الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فِيه (ذِكرُ أذَى) كُفّارِ (قُرَيشٍ لِنَبِيِّ اللهِ) محمّدٍ ﷺ (و)أَذاهُم (لِلمُسْتضعَفِينَ مِن المُؤمنِينَ) بمكّةَ المكرَّمةِ قَبلَ الهِجرةِ إلى الحبَشةِ

صَبرُ النَّبِيّ على أذَى كُفّارِ قُريشٍ

173-        

وَأُوذِيَ النَّـبِـيُّ مَـا لَـمْ يُـؤْذَا

 

مَـنْ قَبْلَهُ مِـنَ النَّـبِـيِّـيـنَ وَذَا

174-        

مِـمَّا يُضَـاعِـفُ لَـهُ الأُجُـورَا

 

وَلَـوْ يَشَـاءُ دُمِّـرُوا تَـدْمِـيـرَا

175-        

لَـكِـنَّهُمْ إِذْ أَضْـمَرُوا الضَّـغَائِنَا

 

مَا مُكِّنُوا فَاسْتَضْعَفُوا مَنْ ءَامَنَا

















(وَ)قَد (أُوذِيَ النَّبِيُّ) محمَّدٌ ﷺ مِن كُفّار قُرَيشٍ (مَا لَمْ يُؤْذَا) بِه (مَنْ قَبْلَهُ) أحَدٌ (مِنَ النَّبِيِّينَ) الكِرامِ أي مِن حيثُ اجتِماعُ الأنواعِ الكثيرةِ مِن الأذَى عليهِ، وإلا فقَد حصَلَ أنْ قُتِلَ بعضُ الأنبياء، فقُطِعَ رأسُ يحيَى ونُشِرَ زكريَّا بالمنشارِ عليهِما السّلام، قال اللهُ تعالَى حكايةً عنَ حالِ اليَهودِ: ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ  ﲓ، وقال رسولُ الله ﷺ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ([1]) أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا».

(وَ)صَبرُه ﷺ على ما ينزِلُ بهِ مِن هــ(ـذَا) البَلاءِ إنّما هو (مِمَّا يُضَاعِفُ) اللهُ (لَهُ) بِه (الأُجُورَا) ويرفَعُ لهُ بهِ الدَّرجاتِ، وكيفَ لا يكون له ذلكَ وقَد أخبَرَ ﷺ ما يكونُ للمؤمِن الصّابِر على البلاءِ الخفيفِ مِن الثّوابِ الجَزِيل فقال عليه الصّلاةُ والسّلامُ:
«مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» والحديثُ صحيحٌ رواهُ مُسلِمٌ.

 (وَ)قَد خَيَّرَ الله تعالَى نَبِيَّه محمَّدًا ﷺ بينَ أنْ يُدمَّرَ أولئِكَ الظَّلَمةُ بإنزالِ العذابِ فيهِم أو يذَرَهُم، فـ(ـلَوْ) كانَ النّبِيُّ ﷺ (يَشَاءُ) أنْ يَختارَ نُزولَ العذابِ فيهِم بعدَ تخييرِه لـ(ـدُمِّرُوا تَدْمِيرا) وأُهلِكُوا هلاكًا فظيعًا، وذلك أنَّ الله تعالَى قَد بعثَ للنّبِيّ ﷺ ملَكَ الجِبالِ فقال له: “إنْ شِئتُ أَطْبَقْتُ علَيهم الأَخْشَبَين” وَهُما جبَلا أبو قُبَيسٍ والجبَلُ الّذِي يُقابِلُه قُعَيْقِعان بِمَكَّة، فقال ﷺ: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا
»، ولُقِّبَ الجبَلانِ بالأخشَبَينِ لعِظَمِهما وخُشونَتِهما([2]).

