الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فِيه (ذِكرُ الهِجرَتَينِ إلى النَّجاشِي) بالحبَشةِ (و)ذِكرُ (حَصْرِ) كُفّارِ قُريشٍ (بَنِي هاشِمٍ في الشِّعْبِ) بمكّةَ المُكرَّمةِ

 

الهِجرةُ الأُولَى إلى الحبَشةِ وذِكرُ مَن هاجرَ إلَيها

الهِجرةُ الأُولَى إلى الحبَشةِ وذِكرُ مَن هاجرَ إلَيها

189-        

لَمَّا فَشَـا الإِسْـلَامُ وَاشْـتَدَّ عَلَى

 

مَـنْ أَسْـلَـمَ البَلَاءُ هَاجَـرُوا إِلَى

190-        

أَصْـحَمَةٍ فِي رَجَـبٍ مِـنْ سَـنَةِ

 

خَـمْـسٍ مَضَـتْ لَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ

191-        

خَمْسٌ مِنَ النِّسَـاءِ وَاثْنَا عَشَـرَا

 

مِـنَ الرِّجَالِ كُـلُّهُمْ قَدْ هَـاجَـرَا

 















(لَمَّا فَشَا) أي ظَهَر وانْتَشَر (الإِسْلَامُ) بينَ كثيرٍ مِن أبناءِ القبائلِ (وَاشْتَدَّ) أي زادَ وقسَى (عَلَى مَنْ أَسْلَمَ البَلَاءُ) والتَّعذِيب مِن قِبَلِ المشرِكِينَ، قال لهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: «تَفَرَّقُوا في الأرْضِ فَسَيَجْمَعُكُمُ اللهُ»، قالوا: إلى أينَ نَذْهَبُ؟ قال: «هاجِرُوا إلى أَرْضِ الحَبَشةِ فإنَّ بِهَا مَلِكًا لا يُظْلَم عِندَه أحَدٌ، وهي أرضُ صِدْقٍ، حتَّى يَجْعلَ اللهُ لَكُم فَرَجًا»، فـ(ـهَاجَرُوا) فِرارًا بدِينِهم (إِلَى) أرضِ الحَبَشةِ، وهي أَوَّلُ هِجْرةٍ للمُسلمِينَ، فمِنهُم مَن هاجَرَ بأَهْلِه ومِنهُم مَن هاجَرَ بنَفْسِه.

وقَدِمَ المسلِمونَ المُهاجِرون على النَّجاشِي مَلِك الحَبَشَةِ (أَصْحَمَةٍ) والتَّنوِين في أصحمةَ لأجل الوَزن ومعناهُ بلغة الحبَشةِ العَطِيّةُ([1])، وفي اسمِه أقوالٌ أُخَر مِنها: أصْخَمة أو أصْخَبة أو صَحْبة أو مَصْحَمة أو صَمْخة وغيرُ ذلكَ. وهو ابن أبجَرَ أو بَحر، والنَّجاشِي لقَبٌ لِكُلِّ مَن مَلَكَ الحبشةَ، كلَقَبِ قَيصَرَ لِمَن مَلَكَ الرُّومَ، وكِسرَى لِمَن مَلَكَ الفُرسَ، وخاقانَ لِمَن مَلَكَ التُّركَ، وفِرعونَ لِمَن مَلَكَ مِصرَ، وتُبَّعٍ لِمَن مَلَكَ اليمَنَ وبَطْلِيمُوسَ لِمَن مَلَكَ اليُونانَ، ومالَخٍ لِمَن ملَكَ اليهودَ، ونُمرُودَ لِمَن مَلَكَ الصّابِئة، وفَغْفُورَ لِمَن مَلَك الهِنْدَ أو الصِّينَ، وجالوتَ لِمَن مَلَكَ البَرْبَرَ([2]). وأمّا النَّجَاشي فقد أفاد ابنُ التِّينِ أنه بسكون الياءِ يعنِي أنها أصلِيّةٌ لا ياءُ النَّسَبِ، وحكَى غيرُه تَشدِيدَها، وحكَى ابنُ دِحْيةَ كَسرَ نُونهِ، ذكَرهُ الحافظ العسقلانيّ([3]).

 وكانت هِجرةُ المُسلمِينَ الأُولى إلى الحبَشةِ (فِي) شَهرِ (رَجَبٍ) الحَرامِ (مِنْ سَنَةِ خَمْسٍ مَضَتْ لَهُمْ مِنَ النُّبُوَّةِ) أي بَعد خمسِ سِنِينَ مِن البِعثةِ، وعِدَّةُ الّذِين هاجَرُوا وقتَئِذٍ سَبعةَ عَشَر (خَمْسٌ مِنَ النِّسَاءِ وَاثْنَا عَشْرَا مِنَ الرِّجَالِ) أو أربعُ نِسوةٍ واثْنا عشرَ رَجُلًا أو أحد عشَر رَجُلًا وامرَأتان أو عشَرة رجال وأربعُ نِسوةٍ([4])، و(كُلُّهُم) أي المُهاجِرونَ إلى الحبَشةِ

أوَّلًا (قَدْ هَاجَرَا) فِرارًا بِدِينِه، والألِفُ في “هاجَرَا” للإطلاقِ.

192-        

عُـثْـمَـانُ مَـعْ زَوْجَـتِـهِ رُقَـيَّـةْ

 

أَسْــبَـقُهُمْ لِلْهِجْـرَةِ الْمَرْضِـيَّةْ

193-        

مُصْـعَبُ وَالزُّبَـيْـرُ وَابْنُ عَـوْفِ

 

وَحَاطِـبٌ فَأَمِـنُـوا مِـنْ خَـوْفِ

194-        

كَذَا ابْنُ مَظْعُونِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَبُو

 

سَـلَـمَـةٍ وَزَوْجُــهُ تُـصَـاحِـبُ

195-        

أَبُـو حُـذَيْـفَـةٍ أَبُـوهُ عُـتْـبَـةُ

 

وَزَوْجُـهُ بِـنْـتُ سُــهَيْلٍ سَـهْلَةُ

196-        

وَابْـنُ عُـمَـيْـرٍ هَاشِــمٌ وَعَامِـرُ

 

إِبْـنُ رَبِيعَةَ الحَلِـيـفُ النَّاصِـرُ

197-        

وَزَوْجُـهُ لَيْلَـى أَبُـو سَـبْـرَةَ مَعْ

 

زَوْجَتِهِ أَيْ أُمِّ كُـلْـثُـومٍ جُـمَعْ

 



































وكانَ (عُثْمَانُ) بنُ عَفَّانَ رضي الله عنه (مَعْ زَوْجَتِهِ رُقَيَّه) بِنتِ النبيّ ﷺ (أَسْبَقُهُمْ

لِلْـ)ـخُروجِ مِن مكّةَ إلى الحبَشةِ بالـ(ـهِجْرَةِ الْمَرْضِيَّة) أي المقبولةِ.

