ إِلَيهِم كُتُبًا، فَقِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ المُلُوكَ لا يَقرَؤُونَ كِتابًا إِلّا مَختُومًا، فاتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَومَئِذٍ خاتَمًا مِن فِضَّةٍ، فَصُّهُ مِنهُ نَقشُهُ ثَلاثَةَ أَسطُرٍ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَتَمَ بِهِ الكُتُبَ.

وروَى البُخاريُّ والتّرمذيّ وغيرِهما عن أنسٍ رضي الله «أنَّ أبا بَكرٍ رضي الله عنه لَمّا استُخْلِفَ بَعَثَهُ إلى البَحرَين وكَتَب له هذا الكِتابَ وخَتَمه بخاتَمِ النَّبِيّ ﷺ وَكَانَ نَقْشُ الخَاتَمِ ثَلاَثَةَ أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ سَطْرٌ».

هذا الّذي ثَبَتَ أنه كان في نَقْشِ خاتِمِه ﷺ، لكن أخرَجَ أبو الشَّيخ بنُ حَيّانَ في «أخلاق النَّبِيّ ﷺ» مِن روايةِ عَرْعرةَ بنِ البِرِنْدِ([1]) عن عَزْرةَ([2]) بنِ ثابِتٍ عن ثُمامةَ عَن أنَسٍ قال: «كانَ فَصُّ خاتَمِ رسولِ الله ﷺ حَبَشِيًّا مَكتُوبًا علَيهِ: لا إله إلا اللهُ محمَّدٌ رسولُ اللهِ»، وعَرعَرةُ ضَعَّفهُ ابنُ المَدِينيِّ([3]) فزِيادتُه شاذّةٌ([4]).

وظاهرُ الحديثِ الثّابِت الّذي رُوِي ءانِفًا – كما قال الحافظُ العسقلانيّ – أنّ نَقْشَهُ لَم يكُن على السِّياقِ العادِيّ، فإنّ ضَرورةَ الاحتِياجِ إلى أنْ يُختَمَ به يَقتَضِي أن تَكونَ الأحرُفُ المنقوشةُ مَقلوبةً ليَخرُجَ الخَتمُ مُستوِيًا([5]).

واختلَفَ المحدّثونَ وأهلُ السِّيَرِ في كيفيّة ترتيبِ أسطُرِ المنقوشاتِ التّي في خاتَم النّبيّ ﷺ، فذهبَ بعضُهم إلى أنّ كِتابتَها كانتْ مِن أسفلَ إلى أعلَى أي لفظُ الجلالةِ أعلَى النَّقشِ ثُمّ تحتَه لفظُ “رسولُ” ثمّ “محمّدٌ”، فقالَ الإسنويّ:  “وفي حِفْظِي أنّه كان يُقرأُ مِن أسفَلَ فصاعِدًا ليكونَ اسمُ اللهِ فوقَ الجمِيع”([6]).

قال الحافظ العسقلانيّ في «التّلخِيص الحَبِير»([7]): “قيل: كانَتِ الأسطُرُ مِن أسفَلَ إلى فَوقُ ليَكونَ اسمُ اللهِ أعلَى، وقيل: كانَ النَّقشُ معكوسًا ليُقرأَ مُستقِيمًا إذا خُتِمَ بِه، وكِلَا الأمرَينِ لَم يَرِدْ في خبَرٍ صَحِيحٍ”.

وذهَب غيرُهم إلى التّمسُّك بروايةِ الإسماعيليّ لحديثِ البُخاريّ وفيها: «محمَّدٌ سَطْرٌ، والسَّطْرُ الثَّانِي رَسُولُ، وَالسَّطْرُ الثَّالِثُ اللهِ»، وكذلك جاء عندَ الدّارقُطنيِّ في «الأفرادِ» من طريقِ سلَمة بنِ وَهْرامَ عن عِكرمةَ عن يَعلى بن أُمَيّةَ رضي الله عنه قال: “أنَا صَنَعتُ للنَّبِيّ ﷺ خاتَمًا لَمْ يَشْرَكْنِي فيهِ أحَدٌ نُقِشَ فِيهِ مُحَمَّدٌ رسولُ اللهِ” لكن ضعَّف الأثرَ الحافظ في «الفتح»([8]).