(لَكِنَّهُم) أي المشرِكين لَم يَلحَظوا عَفْوَه وحِلمَه ﷺ فهُم معَ ما فَعَلوا لَم يكتَفوا (إِذْ أَضْمَرُوا) أي أسَرُّوا في صدُورِهم (الضَّغَائِنَا) بألِف الإطلاقِ أي أخفَوا الأحقادَ الشّدِيدةَ تُجاهَ رسولِ اللهِ ﷺ بُغيةَ إيذائِهم له والغَدرِ بهِ، ولَكِنَّهُم (مَا مُكِّنُوا) مِن إيقاعِ ما أَضمَرُوه بِه فما استطاعُوا أنْ يَقتلُوه بلد دَفَع اللهُ عنهُ الأذَى الكثيرَ ورَدَّ ذلكَ في نُحورِهم، وامتنَعُوا عن إيذاءِ ذَوِي الشَّرَفِ في قومِهم مِمّن أسلَم لِمَا لَهُم مِن مَنَعةٍ في عَشائِرهم وحِلْفِهم وجِوارِهم، فلَم يَبْقَ إلّا الضُّعفاءُ مِمّن ءامَن (فَـ)ـتوجَّهوا إلى إيذائِهم و(اسْتَضْعَفُوا) أي استَذلُّوا واستَحقَروا وعذَّبوا كثيرًا مِـ(ـمَّنْ ءَامَنَا) بالله وبرسُولِه مِنَ الضُّعفاءِ والمَوالِي.

ورُوِي أنَّ أبا جَهلٍ كانَ إذا سَمِعَ بالرَّجُلِ قَد أسلَمَ وله شرَفٌ ومنَعةٌ أنَّبَهُ وشَتَمهُ وقال له: “ترَكْتَ دِينَ أبِيكَ وهو خَيرٌ مِنكَ، لَنُسَفِّهَنَّ حِلْمكَ([3])، ولنُفَيِّلَنَّ رَأيكَ([4])، ولنَضَعَنَّ شرَفَكَ”، وإنْ كان تاجِرًا قال له: “واللهِ لنُكَسِّدَنَّ تِجارَتَك، ولَنُهْلِكَنَّ مالَكَ”، وإنْ كانَ ضعِيفًا ضرَبَه وأغرَى بِه([5]).

استِضعافُ كُفّارِ قُريشٍ ءالَ ياسِرٍ الكِرامَ

استِضعافُ كُفّارِ قُريشٍ ءالَ ياسِرٍ الكِرامَ

176-        

عَــمَّــارًا الطَّــيِّــبَ أُمَّـهُ أَبَـهْ

 

………………………………………

 






وءَاذَى المشرِكُون (عَمَّارًا) ابنَ ياسِرٍ (الطَّيِّبَ) المطيَّبَ وعَذَّبُوه ليَرجِعَ عن الإسلامِ حتى

تَكَسَّرت بعضُ أضلاعِه وهو ثابِتٌ على الإسلامِ لا يَتَزَلْزَلُ، وذلكَ في السّنة الخامسةِ مِن البِعثةِ([6]). وقد لقَّبَهُ النّاظِمُ “الطَيِّبَ” اقتِداءً برسولِ الله ﷺ، فقد جاء في الحديث الذي رواهُ ابنُ حِبّان في «صحيحِه» وبعضُ أصحاب السُّنَن أنّ عَمَّارًا رضي الله عنه جاء يَسْتَأذِنُ علَى النَّبِيّ ﷺ فقال: «ائْذَنُوا لَهُ، مَرْحَبًا بِالطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ» أي الطاهِر المطهَّر لأنّه كان تقيًّا صالحًا، وهو أحدُ الّذِينَ ورَد في الحديث أنّ الجنّة تشتاقُ إليهِم، ومناقِبُهُ رضي الله عنه كثيرةٌ جِدًّا، وقد قال فيه ﷺ: «مُلِئَ عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ» أي إلى رُؤوس عِظامِه والمعنَى أنّ إيمانَه ثابِتٌ راسِخٌ.

ومِمَّن عَذَّبَهُم المشرِكونَ مِن الضُّعَفاءِ (أُمَّهُ) أي أُمَّ عَمّار بنِ ياسِرٍ سُمَيَّةَ بِنتَ خَيّاطٍ أو خُبّاطٍ([7]) وَعَذَّبُوا (أَبَه) أي أبا عَمّارٍ زوجَ سُمَيّةَ ياسِرَ بنَ عامِرٍ الصَّابِرَ، فكان المُشرِكونَ يأخذُونَ عَمّارًا وياسِرًا وسُمَيَّةَ وابنتَها فيُقَلِّبُونهم ظَهْرًا لِبَطْنٍ في الأرضِ الشِّديدةِ الحَرِّ فيُحرِّقونَهُم، وقد مَرَّ عليهم رَسُول اللهِ ﷺ وهُم يُعَذَّبُون فقال: «صَبْرًا ءَالَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الجَنَّةَ».