وتبِعَهُما بعدَ ذلكَ قومٌ مِنهُم مَن هاجَر بنَفْسِهِ وهو (مُصْعَبُ) بن عُمَيرٍ (وَالزُّبَيْرُ) بنُ العَوَّام (وَ)عبدُ الرَّحمنِ وهُوَ (ابْنُ عَوْفٍ وَحَاطِبٌ) ابنُ عَمرٍو العامرِيُّ (فَـ)ـهؤُلاءِ
جَمِيعُهم قَد (أَمِنُوا) بِهِجْرَتِهم إلى الحبَشةِ (مِنْ خَوْف) ألَمَّ بهِم فَنَجوا بِدِينِهم.

و(كَذَا) مِمَّن هاجَر بِنَفْسِه عُثمانُ وهُو (ابْنُ مَظْعُونٍ) وعَبدُ الله وهُوَ (ابْنُ مَسْعُودٍ) وأمّا (أَبُو سَلَمَة) بنُ عَبدِ الأَسَدِ المخزُومِيُّ فهاجرَ (وَ)معَه (زَوْجُهُ) أُمُّ سَلَمةَ هِندٌ بِنتُ أبِي أُمَيّةَ (تُصَاحِبُـ)ـهُ، وأبو أُمَيّةَ هذا هو المعروفُ بِزَادِ الرَّاكِب، ولُقِّبَ به لأنه مِن وُسْعِ جُودِه كانَ إذا سافَرَ لم يَحْمِل أحَدٌ مِن رُفْقَتِه زادًا إذْ كان هو كافِيَهُم([5]).

وَمِمّن هاجَر معَ أَهلِه أيضًا (أَبُو حُذَيْفَة) واسمُه مِهْشَمٌ أو هُشَيمٌ أو هاشِمٌ وهو مَن
 

(أَبُوهُ) أبو هاشِمٍ (عُتْبَةُ) فهاجرَ أبو حُذيفةَ (وَزَوْجُهُ بِنْتُ سُهَيْلٍ) ابنِ عَمرٍو، واسمُها (سَهْلَةُ) العامرِيّةُ، وقد ولَدَتْ لأبي حُذيفةَ بالحبَشةِ محمَّدًا.

(وَ)مِمّن هاجَرَ إلى الحبَشَةِ بنَفسِه منصورٌ (ابْنُ عُمَيْرٍ) أخُو مُصعَبِ بنِ عُمَيرٍ، وأبو عُميرٍ هو (هَاشِمٌ) ابنُ عَبدِ مَنافِ بنِ عَبدِ الدَّارِ، وكان منصورٌ يُعرَفُ بأبِي الرُّومِ العَبْدَرِيّ([6]).

 (وَ)هاجرَ (عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ) بنِ كَعبٍ العَنَزِيُّ المَذْحِجِيُّ (الحَلِيفُ) لآلِ الخَطّابِ بنِ نُفَيلٍ في الجاهليّ وقد تبنّاهُ الخطّابُ في الجاهليّة فصارَ يُدعَى عامِرَ بنَ الخطّابِ. وعامِرٌ هذا هو (النَّاصِرُ) لِدِينِ اللهِ، وكانتْ هِجرَتهُ الأُولى إلى الحبَشةِ (وَ)معَهُ (زَوْجُهُ لَيْلَى) بِنتُ أَبِي حَثْمةَ العدَويّةُ.

رُوِيَ أنَّه ما إنِ استعدَّ عامِرٌ وليلَى للهِجرة إلى أرضِ الحبَشةِ حتّى جاءَ عُمَرُ بن الخطّابِ وهو بعدُ لَم يُسْلِمْ فقال: إنّه الانطلاقُ يا أُمَّ عبدِ اللهِ؟ فقالتْ: نَعَم واللهِ لنَخرُجَنَّ في أرضِ اللهِ، ءاذَيتُمُونا وقهَرتُمونا حتى يَجعَلَ اللهُ لَنا مَخرَجًا، فقال: حَفِظَكُم اللهُ. قالتْ: ورَأيتُ له رِقّةً لم أَكُنْ أرَاها، ثمّ انصَرَف وقد أَحْزَنَه فيما أرَى خُروجُنا. فلَمَّا جاءَ عامِرُ قالتْ له: يا أبا عَبدِ اللهِ لَو رأَيتَ عُمَرَ ءانِفًا وَرِقَّتَه وحُزْنَه علَينا، قال: فتَطْمَعِي في إسلامِه؟ قالتْ: نَعَم، قال: لا يُسْلِمُ الّذِي رَأَيتِ حتّى يُسْلِمَ جمَلُ الخَطّابِ، قالها يائِسًا مِنهُ مِمّا كان يَرَى مِن غِلْظَتِه وقَسْوَتِه على الإسلامِ.

وَمِمَّن هاجَرَ الهِجرةَ الأُولَى أيضًا (أَبُو سَبْرَةَ) بنُ أبي رُهْمِ بنِ عَبدِ العُزَّى العامِرِيُّ ابنُ

بَرَّةَ بنتِ عبدِ المُطَّلبِ عَمّة النَّبِيّ ﷺ، وهو أخو أبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الأسَدِ لِأُمِّه، وكانتْ هِجرةُ أبي سَبْرةَ (مَعْ زَوْجَتِهِ أَيْ أُمِّ كُلْثُومٍ) ابنةِ سُهَيلِ بنِ عَمرٍو وَهُم (جُمَعْ) أي جماعاتٌ. وقَد أسقَطَ ابنُ إسحاقَ أُمَّ كُلثومٍ مِن المُهاجِراتِ في الأُولى إلى الحبَشةِ وعدَّها في اللّائِي هاجَرْنَ في الثّانيةِ فقط، وتَعقبَّهُ ابنُ سيّد النّاس([7]).