وقَد نَهى رسولُ الله ﷺ عَن أنْ يَنقُشَ أحَدٌ في خاتَمِه مِثلَ نَقْشِ خاتَمِه ﷺ، رَوَى الشَّيخانِ عن أنسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: «إنِّي اتَّخَذْتُ خاتَمًا مِنْ وَرِقٍ وَنَقَشْتُ فِيهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَلا يَنْقُشَنَّ أَحَدٌ عَلَى نَقْشِهِ» أي نَقْشًا كائنًا على نَقْشِ خاتِمي ومُماثِلًا له.

و(لَيْسَ فِيهِ) أي لَم يَكُن في خَاتَمِه ﷺ (كُبْرُ) بضَمِّ الكافِ أي كُبرُ حَجمٍ أو ثِقَل وَزنٍ فوقَ ما هو مُعتادٌ، فهو ﷺ أورَعُ النّاسِ وأبعدَهُم مِن السَّرَفِ. وجاءَ في حديثٍ رواهُ أبو داودَ والتّرمذيُّ والنَّسائيُّ في «السُّنَن» أنّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، مِنْ أَيِّ شَىءٍ أَتَّخِذُهُ؟ قال: «مِنْ وَرِقٍ([9]) وَلا تُتِمَّهُ مِثْقالًا» وسنَدُه حسَنٌ، إلّا النوَّويّ فقد ضعَّفه،  ولذلك قال

بعضُ الشّافعيّةِ([10]): “فالأوجَهُ أنّه لا يُضبَطُ بمِثقالٍ بل بما لا يُعَدُّ إسرافًا عُرفًا”.

(وَ)كان (فَصُّهُ) أي فَصُّ خاتَمِه الّذي نُقِشَ له عليهِ (لِـ)ـجِهةِ (بَاطِنٍ) مِمّا يَلِي الكَفَّ الشّريفَ لأنّه أبعَدُ مِن الزَّهْوِ([11]) والإعجابِ وأصوَنُ للفَصِّ والنَّقْش لا سيّما وأنّه يَتوارَى عِندَ ضَمِّ الكفِّ عليهِ، وكان ﷺ (يَخْتِمُ بِهِ) أي بواسِطةِ النَّقشِ الّذي فَصِّ الخاتِم في الكُتبِ الّتي يُرسِلُها إلى الملوكِ، كما سبَق قريبًا، (وَ)كذلكَ ذكَرْنا أنّه ﷺ (قَالَ) فـ(لَا يُنْقَشَـ)ـنَّ أحَدٌ (عَلَيْهِ) أي خَشيةَ أنْ (يَشْتَبِهَ) بغيرِه.

403-        

يَلْبَـسُـهُ كَـمَا رَوَى البُـخَـارِيْ


 

فِـي خِـنْصِــرٍ يَمِينٍنَ اوْ يَسَـارِ


404-        

كِـلَاهُـمَا فِي «مُسْـلِـمٍ» وَيُجْمَعُ


 

بِأَنَّ ذَا فِي حَـالَـتَـيْـنِ يَـقَـعُ


405-        

أَوْ خَاتَـمَـيْـنِ كُـلُّ وَاحِـدٍ بِيَدْ


 

كَـمَا بِـفَـصٍّ حَـبَـشِـيٍّ قَدْ وَرَدْ


 










وكانَ ﷺ (يَلْبَسُهُ) أي الخاتمَ (كَمَا رَوَى البُخَارِي) عن أنسٍ رضي الله عنه أنّه كان يَتختَّم به (فِي خِنْصِرٍ) مِن يدِه الشّريفةِ ﷺ. قال الحافظ النوويُّ([12]): “وأجمَعَ المُسلِمونَ على أنَّ السُّنّة جَعلُ خاتَمِ الرَّجُل في الخِنصِر”.