ولَم يكَتَفِ أبو جهلٍ بهذا بل تمادَى إلى أنْ طعَن سُمَيّةَ أُمَّ عَمّارٍ بِحَرْبةٍ مِن حَديدٍ في فَخِذِها حتّى بلَغَتْ فَرْجَها فماتَتْ، فقال عَمّارٌ: يا رسولَ اللهِ، بلَغَ مِنّا العَذابُ كُلَّ مَبْلَغٍ فقال ﷺ: «اصبِرْ أبا اليَقْظانِ، اللهم لا تُعَذِّبْ مِنْ ءَالِ ياسِرٍ أَحَدًا بِالنَّارِ».

وماتَ ياسِرٌ وابنتُه بعدَ سُمَيّةَ ونَجا عَمّارٌ، ورُوي([8]) أنّ عَمّارًا رُئِي في ظَهرِه يومًا أثَرٌ كالمِخْيَطِ فسُئِل فقالَ: «هذا مِمّا كانت تُعَذِّبُني به قُرَيشٌ في رَمْضاءِ([9]) مَكّةَ».

استِضعافُ أُمَيّةَ بنِ خلَفٍ بِلالًا الحبَشِيَّ وأُمَّه حَمامةَ

استِضعافُ أُمَيّةَ بنِ خلَفٍ بِلالًا الحبَشِيَّ وأُمَّه حَمامةَ

180-        

……………………………………..

 

أُمَّ بِـلَالٍ وَبِـلَالًا عَـذَّبَــهْ

181-        

أُمَيَّةٌ ……………………………….

 

……………………………………..

 










وعَذَّبَ المشرِكُون أيضًا (أُمَّ بِلَالِ) بنِ رَباحٍ المؤَذِّنِ، اسمُهَا حَمامَة ولقَبُها سَكِينةُ([10])، كانتْ جاريةً لبعضِ بَنِي جُمَحٍ بطنٍ مِن عدنانَ، وهي غيرُ حَمامةَ جاريةِ عائشةَ([11]).

(وَ)أبا عبدِ الكرِيمِ (بِلَالًا) ابنَ رَباحٍ الحبَشِيَّ (عَذَّبَه) مِن المشركِينَ (أُمَيَّةُ) بنُ خَلَفٍ الجُمَحِيُّ أحدُ رؤساءِ مُشرِكي قُريشٍ معَ بعضِ مُشرِكي بنِي جُمَحٍ، وكان بِلالٌ عبدًا مملوكًا لأُمَيّةَ، وكانَ أُميّةُ مُبالِغًا في تَعذِيبِ بِلالٍ وأُمِّه مُنذُ عرَفَ بإسلامِهما، فكانَ يُخرِجُ بِلالًا إذا حَمِيَتِ الظَّهِيرةُ([12]) فيَطرَحُه على ظَهرِه عارِيَهُ في بطحاءِ مكّةَ([13])، ثُمّ يأمُر بالصَّخرةِ العَظِيمة فتُوضَعُ على صَدرِه ويَقولُ له: لا تَزالُ هكذا حتى تَمُوتَ أو تَكْفُرَ بمُحمَّدٍ وتَعبُدَ اللَّاتَ والعُزَّى، فيقولُ بِلالٌ: “أَحَدٌ أَحَدٌ([14])([15]).

ورُوِيَ أنَّ ورَقةَ بنَ نَوفلٍ كان يَمُرُّ ببِلالٍ وهو يُعذَّبُ مُنادِيًا: “أَحَدٌ أَحَدٌ”، فيقول ورَقةُ: “أحَدٌ أحَدٌ واللهِ يا بِلالُ”، ثم يُقْبِلُ ورَقةُ على أُمَيّةَ بنِ خلَفٍ ومَن يُعذِّبُ بِلالًا مِن بَنِي جُمَحٍ فيقولُ لهُم: “أَحلِفُ باللهِ لَئِنْ قَتلتُموهُ على هذا لأَتَّخِذَنَّه حَنَانًا([16])، حتّى مَرَّ أبو بكرٍ الصدِّيقُ رضي الله عنه يومًا ببِلالٍ وهم يُعَذِّبونهُ فقال لأُميَّةَ: ألَا تَتَّقِي اللهَ في هذا المِسكِين؟ حتَّى متَى؟! فقال أُمَيّةُ: أنتَ الّذِي أفسَدْتَهُ فأَنْقِذهُ مِمّا تَرَى، فقال أبو بكرٍ: أفعَلُ، فأعطاه الصِّدِّيقُ رضي الله عنه غُلامًا مِمّن عِندَه مِن المَمالِيكَ الّذين لَم يُسْلِموا وأخَذ بِلالًا مُقابِلَهُ فأَعتَقَه، وقيل: اشتراهُ أبو بكرٍ بخَمسِ أواقٍ أو سَبعٍ([17]).