عَودةُ المُهاجرِينَ مِن هِجرتِهِمُ الأُولى إلى الحبَشةِ

عَودةُ المُهاجرِينَ مِن هِجرتِهِمُ الأُولى إلى الحبَشةِ

198-        

وَخَـرَجَـتْ قُـرَيْــشُ فِي الآثَارِ

 

لَـمْ يَصِـلُوا مِنْهُمْ لِأَخْـذِ الثَّارِ

199-        

فَـجَــاوَرُوهُ فِـي أَتَـمِّ حَـالِ

 

ثُـمَّ أَتَــوْا مَـكَّـةَ فِـي شَــوَّالِ

200-        

مِـنْ عَامِـهِمْ إِذْ قِيلَ أَهْـلُ مَكَّـةِ

 

قَـدْ أَسْـلَمُوا وَلَمْ يَكُنْ بِالثَّبَتِ

















(وَ)لَمّا شاعَ خبَرُ هِجرةِ بعضِ المُسلمِينَ إلى الحبَشةِ (خَرَجَتْ قُرَيْشُ) أي بعضُ مُشركِيها (فِي) تَتَبُّعِ (الآثَارِ) الّتي خلَّفَها المهاجِرُونَ مِن وَرائِهم حتى جاؤُوا إلى البَحرِ إلّا أَنَّهُم لَم يَجِدُوا أحدًا مِنهُم فـ(ـلَمْ يَصِلُوا) إلَيهِم للانتِقامِ (مِنْهُمْ) علَى فِرارِهم بدِينهِم سَعيًا مِن كُفّارِ قُريشٍ (لِأَخْذِ الثَّارِ) مِن المُهاجِرِينَ على ما يَزعُمونَ.

ووَصَل المسلِمُون إلى الحبَشَةِ فتَلَقَّاهُم النَّجاشِي بالرَّحْبِ والإكرامِ (فَجَاوَرُوهُ) بالإقامةِ هُناكَ (فِي) أي عَلَى (أَتَمِّ حَالٍ) وعَبَدُوا اللهَ جَهْرًا وهُم في أَمانٍ.

وكانوا خُروجُهم إلى الحبَشةِ في رجَب سنةَ خَمسٍ كما تقدَّم، فلَم يُطِيلوا المُكثَ بل أقامُوا شعبانَ ورَمضانَ مِن العامِ نَفسِه (ثُمَّ أَتَوْا مَكَّةَ) راجِعِينَ (فِي) شَهرِ (شَوَّالٍ مِنْ عَامِهِم)

الذي هاجَرُوا فِيه.

وَلَم يَكُن رجوعُهم لأمرٍ حدَثَ بأرضِ الحبَشةِ، (إِذْ) لَقُوا في الحبَشةِ رَكْبًا مِن كِنانةَ كافرِينَ فـ(ـقِيلَ) أي قالُوا للرَّكْبِ: قِيلَ لَنا (أَهْلُ مَكَّة) أي كُفّارُهم (قَدْ أَسْلَمُوا) فقال لَهُم الرَّكبُ الكِنانِيُّ: ذَكَر مُحَمَّدٌ ءالِهَتَهُم بِخَيرٍ فتابَعَه الملَأُ ثُمَّ ارْتَدَّ محمَّد عَنها فعادُوا له بالشَّرِّ، وكلامهُم هذا في النّبِيّ باطِلٌ، بل (وَلَمْ يَكُنْ) ما زَعَموهُ مِن إسلام مُشركِي مَكّةَ (بِـ)ـالأمرِ (الثَّبَتِ) أي الثّابتِ حُصولُه بل كانَ مُخالِفًا للواقِعِ.

بيانُ الصّوابِ في قِصّةِ الغَرانِيقِ

بيانُ الصّوابِ في قِصّةِ الغَرانِيقِ

وأمّا الأمرُ الذي افتراهُ الكافِرُون مِن كنانةَ في شأنِ النَّبِيّ ﷺ فهو ما نقَلُوه مِمّا وصَل إلَيهِم مِن القصّة المعروفة باسمِ «قِصّة الغَرانِيق([8])»، والحَقُّ فيما حصَلَ أنَّ الرَّسولَ ﷺ كان يَقرَأُ ذاتَ يَومٍ سُورةَ النَّجمِ مِن أوَّلِها فلَمَّا بلَغَ: ﱡﭐﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ  ﲢ ﲣ انْتَهَزَ الشيطانُ وَقْفَةَ رَسُول اللهِ ﷺ وَسَكْتَتَهُ فأَسْمَعَ الشَّيطانُ المشرِكِينَ الذِين كانوا بِقُرْب النَّبِيِّ صوتَهُ مُحاوِلًا مُحاكاةَ صَوتِ النَّبِيّ ومُوهِمًا للكافرِينَ أنه صَوْتُهُ ﷺ إلّا أنّه لم يَأْتِ بمُحاكاةِ الصَّوتِ على التَّمامِ، وقال لهُم الشّيطانُ بذلكَ الصّوتِ: “تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى”، ففَرِح المشرِكُون وقالوا: “مَا ذَكَر مُحَمَّدٌ ءَالِهَتَنَا قَبل اليَومِ بِخَيرٍ”، فأَنزل الله في تَكذِيبهم هذه الآيةَ الّتِي كانَ موضِعُها فيما بَعدُ سُورةَ الحَجّ: ﱡﭐ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ  ﲃ ﲄ ﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ  ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ، وقَولُه تَعالى: ﱡﭐﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ  أي يَكْشِفُ اللهُ ويُبَيِّنُ أنّ هذا ليسَ مِن الأنبياءِ، وإنّما ذَلِك ابتِلاءٌ مِن اللهِ وامتِحانٌ مِنهُ لِيَتَمَيَّزَ للنّاسِ مَن يَتَّبِعُ ما يَقُولُه الشَّيطانُ مِمّا هُوَ ضِدُّ الدِّينِ فَيَهْلِكَ مِمَّن لا يَتَّبِعُهُ فيَسْعَدَ.