وكان ﷺ يَتختَّم في (يَمِينٍ) مِن كَفِّهِ (أوْ) في (يَسَارٍ) مِنها، كُلٌّ في حديثٍ، لكنْ (كِلَاهُمَا) أي الحديثَينِ (فِي) صحيحِ («مُسْلِمٍ») وغيرِه. قال الحافظ النوويُّ([13]): “وأمّا الحكمُ في المسألةِ عندَ الفُقهاءِ فأجمَعوا على جَوازِ التّختُّمِ في اليَمِينِ وعلى جوازِه في اليَسارِ، وَلا كَراهةَ في واحدةٍ مِنهُما، واختَلفوا أيّتُهما أفضلُ، فتَختَّم كثيرون مِن السَّلَف في اليَمِين وكثيرون في اليَساِر”.

(وَ)لا ضَيرَ  في وُرودِ رِوايتَينِ إذْ (يُجْمَعُ) بينَهُما (بِأَنَّ ذَا) أي التّختُّمَ حاصِلٌ (فِي حَالَتَيْنِ) مُختلِفتَينِ، فكان (يَقَعُ) التّختُّم له به ﷺ مرّةً بكَفِّه اليُسرَى ومرّةً باليُمنَى (أَوْ) أنّ الجمعَ بينَ الرّوايتَيْنِ على رأيِ النّاظمِ محمولٌ على تَختُّمِه ﷺ بـ(ـخَاتَمَيْنِ) معًا أيْ في وقتٍ واحِدٍ (كُلُّ وَاحِدٍ) مِن الخاتمَينِ (بِيَدٍ) مِنهُما، فهذا وجهٌ (كَمَا) أنّ القولَ بأنّهُما خاتَمانِ وَجهٌ ءاخَرُ، فتارةً يتَختَّمُ بخاتَمِ الفِضّةِ الّذي فَصُّهُ مِنهُ أي مِن فِضّةٍ وتارةً يَتختَّمُ (بِـ)ـخاتَمٍ ذِي (فَصٍّ حَبَشِيٍّ) أي حجَرٍ مِن بلادِ الحبَشةِ أو على ألوان الحبَشةِ أو مَنسوبٍ إليهم([14])، كما (قَدْ وَرَدَ) في ذلك حديثٌ صحيحٌ «كانَ خاتَمُ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنْ وَرِقٍ وَكانَ فَصُّهُ حَبَشِيًّا».



([1])  بكسرِ الباءِ الرّاءِ.

([2])  بفَتحِ العَينِ وإسكانِ الزّايِ.

([3])  الضعفاء الكبير، أبو جعفر العقيليّ، (3/430).

([4])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلانيّ، (10/329).

([5])  المصدر السّابِق.

([6])  مُغنِي المحتاج إلى معرفة مَعاني ألفاظ المنهاج، الخطيب الشّربينيّ، (1/155).

([7])  التّلخِيص الحَبِير في تخريج أحاديث الرافعِيّ الكَبِير، ابن حجر العسقلانيّ، (1/191).

([8])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلانيّ، (6/556).

([9]أي فِضّةٍ.

([10]فتح المُعِين بشرح قُرّة العَين، زين الدّين المَلِيباريّ، (ص/234).

([11]أي الكِبْر والتِّيهِ.

([12])  المِنهاج شَرح صحيح مسلِم بنِ الحَجّاج، محيي الدِّين النَّوويّ، (14/71).

([13])  المصدر السّابق، (14/73).

([14])  مطالِع الأنوار على صحاح الآثار، ابنُ قُرْقول، (2/218).