طُغْيانُ أُمَيّةَ بنِ خلَفٍ وعُتُوُّه ومَقْتَلُه

طُغْيانُ أُمَيّةَ بنِ خلَفٍ وعُتُوُّه ومَقْتَلُه

كانَ أُمَيّةُ بنُ خلَفٍ مِن رؤوسِ الكُفرِ في قُريشٍ وأحدُ الّذينَ ءاذَوا رسولَ الله ﷺ والمُؤمنِينَ إيذاءً شديدًا، وواحِدٌ مِن الّذين صَدُّوا النّاسَ عن الإسلام. وقد نزَلَ في شأنِه بعضُ الآياتِ، مِن ذلكَ أنّه كان إذا رأى النَّبِيَّ ﷺ هَمَزَه ولَمَزهُ([18]) فأنزَل اللهُ سُورةَ الهُمَزةِ([19])، ومِنها أنّه رُوِي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما نُزولُ: ﱡﭐ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ  في أُمَيّةَ بنِ خلَفٍ([20]).

وقَد مكَّن اللهُ بِلالًا مِن قَتلِ أُمَيّةَ في غَزوةِ بَدرٍ، وجاءَ ذلكَ في خبرٍ عند البُخاريّ في «صحِيحه» عن عبدِ الرّحمنِ بنِ عوفٍ رضي الله عنه قال: «كاتَبتُ أُميّةَ بنَ خلَفٍ كتابًا بأنْ يَحفظَنِي في صاغِيَتِي([21]) بمكّةَ وأحفَظَه في صاغِيَتِه بالمدينةِ، فلَمَّا ذكَرتُ الرَّحمنَ([22]) قال: لا أعرِفُ الرَّحمنَ، كاتِبْنِي باسمِكَ الّذي كان في الجاهلِيّة، فكاتَبْتُه عبدَ عَمرٍو، فلَمَّا كان في يومِ بَدرٍ خرَجتُ إلى جبَلٍ لأَحْرِزَه حينَ نامَ النّاسُ، فأبصَرَهُ بِلالٌ فخرَجَ حتّى وقَفَ على مَجلِسٍ مِن الأنصارِ فقال: أُمَيّةُ بنُ خلَفٍ، لا نَجَوتُ إنْ نَجا أُمَيّةُ، فخَرَج معه فَرِيقٌ مِن الأنصارِ في ءَاثارِنا، فلَمَّا خَشِيتُ أنْ يَلْحَقُونا خَلَّفْتُ لَهُم ابنَه لأَشْغَلَهُم فقَتَلُوه ثُمّ أبَوا حتّى يَتْبَعُونا، وكان رَجُلًا ثَقِيلًا([23])، فلَمّا أدرَكُونا قلتُ له: ابْرُكْ، فبَرَكَ، فأَلْقَيتُ عليه نَفْسِي لأَمْنَعَه، فتَخَلَّلُوه بالسُّيوف([24]) مِن تَحتِي حتَّى قَتَلُوه، وأصابَ أحَدُهم رِجْلِي بِسَيفِه»([25]).