قال الإمامُ أبو منصورٍ الماتريديُّ في «حُصَص الأتقياء»: “الصّوابُ أنّ قولَه: “تِلكَ الغَرانِيقُ العُلى” مِن جُملةِ إيحاءِ الشَّيطانِ إلى أوليائِه مِن الزَّنادِقة حتّى يُلقُوا بَينَ الضُّعفاءِ وأَرِقّاءِ الِّدينِ ليَرتابُوا في صِحّةِ الدِّينِ القَوِيم، وحَضرةُ الرِّسالةِ بَرِيئةٌ مِن مِثلِ هذه الرّوايةِ”، نقله عنه الطِّيبيُّ([9])، ونقلَ أيضًا عن ابنُ خُزَيمةَ أنّها مِن وَضعِ الزَّنادِقةِ([10]).

وقال القاضِي عِياضٌ([11]): “أمّا مِن جِهةِ المعنَى فقَد قامَتِ الحُجّة وأجمعَتِ الأُمّة على عِصْمَتِه ﷺ ونزاهَتِه عن مِثل هذه الرَّذِيلة، إمّا مِن تَمَنِّيهِ أنْ يَنزِلَ عليه مِثلُ هذا مِن مَدْحِ ءالهةٍ غَيرِ اللهِ وهو كُفرٌ، أو يَتَسَوَّرَ عليه الشّيطانُ ويُشَبِّهَ عليه القرءانَ حتّى يَجعلَ فيه ما ليسَ منه ويَعتقِدَ النَّبِيُّ ﷺ أنّ مِن القُرءانِ ما ليسَ منه حتّى يُنَبِّهَه جبريلُ عليه السلامُ وذلك كُلُّه مُمْتَنِعٌ في حَقِّهِ ﷺ، أو يقولَ ذلكَ النَّبِيُّ ﷺ مِن قِبَلِ نَفْسِه عمدًا وذلك كُفرٌ، أو سَهوًا وهو مَعصومٌ مِن هذا كُلِّهِ. وقد قَرَّرْنا بالبَراهِينِ والإجماعِ عِصمتَه ﷺ مِن جَرَيانِ الكُفرِ على قَلْبِه أو لِسانِه، لا عَمْدًا ولا سَهْوًا، أو أنْ يَشتَبِهَ عليه ما يُلْقِيهِ المَلَكُ مِمّا يُلْقِي الشَّيطانُ، أو يكونَ للشَّيطانِ علَيه سَبِيلٌ، أو أنْ يَتقوَّل على اللهِ لا عَمْدًا ولا سَهْوًا ما لم يُنَزِّلْ علَيهِ”.

ونقَلَ النوويُّ([12]) عن عِياضٍ قولَه: “وأَمَّا ما يَرْوِيه الإخبارِيُّون أنّ سَبَبهُ ما جرَى على لِسانِ رسول الله مِن الثَّناءِ علَى الأصنامِ بقوله: “تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العُلَى” فباطِلٌ لا يَصِحُّ لا نَقْلًا ولَا عَقْلاً لأنّ مَدْحَ إلهٍ – أي مَزْعُومٍ – غَيرَ الله كُفْرٌ ولا يَصِحُّ نِسبةُ ذلك إلى رسولِ الله ولا أن يَقُولَه الشيطانُ بلِسانِه حاشاهُ منه، أقولُ: وهذا هو الحَقُّ والصَّوابُ”. وأقَرّ ذلكَ الحافظُ العسقلانيُّ([13]) فقالَ: “وَقَد رَدَّ ذلكَ عِياضٌ فأَجادَ”.

وقال الفَخْر الرّازِيُّ في تفسيره([14]): “مَن جَوَّزَ عَلَى الرَّسُولِ ﷺ تَعظِيمَ الأَوثَانِ فَقَد كَفَرَ لِأَنَّ مِنَ الْمَعلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ أَعظَمَ سَعيِهِ كَانَ فِي نَفيِ الأَوثَانِ”.

وقال الشّهاب أحمد الكورانيّ([15]): “فكيفَ يَمدحُ الآلهةَ ومَدحُها كُفْرٌ بالإِجماعِ”.

وقال الحافظُ عبدُ الرّحمنِ ابنُ الجوزيّ([16]): “فأَمّا أنْ يَكونَ جرَى علَى لِسانِ الرَّسولِ المعصومِ مِثلُ هذا فمُحالٌ، فلا تَغْتَرِرْ بما تَسْمَعُه في التّفاسِير مِن أنّهُ جرَى على لِسانِه، فإنه لو صَحَّ هذا لاخْتَلَط الحَقُّ بالباطِل وجازَ أنْ يُشَكَّ في الصّحِيح فيُقالَ: لعَلَّ هذا مِمّا ألقاهُ الشَّيطانُ أيضًا، وقَد عَصَم اللهُ نَبِيَّه مِن مِثلِ هذا وبَيَّنَ كَيفِيّةَ حِفْظِ الوَحيِ مِن الشَّياطِينِ فقال تَعالَى: ﳌ ﳍ ﳎ ﳏ ﳐ ﳑ  ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ والمعنَى أنْ يَحرُسَ الوَحيَ عِندَ تلاوةِ الملَكِ له علَى الرَّسولِ مِن استِراقِ الشَّياطِينِ لِئَلَّا يَسبِقُوه إلى الكاهِن فيَتَكَلَّمَ بِه قَبلَ الرَّسولِ([17])، وهذه العِصمةُ تُنافِي صِحّةَ ما ادُّعِي مِمّا أَنْكَرناهُ، وقد ذهَب إلى ما قُلتُه كِبارُ العُلماءِ مِنهُم أبو الحُسَينِ بنِ المُنادِي وأبو جَعفرٍ النَّحّاسُ وأبو الوفاءِ بنُ عَقِيلٍ في خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ”.

واستدرَكَ الشِّهابُ على البيضاويّ في ذلكَ فقالَ([18]): “وقوله: “سَبَق لِسانُه سَهْوًا” هَذا غيرُ صَحِيحٍ، لأنّه ﷺ مَحفوظٌ عَنِ السَّهْوِ بما يُخالِفُ الدِّينَ والشَّرْعَ، لأنَّ التّكلُّمَ بما هو كُفْرٌ سَهْوًا أو نِسْيانًا لا يَجُوزُ على الأنبياءِ علَيهِمُ الصّلاةُ والسّلامُ بالإِجماعِ”.