وَلَمّا قَتلُوه قال أبو بكرٍ رضي الله عنه فيه أبياتًا منها: [الوافِر]

هَنِيئًا زَادَكَ الرَّحْمَنُ فَضْلًا

¯¯

فَقَدْ أَدْرَكْتَ ثَأْرَكَ يَا بِلَالُ

استِضعافُ المُشركِينَ جاريةَ بَنِي المُؤَمِّلِ وزِنِّيرةَ وأُمَّ عُبَيسٍ وابنتَها وعامرَ بنَ فُهَيرةَ

182-        

كَـذَاكَ أُمُّ عَـنْـبَـسٍ وَابْنَتُـهَا

 

وَابْـنُ فُهَـيْـرةٍ فَـذِيْ سَـبْـعَتُهَا  

183-        

ابْتَاعَهَا الصِّـدِّيـقُ ثُـمَّ أَعْـتَـقْ

 

جَـمِـيـعَـهُـمْ للهِ بَـرَّ وَصَـدَقْ

 











(وَمِنْهُم) أي ومِنَ الَّذِين عُذِّبوا في اللهِ (جَارِيَةُ) بَنِي عَمرٍو مِن بَنِي المؤَمِّل بنِ حَبِيب بن تَمِيم حَيٍّ مِن بَنِي عَدِيٍّ، وكان يقال لها “لَبِيبةُ”، كذا ذكره أبو البَخْتَرِيّ([26]) وهي مِمَّن أسلَمَ بمكّةَ قدِيمًا، وكان عُمَرُ بن الخطّابِ قبلَ أن يُسْلِمَ يُعَذِّبُها ليَرُدَّها عن الإسلامِ، فيَعُذِّبُها حتَّى يَتعبَ فيَدَعُها ويقولُ لها: واللهِ ما أدَعُكِ إلا سَآمةً([27]).

ورُوِيَ أنّ حسّانَ بنَ ثابِتٍ قالَ: قَدِمتُ مكّةَ مُعْتَمِرًا والنَّبِيُّ ﷺ يَدعُو النّاسَ وأصحابُه

يُؤْذَونَ ويُعَذَّبونَ، فوَقَعتُ على عُمرَ وهو مُؤْتَزِرٌ يَخْنُقُ جارِيةَ بَنِي عَمرِو بنِ المُؤَمِّل حتّى
تَستَرخِيَ في يَدِه فأقولُ: قَد ماتَتْ، ثُمّ يُخَلِّي عَنها ثُمّ يَثِبُ على زِنِّيرةَ([28]).

(وَمِنْهُم) أيِ المُستضعَفِينَ مِمّن ءامَنَ (زِنِّيرَةُ الرُّومِيَّةُ) فقد عُذِّبَتْ في اللهِ، والزِّنِّيرةُ واحدةُ الزَّنانيرِ وهي الحصَى الصِّغارُ، وقيل: اسمُها زَنْبَرةُ، قال السُّهَيليُّ([29]): “ولا تُعرَف زَنْبَرةُ في النِّساءِ، وأمّا في الرِّجال فزَنْبَرةُ بنُ زُبَيرِ بنِ مَخزُومِ بن صاهِلةَ بنِ كاهلِ بنِ الحارثِ بنِ تَمِيمِ بنِ سَعدِ بنِ هُذَيلِ بنِ مُدْرِكةَ بنِ إلياسِ بنِ مُضَرَ، وابنُه خالدُ بنُ زَنْبَرةَ”.

وكانَت زِنِّيرةُ أَمَةً لِبَنِي عَبدِ الدّارِ أو بَنِي مخزومٍ([30])، فلَمَّا أسْلَمَت عَمِيَتْ مِن شِدّةِ ما عُذِّبَتْ، وكان أبو جَهلٍ يقولُ: ألَا تَعجَبُونَ لهؤلاءِ واتِّباعِهم مُحمَّدًا؟ فلو كان أمرُ مُحمَّدٍ خيرًا وحَقًّا ما سبَقُونا إليهِ، أفَسَبَقَتْنا زِنِّيرةُ إلى رَشَدٍ وهي مَن تَرَوْنَ؟! فقال لها أبو جَهلٍ: إنَّ اللَّاتَ والعُزَّى فعَلَتا بكِ ما تَرَينَ، فقالَتْ: وما يُدرِي اللَّاتَ والعُزَّى مَن يَعبُدُها مِمَّن لا يَعبُدُها، ولكِن هذا أمرٌ مِن رَبِّ السَّماءِ، ورَبِّي قادِرٌ علَى أنْ يَرُدَّ بصَرِي، فأصبَحَتْ مِن تِلكَ اللَّيلةِ وقَد رَدَّ اللهُ علَيها بَصَرَها، فقالتْ قُرَيشٌ: هذا مِن سِحْرِ مُحمَّدٍ([31]).

و(كَذَاكَ) مِمَّن عُذِّبَ في اللهِ (أُمُّ عَنْبَسٍ) والصَّوابُ فيها: “عُبَيْس” بضمّ العَين المُهمَلة وفَتحِ الباء المُوحَّدة وتسكِين الياء تحتَها نُقْطَتان وءاخِرَه سِينٌ مُهمَلةٌ([32])، وقِيلَ: “عُنَيْس”

بِعَينٍ مُهمَلةٍ مَضمومةٍ فنُونٍ فمُثَنّاةٍ تَحتِيّةٍ فسِينٍ مُهْمَلةٍ([33]).

قال الشيخ بُرهانُ الدِّين الحَلَبِي([34]) في «نُور النِّبْراس» ما نصُّه: “الظّاهرُ أنّ شيخَنا نَظَمهُ أُمّ عَنْبَس بِنُون بَعد العَين ثمّ باءٍ مُوَحَّدة، ولكن هذا تصحيف فيما أعلَمُ، وإنّما هي عُبَيْسٍ بِضَمّ العَين وبَعدها باءٌ مُوَحَّدة أو نُونٌ بَعدهَا ياءٌ ساكِنةٌ، فلو قال بَدَل الشَّطر الأوَّلِ: “أُمُّ عُبَيْسٍ وَكَذَاكَ ابْنَتُهَا” لطابق الصواب” اهـ.

وكانتْ أُمُّ عُبَيسٍ أَمَةً لِبَنِي زُهْرةَ([35]) أو تَمِيم بنِ مُرّةَ([36]) وواحِدةً مِمّن سَبَق إلى الإسلامِ بمكّةَ، وهي زَوجُ كُرَيزِ بنِ رَبِيعةَ وولَدَتْ له عُبَيسًا فكُنِّيَتْ بِه، قاله الشَّعْبيُّ([37]).

وكانتْ أُم عُبَيْسٍ يُعذِّبُها الأسودُ بن عَبْدِ يَغُوثَ الزُّهرِيُّ ابنُ خالِ النَّبِيّ ﷺ، وقَد سبَقَ خبرُ هلاكِهِ بمرَضِ الاستِسقاءِ.

وأمّا قولُ النّاظِم: (وَابْنَتُهَا) فيُفهَمُ مِنه أنَّها ابنةُ أُمِّ عُبَيْسٍ، وهذا الّذي لم نَعثُر عليهِ في شىءٍ مِن كُتُبِ السَّيرِة والتّراجِم والتّاريخ، بِما فيها أصلُ هذه المنظومة أعني كتابَ «الإشارة» للحافظ مُغْلَطاي، بَينَما نَجِدُ أنَّ النّاظِمَ قدَ أسقَطَ أَمَةً مِن المُعَذَّباتِ في اللهِ مع ابنَتِها وذكَرَهُما أهلُ السِّيَر والترّاجِم والتّاريخ وهما “النَّهْدِيّةُ” وابنَتُها، وهذه الأَمةُ المُسَمّاة النّهدِيّةُ هي مُولَّدةٌ لِبَنِي نَهْدِ بنِ زَيدٍ ثُمّ صارَتْ لامرأةٍ مِن بَنِي عَبدِ الدّارِ، فلَمَّا أسلَمَتِ النَّهْدِيّةُ كانَتْ تُعَذِّبُها هذه المرأةُ وتقولُ لَها: واللهِ لا أَقْلَعتُ عَنكِ أو يُعْتِقَكِ([38]) بعضُ صُباتِكِ([39])، فأتاها أبو بَكرٍ رَضِيَ الله عنه فأعتَقَها، وكان معها طَحِينٌ أو نَوًى لمَولاتِها يومَ أعتَقَها فرَدَّتهُ علَيها([40]).