وقَد طعَنَ غيرُ واحِدٍ في سنَدِ الجُزءِ المُفترَى على النَبِيّ في قِصّةِ الغَرانِيقِ، فقال البَزّارُ: ولا نَعلَمُه يُروَى بإسنادٍ مُتّصِلٍ يَجوزُ ذِكرُه، ولم يُسْنِدهُ عن شُعبةَ إلا أُمَيّةُ بنُ خالِدٍ، وغَيرُه يُرسِلُه عن سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ”، قاله البدرُ العَينيُّ([19]).

فانظُرْ رحمِكَ اللهُ سُطوعَ الحَقِّ في هذه المسألةِ، وكيفَ أنّ المفسِّرينَ والحُفّاظَ لَم يَتَوانَوا عن التّحذير مِمّا في بعضِ الكُتبِ مِمّا خالَفَ الإجماعَ وطَعَنَ في عِصمةِ الأنبياءِ في هذه المسألةِ، فلِذا يَجِبُ الحَذَرُ مِمّا جاء في «تفسير الجَلَالَين» مِن الباطِلِ في هذه المسألةِ، ولسنَا نَجْزِمُ بصِحّة نِسبة ذلك المكتُوبِ فيه إلى الْمَحَلِّي أو السُّيوطيّ، فكَم مِن كُتُبٍ أُقحِم فيها ما لم يَكُن مِنها في الأَصْلِ، والله أعلَمُ.

رُجوعُ المُسلمِينَ مِن الحبَشةِ إلى مَكّةَ

رُجوعُ المُسلمِينَ مِن الحبَشةِ إلى مَكّةَ

201-        

فَاسْـتَـقْبَلُوهُمْ بالأَذَى وَالشِّـدَّةِ

 

……………………………………..

 







ولَمّا بلَغَ المُسلمِينَ أنّ رُؤساءَ قُرَيشٍ أسلَمُوا ترَكوا الحبَشةَ ورجَعُوا إلى مكّة، وقيل: عاد مِنهُم قَومٌ وتخَلَّفُ مِنهُم ءاخَرُونَ([20])، فلَمّا قَدِمَوا مكّةَ ظهَرَ لَهُم أنّ خبرَ إسلامِ قُريشٍ كانَ باطِلًا (فَاسْتَقْبَلُوهُم) أي كُفّارُ قُريشٍ (بالأَذَى) لَهُم قولًا وفِعلًا (وَ)بـ(ـالشِّدَّةِ) علَيهِم، فاستأذَنُوا رسولَ اللهِ ﷺ في الخروجِ مرّةً ثانيةً إلى الحبَشةِ فأَذِنَ لَهُم، فكانت خَرْجَتُهم الثانيةُ أعظَمَها مَشَقّةً، فقال عُثمانُ بنُ عَفّانَ: يا رسولَ اللهِ فهِجْرَتُنا الأُولى وهذِه الآخِرةُ ولَستَ معَنا؟ فقال رَسولُ اللهِ ﷺ: «أَنْتُم مُهاجِرُونَ إِلَى اللهِ تَعالَى([21]) وَإِلَيَّ، لَكُمْ هَاتَانِ الهِجْرَتَانِ جَمِيعًا»، قال عُثمانَ: فحَسْبُنا يا رسولَ الله([22]).

الهِجرةُ الثّانِيةِ إلى الحبَشةِ وذِكرُ مَن هاجرَ إلَيها

الهِجرةُ الثّانِيةِ إلى الحبَشةِ وذِكرُ مَن هاجرَ إلَيها

201-        

……………………………………….

 

فَـرَجَـعُـوا لِلْهِـجْـرَةِ الثَّانِـيَـةِ

202-        

فِـي مـائَـةٍ عَـدُّ الـرِّجَـالِ مِنْهُمُ

 

إِثْنَانِ مِـنْ بَـعْـدِ الثَّمَانِيـنَ هُمُ

203-        

فَـنَـزَلُـوا عِنْدَ النَّجَـاشِـيِّ عَلَى

 

أَتَـمِّ حَـالٍ………………………..

 














(فَرَجَعُوا) أي المُستَضعَفُون مِن المسلمِينَ مرّةً أُخرَى خارجِينَ مِن مكّةَ (لِلْهِجْرَةِ الثَّانِيَةِ) إلى الحبَشة فِرارًا بدِينِهم (فِي) جَمْعٍ مِن (مائَةٍ) مِن الرِّجال والنِّساء، وقيل غيرُ ذلك، وكان (عَدُّ الرِّجَالِ مِنْهُمُ اثْنَانِ) أو ثلاثةٌ (مِنْ بَعْدِ الثَّمَانِينَ) إنْ كان عَمّارُ بنُ ياسِرٍ فيهِم([23]) وهؤلاءِ (هُمُ) المذكُورونَ في كُتبِ السِّيَر مِن حيثُ العدَدُ، وقَد عَدَّ بعضُ أهلِ السِّيَر النِّساءَ مِنهُم ثَمانِي عَشْرةَ امرأةً، إحدَى عشرَةَ قُرشيّةً وسبعةٌ مِن غيرِها([24]).

(فَـ)ـقَدِمُوا الحبَشةَ و(نَزَلُوا عِنْدَ) أصْحمةَ (النَّجَاشِيِّ) فآواهُم وأكرَمَهُم وهُم (عَلَى أَتَمِّ حَالٍ) ءامنِينَ مِن أذَى كُفّارِ قُريشٍ، وكان على رأسِهم جعفَرُ بنُ أبي طالِبٍ رضي الله عنه، وفيهِم مِن الرّجالِ: عثمان وقُدامةُ وعبدُ الله أولادُ مظعونٍ وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود وأبو عبيدة بن الجراح وغيرُهم، ومِن النِّساءِ: رَمْلةُ بنتُ أبي عَوفٍ وسَودةُ بِنتُ زَمْعةَ وفُكيهةُ بنتُ يَسارٍ وغيرُهُنّ.

فلَمّا كانتَ غَزوةُ بَدرٍ وقُتِلَ فيها رُؤساءُ كُفّارِ قُرَيشٍ قالوا: إنَّ ثَأْرَكم بأرضِ الحبَشة، فأَهْدُوا النَّجاشِيَّ وابعَثُوا إليه رجَلُينِ مِن ذَوِي رأَيِكُم لعَلَّه يُعطِيَكم مَن عِندَه مِن قُرَيشٍ فتَقتُلُونَهُم بِمَن قُتِلَ مِنكُم بِبَدْرٍ. فأجمَعُوا أمرَهُم بَينُهم أنْ يَبعَثُوا إلى النَّجاشِي عمرَو بن العاص وعبدَ الله بنَ أَبِي رَبِيعةَ وعُمارة بن الوليد ومعَهُم هَدايا لَهُ ولبطارِقَتِه.

فلَمّا رأى أبو طالِبٍ ما فعَلَتْ قُريشٌ بعَثَ بأَبياتٍ للنّجاشِي يَحُضُّه على حُسْنِ جِوار المُهاجرِينَ والدَّفْعِ عَنهُم.

ولَمّا قَدِمَ عمرٌو وابنُ أَبِي رَبِيعةَ على النّجاشِي سألاهُ رَدَّ المهاجِرِينَ إليهم، وابتدَراه فجَلَسَ أحدُهما عن يَمينِه والآخر عن يَسارِه وقالَا: أيها المَلِكُ، إنه قد ضَوَى([25]) إلى بلادِك مِنّا جماعةٌ سُفهاءُ فَارَقوا دِينَ قَوْمِهم ولم يَدخُلوا في دينِك وجاءوا بدِينٍ ابتَدَعُوه، وقد بَعَثَنَا إليك أشرافُ قَوْمِهم مِن ءابائِهِم وأعمامِهِم وعَشَائِرِهم لِتَرُدَّهم علَيهم، فَهُم أعلَمُ بِهِم عَيْبًا وأعلم بما عابوا مِنهُم وعايَنُوهم فيه، فغَضِبَ النَّجاشِي وقال: لَا واللهِ لَا أُسْلِمُهُم إليكُما حتَّى أَدعُوَهم فأَسْأَلهم، فإن كانوا كما تَقُولون رَدَدتُهُم إلى قَومِهم وإلّا مَنَعتُهم مِنهُم وأَحْسَنْتُ جِوارَهُم، فلَمّا سَمِع النّجاشِي ما جاء به المهاجِرُون مِن المسلِمِين قال لهم: فمَا أُحِبُّ جَبَلًا مِن ذهَبٍ وأَنِّي ءاذَيتُ رَجُلًا مِنكُم، رُدُّوا عليهما – أرادَ علَى وَفدِ قُريشٍ – هَداياهُما فلا حاجةَ لي بها. فخَرَجا مِن عندِه مَقبُوحَينِ مَردودًا عليهِما ما جاءا بِه.

كِتابةُ قريشٍ الصّحِيفةَ وحَصرُهُم بَنِي هاشمٍ والمُطّلِب بالشِّعْبِ

كِتابةُ قريشٍ الصّحِيفةَ وحَصرُهُم بَنِي هاشمٍ والمُطّلِب بالشِّعْبِ

203-        

……………………………………….

 

…………….. وَتَـغَـيـَّـظَ الْمَـلَا

204-        

عَـلَـى النَّـبِـيِّ وَعَلَى أَصْـحَـابِهِ

 

وَكَتَبَ البَـغِـيـضُ فِـي كِـتَابِـهِ

205-        

عَلَـى بَـنِـيْ هَاشِـمٍ الصَّـحِيفَهْ

 

وَعُـلِّـقَـتْ بِالكَـعْبَةِ الشَّـرِيفَهْ

206-        

أَنْ لَا يُـنَاكِـحُـوهُـمُ وَلَا وَلَا

 

وَحُصِـرُوا فِي الشِّعْبِ حَتَّى أَقْبَلَا

207-        

أَوَّلُ عَـامِ سَـبْـعَـةٍ لِلْبَـعْـثِ

 

قَاسَـوا بِـهِ جَـهْـدًا بِشَـرِّ مُكْثِ

 












(وَ)عَقِبَ هذا الأمرِ (تَغَيَّظَ الْمَلَأُ) مِن قُريشٍ (عَلَى النَّبِيِّ) (وَعَلَى أَصْحَابِهِ) في هِلالِ

مُحَرَّمِ سَنةِ سَبْعٍ مِن البِعثةِ لَمَّا بَلَغَهُم إكرامُ النَّجاشِي لأَصحابِه ورَدِّ هَدِيَّتِهم علَيهِم (وَكَتَبَ البَغِيضُ) بنُ عامِرِ بنِ هاشِمِ بنِ عَبدِ مَنافِ بنِ عَبدِ الدَّارِ بنِ قُصَيٍّ كِتابًا بأمْرِ قُريشٍ على بَني هاشِمٍ، وجاء (فِي) مَضْمُونِ (كِتَابِهِ عَلَى بَنِيْ هَاشِمٍ) فِي (الصَّحِيفَه) الملآى بالظُّلْمِ (وَعُلِّقَتْ) الصَّحِيفةُ (بِالكَعْبَةِ الشَّرِيفَه) وَمِمَّا كُتِبَ على بَنِي هاشِمٍ فِيها (أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمُ وَلَا) يُبايِعُوهم (وَلَا) يُخالِطُوهم إلّا أنْ يُسْلِمُوا مُحَمَّدًا لِيُقتَل، فأبَى بَنُو هاشِمٍ وأَيَّدَهُم وناصَرَهُم علَى ذلك بَنُو الْمُطَّلِب، فأَجمَعَ المشرِكُون على إخراجِهم مِن مَكَّة إلى شِعْبِ أبي طالِبٍ (وَحُصِرُوا) أي بَنُو هاشِمٍ وبَنُو الْمُطَّلِب (فِي الشِّعْبِ) مُؤمِنُهم وكافِرُهم (حَتَّى أَقْبَلَا) أي حِينَ دَخَلَ (أَوَّلُ عَامِ سَبْعَةٍ لِلْبَعْثِ) يَعنِي كان دُخُول بَنِي هاشِم والمطَّلِب في الشّعْبِ حِينَ أهَلَّ هِلالُ المحَرَّم عامَ سَبْعٍ مِن البِعثَةِ.