(وَ)كَذلِكَ عُذِّبَ في اللهِ مِن السّابقِينَ إلى الإسلامِ أبو عَمرٍو عامِرٌ (ابْنُ فُهَيْرةَ) وكان عَبْدًا لِلطُّفَيلِ بنِ عبدِ الله بنِ سَخْبَرةَ الأزْدِيّ أخِي عائشةَ لِأُمِّها أُمِّ رُومانَ، وكان مُولَّدًا مِن مُولَّدِي الأَزْد، وقد أسلَم قَدِيمًا قبل دخولِ النَّبِيّ ﷺ دارَ الأرقَمِ([41])، فاشتَراه أبو بكرٍ رضي الله عنه فأعتَقَه وخلَّصَهُ مِن العذابِ الّذي كانَ فيهِ، وكان يَرعَى  لأبي بكرٍ بعضَ الغنَمِ([42]). هاجَرَ عامِرٌ رضي الله عنه إلى المدِينة فنَزل على سَعدِ بنِ خَيْثَمة، وقد ءاخَى النّبِيُّ ﷺ بينَه والحارِثِ بنِ أَوْسٍ.

شَهِد عامِرٌ بَدْرًا وأُحُدًا وقُتِلَ يومَ بِئرِ مَعُونةَ سنة أربعٍ مِن الهِجرة وكانَ يومَ قُتِلَ ابنَ أربعينَ سنةً رضي الله عنه([43]). ورُوِيَ عَن عُروةَ قال: طُلِبَ عامِرٌ يومَئِذٍ في القتلَى فلَم يُوجَد، فيَرَونَ أنَّ الملائكةَ دَفَنَتْهُ([44]).

(فَذِي) المَوالِي المذكورةُ أخيرًا (سَبْعَتُهَا) مِن المُستَضعَفِينَ، وقَدِ (ابْتَاعَهَا) أي اشتَراها

جمِيعَها أبُو بَكرٍ (الصِّدِّيقُ) رضي الله عنه، وهُم بِلالٌ وعامِرُ بنُ فُهَيرةَ وزِنِّيرَةُ وأُمُّ عُبَيسٍ والنَّهْدِيّةُ وابْنَتُها وجارِيةُ بَنِي عَمرِو مِن بَنِي المُؤَمِّلِ([45]).

 (ثُمَّ أَعْتَقَ جَمِيعَهُم) لا لغرَضٍ دُنيَوِيّ بل كان ذلك (للهِ) أي ابتِغاءَ مَرضاةِ الله عزَّ وجلَّ، وَقَدْ (بَرَّ) أي أحسَنَ أبو بكرٍ بِمَن أعتَقَهُم (وَصَدَقَ) حِينَ وافَقَ قَصدُهُ ما أبداهُ في كَونِه فَعَل ذَلِك للهِ تعالَى.

وكان الصِّدّيقُ رضي الله تعالى عنه إذا مَرَّ بأحد من الموالي مِن المؤمنِينَ يُعَذَّب يَشتَرِيهِ مِن مَوالِيه ويُعتِقُه، حتّى قال له أبوه أبو قُحافةَ: يا بُنَيَّ أراكَ تُعتِقُ رِقابًا ضِعافًا فلَو أعتَقْتَ قَومًا جَلَدًا يَمْنعُونَك، فقال له أبو بكرٍ: إنِّي أُرِيدُ ما أُرِيدُ([46]).

وروَى الحافِظُ ابنُ عساكِرَ عن نافعٍ عنِ ابنِ عُمرَ قال: أسلَمَ أبو بَكرٍ يومَ أسلَمَ وفي مَنزِلِه أربعونَ ألفَ دِرهَمٍ، فخَرَج إلى المدينةِ مِن مكّةَ في الهِجرةِ وما له غَيرُ خَمسةِ ءَالافٍ، كُلَّ ذلكَ يُنفِقُ في الرِّقابِ والعَونِ على الإسلامِ([47]).



([1])  أي قتلَه في سَبِيل الله فالمقتولُ كافِرٌ، فلا يَدخُل في ذلكَ مَن أمرَ النّبيُّ بإقامةِ الحَدِّ عليهِ مِن المؤمنِينَ، قاله ابنُ الملقِّن في «التّوضيح» (28/211).

([2])  فَتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (1/76).

([3])  أي نَنسُبَنَّ عَقلَكَ إلى السَّفَهِ.

([4])  أي نُخَطِّئَنَّهُ.

([5])  سُبل الهُدى والرَّشاد، محمد الصّالحِي الشّامي، (2/357).

([6])  إنسان العُيون في سيرة الأمِين المأمون، نور الدِّين الحلَبي، (3/521).