وخَرَج أبو لَهَبٍ إلى قريش فظاهَرَهُم على أَهْلِه وقَطَعُوا عنهم الطّعامَ والمارَّة ومَنَعُوا عنهم الأسواق، وأصَرُّوا على أن لا يَقْبَلُوا مِنهُم صُلْحًا أبدًا ما لم يُسْلِمُوا مُحَمَّدًا لِيُقْتَل. وصار الْمُحْصَرُون لا يَخرُجُون إلا مِن مَوسِم إلى ءاخَر فـ(ـقَاسَوا بِهِ) أي بالحِصَارِ (جَهْدًا) أي مَشَقَّةً وَبَلاءً ومَكَثُوا فيه ثلاثَ سِنِينَ (بِشَرِّ مُكْثِ) مِن ضِيقِ العَيْشِ والجُوعِ والأَذَى.

208-        

وَسُـمِـعَـتْ أَصْـوَاتُ صِـبْيَانِـهِمُ

 

فَسَـاءَ ذَاكَ بَـعْـضَ أَقْـوَامِـهِمُ

 




(وَسُمِعَتْ أَصْوَاتُ صِبْيَانِهِم) أي سَمِعَتْ كُفّارُ قُرَيشٍ أصواتَ صِبْيانِ الْمُحْصَرِين
يَصِيحُون مِن وَراء الشِّعْب مِن شِدّة الجُوع (فَسَاءَ ذَاكَ بَعْضَ أَقْوَامِهِم) أي أزْعَجَ بعضَ قُريشٍ، فتَلاوَمَ قَومٌ مِن قُصَيٍّ مِمَّن وَلَدَتْهُ بَنُو هاشِمٍ وَمَن سِوَاهُم بِشَأنِ ذلك.

 

209-        

وَأُطْـلِـعَ الرَّسُـولُ أَنَّ الأَرَضَـةْ

 

أَكَـلَـتِ الصَّـحِيفَةَ الْمُبَغَّـضَـةْ

210-        

مَـا كَانَ مِـنْ جَـوْرٍ وَظُـلْمٍ ذَهَبَا

 

وَبَقِيَ الـذِّكْـرُ كَمَا قَـدْ كُـتِـبَا

211-        

فَـوَجَـدُوا ذَاكَ كَمَا قَـالَ وَقَـدْ

 

شَـلَّتْ يَدُ البَغِيضِ وَاللهِ الصَّمَدْ

212-        

فَـلَـبِسُـوا السِّـلَاحَ ثُـمَّ أُخْرِجُوا

 

مِـنْ شِـعْبِهِمْ وَكَانَ ذَاكَ الْمَخْرَجُ

213-        

فِـي عَـامِ عَشْـرةٍ بِغَـيْـرِ مَـيْـنِ

 

وَقِـيـلَ كَانَ مُـكْـثُـهُـمْ عَامَيْنِ

 
















(وَ)لَمّا اشتَدَّ على المحصُورِينَ البلاءُ (أُطْلِعَ الرَّسُولُ) أي كَشَفَ اللهُ لَهُ (أَنَّ الأَرَضَه) وهي دُوَيبَّةٌ تأكُلُ الخَشَبَ (أَكَلَتْ) جَمِيعَ ما في (الصَّحِيفَة الْمُبَغَّضَه) مِـ(ـمَّا كَانَ مِنْ جَوْرٍ وَظُلْمٍ) أي مِن ظُلْمٍ وشِرْك وقَطِيعةِ رَحِمٍ وَبُهْتانٍ فلَم يَبْقَ منه شىءٌ بل كُلُّ ما فِيها مِن ذلك قَد (ذَهَبَا وَبَقِيَ الذِّكْرُ) أي بَقِيَ ما فِيها مِن ذِكْر الله ورَسُولِه ﷺ (كَمَا قَدْ كُتِبَا) وَلَم يتَغَيَّر مِنَ الذِّكر الكَرِيم شَىءٌ فأَخْبَرَ النّبيُّ ﷺ عَمَّه أبا طالِبٍ بذَلِك، فقال أبو طالِبٍ: لا والثَّواقِبِ([26]) مَا كَذَبْتَنِي، فانْطَلَق عِصابةٌ([27]) مِن بَنِي عبدِ المطَّلِب حتى أتَوا المسجِدَ فظَنَّتْ قُريشٌ أنَّهم خَرَجُوا مِن شِدّة البلاء لِيُسْلِمُوا رسولَ الله إليهُم لِيُقْتَل، فقال أبو طالِبٍ: يا مَعشَر قُريشٍ قد جَرَتْ أمُورٌ بَينَنا وبينَكُم لم نَذْكُرْها، فائْتُوا بالصَّحِيفة الَّتِي فيها مَواثِيقُكُم فلَعَلَّ أن يكون بَينَنا وبَينَكُم صُلْحٌ، فأَتَوا بها مُعْجَبِين لا يَشُكُّون أنَّ مُحَمَّدًا يُدْفَع إليهم، فوَضَعُوها بَيْنَهم وقالوا لأبي طالِبٍ: قَد ءانَ لَكُم أنْ تَرْجِعُوا عَمَّا أحدَثْتُم علَينا وعلى أنفُسِكُم، فقال: إنَّما أَتَيتُكُم في أمرٍ هو نَصَفٌ بينَنا وبَيْنَكُم، أَخْبَرنِي ابنُ أَخِي أنّ هذِه الصَّحِيفةَ بَعَثَ اللهُ علَيها دابّةً فلَم تَتْرُك فيها إلا ذِكرَ اللهِ ورَسُولِه، فإنْ كانَ كمَا قال فلَا واللهِ لا نُسْلِمُهُ حتَّى نَمُوتَ مِن عِندِ ءَاخِرِنا، وإنْ كان باطِلًا دَفَعْناهُ إِلَيكُم فقَتَلْتُم أو اسْتَحْيَيْتُم([28])، قالوا: رَضِينَا بالَّذِي تَقُولُ، ففَتَحُوها (فَوَجَدُوا ذَاكَ كَمَا قَالَ) النَّبِيُّ الصَّادِقُ المصدُوقُ قبلَ فَتْحِها، فقالوا: هذَا سِحْرُ ابنِ أَخِيكَ، وزادَهُم ذَلِكَ بَغْيًا وَعُدْوانًا.

(وَقَدْ شَـلَّتْ) بفَتحِ الشّين (يَدُ البَغِيضِ) بنِ عامِرٍ كاتِب صَحِيفةِ العُدْوانِ، كما ذَكَر ذلك أهلُ السِّيرِ (وَاللهِ الصَّمَد) أي ويُقسِمُ النّاظِمُ بالله الصَّمَدِ علَى حُصولِ ذَلِك. والله تعالَى هو الصَّمَد أي الَّذِي لا يَفتقِرُ إلى أحَدٍ ويفْتَقِرُ إليه كُلُّ شىءٍ([29]). فالله تعالى مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ شىء، وكُلُّ شىء يَحتاج إليه، فهو الذِي يَقْصِدُه العِبادُ عِندَ الشِّدة بجميعِ أنواعها ولا يَجْتَلِب هو بِخَلْقِه نَفْعًا لِنَفسِه ولا يَدفَعُ بِهِم عَن نَفْسِه ضُرًّا، وكذلك الصَّمَدُ في اللغة السيّد أي عَالِي القَدْر في النّاس المعتَبَرُ فِيهِم، فالصَّمَد ليسَ مِن أَسماءِ اللهِ الخاصّة لكن معناه في حَقِّ الله لا يكونُ كمعناه في حَقِّ غَيرِهِ.

وذَكَر بعضُ أهلِ السِّيَر أّنه لَمّا تَلاوَمَ قَومٌ مِن قُصَيٍّ مِمَّن وَلَدَتْهُ بَنُو هاشِمٍ وَمَن سِوَاهُم مَشَى أبو البَخْتَرِيّ العاصُ بنُ هِشام والْمُطْعِم بنُ عَدِيٍّ وهِشامُ بنُ عَمرِو بنِ الحارِث العامِرِيِّ وزُهَيرُ بنُ أُمَيَّةَ في نَقْضِ الحِصارِ (فَلَبِسُوا السِّلَاحَ ثُمَّ أُخْرِجُوا) أي الْمُحْصَرُونَ (مِنْ شِعْبِهِم) مُرْغِمين لِمَن خَالَفَهُم في ذَلِك عَليهِ (وَكَانَ ذَاكَ الْمَخْرَجُ فِي عَامِ عَشْرةٍ) مَضَتْ مِن البِعثة (بِغَيْرِ مَيْن) أي بِلا رَيبٍ في ذَلِك، (وَقِيلَ كَانَ مُكْثُهُم) فِي الشِّعْبِ (عَامَيْنِ) فقط، وَصَحَّح بعضُ أهلِ السِّيَر الأَوَّل.



([1])  تاج العَروس، محمد مرتضى الزَّبِيدي، (17/404).

([2])  الإشارة إلى سيرةِ المُصطفَى، علاء الدّين مُغْلَطاي، (ص/120).

([3])  فَتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (7/191).

([4])  الإشارة إلى سيرةِ المُصطفَى، علاء الدّين مُغْلَطاي، (ص/116-117).

([5])  الإصابة في تمييز الصّحابة، ابن حجر العسقلاني، (8/342).

([6])  أُسْد الغابة في معرِفة الصحابة، ابن الأثير الجزري، (4/496).

([7])  عيون الأثَر، ابن سيّد النّاس، (1/136).

([8])  جَمعُ غُرْنُوقٍ طائِرٌ مائيٌّ أبيضُ أو أسودُ، وقيل: هو الكُرْكِيُّ.

([9])  فُتوح الغَيب في الكَشف عن قناع الرَّيب، شرف الدين الطِّيبِيّ، (10/508-509).

([10])  المصدر السّابِق، (10/508).

([11])  الشِّفَا، القاضي عِياض المالكي، (2/293-294).

([12])  المِنهاج شَرح صحيح مسلِم بنِ الحَجّاج، محيي الدِّين النَّوويّ، (5/75).

([13])  فَتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (8/440).

([14])  التفسير الكبير، فخر الدِّين الرّازي، (23/237).

([15])  الكوثَر الجاري، الملّا أحمد الكوراني، (3/156).

([16])  كَشف المُشْكِل، أبو الفرَج بن الجوزي، (1/257).

([17])  ولا يَحصُل أنْ يَتكلَّم به الشّيطانُ أو الكاهِنُ قبل أنْ يُبلِّغَه الرّسولُ النّاسَ.

([18])  عِناية القاضي وكفاية الراضِي، شهاب الدين الخَفاجِي، (6/305).

([19])  عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بدر الدِّين العَينِيّ، (7/100).

([20])  إمتاع الأسماع، تقي الدين المَقرِيزي، (1/37).

([21])  أي إلى حيثُ وجَّهَكُمُ اللهُ، وليسَ معناهُ أنَّ الله عزَّ وجلَّ ساكِنٌ في مَكانٍ أو جهةٍ، تنَزَّه الله عن مُشابَهةِ شىءٍ مِنَ المخلوقاتِ.

([22])  أي يَكفِينا أنَّ لَنا ذلكَ.

([23])  إمتاع الأسماع، تقي الدين المَقرِيزي، (1/44).

([24])  الطبقات الكبرى، ابن سَعد، (1/207).

([25])  أي لَجَأ.

([26])  أي النُّجوم، والحَلِفُ بالنُّجومِ مَذمُومٌ.

([27])  أي جَماعةٌ.

([28])  أي تَركتُم قَتْلَه.

([29])  يجبُ الحذَرُ والتحذيرُ مِن اعتقادِ أنّ الله تعالى صمَدٌ بمعنَى الجِسم ِغيرِ الأجوَفِ، فقَد بَغَى وطغَى بعضُ أدعياءِ المَشيخةِ الضّالُّون كالمدعوّ عليّ منصور الكيّالي الّذي تَجرّأَ على اللهِ فقال: “إنّ الله الصَّمدَ النُّورَ أي ذاتُه ذو كَثافةٍ نُورانيّةٍ مائة بالمائة” والعياذ بالله تعالى من هذا الكُفرِ، فالّذي ورَد في أسماءِ الله النُّور معناه الهادي، وﱡﭐ    أي هادِي أهلِ السّماواتِ الملائكةَ وهادِي أهلِ الأرضِ مِن إنسٍ وجِنّ، وهذا هو الّذي نُقِلَ في تأويلِ هذا النّصّ القرءانيّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما كما قال ابن جريرٍ الطبريّ وأبو منصورٍ الماتُرِيديّ والبَغَوي وابنُ الجوزي وغيرُهم في تفاسيرِهم.