([7])  الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، (8/189).

([8])  الطبقات الكبرى، أبو عبد الله بن سَعد، (3/248).

([9])  أي أرضِها شديدةِ الحَرارِة.

([10])  إمتاع الأسماع، تقي الدين المَقرِيزي، (9/110).

([11])  الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، (8/88).

([12])  أي اشتَدَّ الحَرُّ نِصفَ النّهارِ.

([13])  أي أرضِها ورِمالِها.

([14])  أي هو اللهُ إلهٌ واحِدٌ لا شريكَ لهُ.

([15])  بَهجة المحافل وبُغية الأماثل، يَحيَى العامِري الحَرَضِي، (1/93).

([16])  أي لأتَّخِذَنَّ قَبرَه مَنْسَكًا ومُسْتَرحَمًا، قاله السُّهيليُّ في «الرَّوض الأُنُف». ويُمكِنُ للقائِل بإسلامِ ورقةَ مِن أهلِ السُّنّة أنْ يَستدِلَّ بذلكَ على جَوازِ التّبرُّكِ بقبورِ الصّالِحِينَ والتّوسُّلِ بهِم إلى الله تعالَى طلبًا مِنهُ عزَّ وجلَّ لنُزولِ الرَّحماتِ.

([17])  سُبل الهُدى والرَّشاد، محمد الصّالحِي الشّامي، (2/358).

([18])  أي شَتَمهُ وعابَهُ.

([19])  لُباب النُّقول، جلال الدِّين السُّيوطي، (ص/216).

([20])  المصدر السّابِق، (ص/130).

([21])  أي خاصَّتِي، أهلي ومَالِي.

([22])  أي ذكَر اسمَهُ “عبدَ الرَّحمنِ”.

([23])  أي ضَخْمَ الجُثّةِ.

([24])  أي أدخَلُوها مِن كُلِّ جانِبٍ.

([25])  قال المُّلا شهاب الدِّين الكوراني: “فإنْ قُلتَ: كيفَ لَم يَقْبَلُوا أمانَ عبدِ الرّحمنِ لأُمَيّةَ وقد قال رسولُ اللهِ ﷺ: «ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ»، قُلتُ: ليسَ في الحديثِ أنَّه أمَّنَهُ أو لَم يَعْرِفِ الأنصارُ سِرايةَ أمانِهِ ونَفاذَه”.  يُنظر: الكوثَر الجاري، شهاب الدِّين الكوراني، (5/20).

([26])  الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، (8/301).

([27])  الطبقات الكبرى، أبو عبد الله بن سَعد، (8/256).

([28])  إمتاع الأسماع، تقي الدين المَقرِيزي، (9/112).

([29])  الرَّوض الأُنُف، أبو القاسم السُّهَيلي، (3/221).

([30])  أُسْد الغابة في معرِفة الصحابة، ابن الأثير الجزري، (6/123).

([31])  أنساب الأشراف، يحيى البلاذُرِيّ، (1/196).

([32])  أُسْد الغابة في معرِفة الصحابة، ابن الأثير الجزري، (6/365).

([33])  سُبل الهُدى والرَّشاد، محمد الصّالحِي الشّامي، (2/361).

([34])  نُور النِّبْراس على سِيرةِ ابنِ سَيِّد النّاس، بُرهانُ الدِّين الحَلَبِي، (1/112).

([35])  إمتاع الأسماع، تقي الدين المَقرِيزي، (9/113).

([36])  المصدر السّابِق، (1/36).

([37])  الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، (8/434).

([38])  أي إلى أنْ يُعتِقَكِ.

([39])  تَعنِي بالصُّباةِ الّذينَ أدخَلُوها في الإسلامِ.

([40])  إمتاع الأسماع، تقي الدين المَقرِيزي، (9/113).

([41])  الطبقات الكبرى، أبو عبد الله بن سَعد، (3/230).

([42])  المصدر السّابِق.

([43])  المصدر السّابِق.

([44])  أُسْد الغابة في معرِفة الصحابة، ابن الأثير الجزري، (3/33).

([45])  الرياض النَّضِرة في مَناقِب العَشَرة، مُحِبّ الدِّين الطبري، (1/133).

([46])  عيون الأثَر، ابن سيّد النّاس، (1/130).

([47])  أي نُصرَتِه.