الأربعاء ديسمبر 4, 2024

بابٌ فيه (ذِكرُ) مُعجِزةِ (انْشِقاقِ القَمَرِ) لإشارَةِ النَّبِيّ محمّدٍ ﷺ

تَحَدِّي مُشرِكِي قُريشٍ النَّبِيَّ ووقوعُ انشِقاقِ القَمَرِ

180-        

وَإذْ بَغَـتْ مِنْهُ قُرَيْـشٌ أَنْ يُرِيْ

 

ءَايًا أَرَاهُـمُ انْشِـقَـاقَ القَـمَـرِ

181-        

فَصَـارَ فِـرْقَتَينِ فِرْقَـةٌ عَـلَـتْ

 

وَفِرْقَـةٌ لِلطَّـوْدِ مِنْهُ نَـزَلَـتْ

ليُ











علَم أنَّ مُعجِزاتِ النَّبيّ محمَّد ﷺ كثيرةٌ ودلائِلَ نُبُوّتِه وبَراهِينَ صِدْقِه غزيرةٌ، وهو ﷺ أكثرُ الرُّسُل مُعجِزةً وأبهَرُهم ءايةً، ومِن أبهَرِ تلكَ المعجزِاتِ انشقاقُ القَمرِ لإشارَتِه ﷺ في السّنةِ التاسعةِ مِن البِعثةِ الشَّريفةِ([1]).

والخبرُ في ذلك أنّ النّبيَّ ﷺ خرَجَ بمكّةَ في لَيلةٍ مُقْمِرةٍ ومعَه نفَرٌ مِن أصحابِه،  اجتازَ بنَفَرٍ مِن المُشركِينَ (وَإذْ) أي وحينَ (بَغَتْ) أي طَلَبَت (مِنْهُ)(قُرَيْشٌ) أي بعضُ مُشرِكِيها (أَنْ يُرِيَـ)ـهُم (ءَايًا) جَمعُ ءَايَةٍ، أي علامَةً على صِدْقِه في دَعواه النُّبُوّة قائلِينَ له: يا محمَّدُ، إنْ كُنتَ رَسولَ اللهِ كما تَزعُمُ فاسْأَلْ رَبَّكَ أنْ يَشُقَّ هذا القمَرَ، فـ(ـأَرَاهُمُ) النَّبِيُّ ﷺ (انْشِقَاقَ القَمَرِ) بِمَكَّة لَيلةَ أَرْبَعَ عَشْرةَ، وذلكَ بإشارةٍ مِنهُ ﷺ إلى القَمَرِ (فَصَارَ) القَمَرُ عندئذٍ مُفتَرِقًا (فِرْقَتَينِ) حَقِيقِيَّتَين مُتباعدَتَينِ في جَوِّ السَّماءِ، فـ(ـفِرْقَةٌ) مِنَ الفِرْقَتَين (عَلَتْ) فوقَ جَبَل أبي قُبَيسٍ تلُوحُ للنّاظِر مِن نواحِي الجبَلِ (وَفِرْقَةٌ) ثانِيةٌ مِنَ القَمرِ تَبدُو وكأنَّها (لِلطَّوْدِ) أي لِجهَةِ الجَبَلِ بِحَسَبِ مَرأى النّاظِر لَكِنّها (مِنْهُ) أي عَن الجَبلِ نازِلةٌ في رأيِ العَينِ فيظنُّها أنَّها (نَزَلَتْ) عنهُ ارتفاعًا.

وفي ذلكَ يقول تاجُ الدِّين عبدُ الوهّابِ السُّبكيّ في تائيّتِه:

وَبَدْرُ الدَّيَاجِي انْشَقَّ نِصْفَيْنِ عِنْدَمَا

¯¯

أَرَادَتْ قُرَيْـشٌ مِنْكَ إِظْـهَارَ ءَايَةِ

إثباتُ وقوعِ مُعجِزةِ انشِقاقِ القمَرِ مَرَّةً على الصّحِيحِ

إثباتُ وقوعِ مُعجِزةِ انشِقاقِ القمَرِ للنَّبِيّ محمَّدٍ مَرَّةً على الصّحِيحِ

 

182-        

وَذَاكَ مَــرَّتَـيْـنِ بِـالإِجْـمَـاعِ

 

……………………………………..

 






(وَ)قَد كانَ (ذَاكَ) الانفِلاقُ انفِلاقَ (مَرَّتَيْنِ) أي إلى فِرْقَتَينِ عظِيمتَينِ، فليس المرادُ بـ”مَرَّتَين” انشقاقَين في وقتَينِ مختلِفَينِ بل كونُه انشقاقًا مرّةً واحدةً فِرقتَينِ هو الّذي لا يَصِحُّ غيرُه، فيَتعيَّنُ حَملُ إخبارِ المصنِّف أنَّ حصولَه مرَّتَينِ كانَ (بِالإِجْمَاعِ) على انشِقاقِه فِلْقتَينِ، وقد رَوى مُسلِمٌ في «صَحِيحِه» مِن حديث أنسٍ رضي الله أنّ أهلَ مَكَّةَ سَألُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ أنْ يُرِيَهُم ءايَةً أي علامةً فَأَرَاهُمُ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ.

وقال الحافِظ العَسقلَانِيُّ: “ووَقَع في نَظْم السِّيرة لِشَيخِنا الحافظِ أبي الفَضْل: “وانْشَقَّ مَرَّتَينِ بالإِجْماِع”، ولا أَعرِفُ مَن جَزَم مِن عُلَماءِ الحَدِيث بِتَعَدُّد الانْشِقاقِ في زَمَنِه ﷺ ولم يَتَعَرَّض لِذَلِك أحَدٌ مِن شُرَّاحِ الصَّحِيحَين”، إلى أنْ قالَ: “ثم راجَعتُ نَظْمَ شَيخِنا فوَجَدتُه يَحتَمِل التَّأوِيلَ المذكُورَ ولَفْظُهُ:

فَصَارَ فِرْقَتَيْنِ فِرْقَةٌ عَلَتْ

¯¯

وَفِرْقَةٌ لِلطَّوْدِ مِنْهُ نَزَلَتْ

وذَاكَ مَرَّتَيْنِ بِالإِجْمَاعِ

¯¯

وَالنَّصِّ وَالتَّوَاتُرِ السَّمَاعِيْ

“فَجَمَعَ بَين قَولِه “فِرْقَتَيْنِ” وبَين قَولِهِ “مَرَّتَيْنِ”، فيُمكِنُ أنْ يَتَعَلَّق قَولُه “بِالإِجْمَاعِ” بِأَصلِ الانشِقاقِ لا بالتَّعَدُّدِ”([2]).

وقال الشِّهابُ القَسطَلّانيُّ([3]): “ولعَلَّ قائِلَ “مَرَّتَينِ” أرادَ فِرقَتَين، وهذا الذِي لا يَتَّجِه غَيرُه جَمْعًا بينَ الرِّواياتِ. وقد وقع في رواية البخارِيّ مِن حَدِيث ابنِ مسعودٍ: «وَنَحْنُ بِمِنًى»، وهذا لا يُعارِضُ قولَ أنَسٍ: “إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَكَّةَ”، لأنه لم يُصَرِّح بأنّه ﷺ كان لَيْلَتَئِذٍ بِمَكَّة، فالمرادُ أنّ الانشِقاقَ كانَ وَهُم بِمَكَّة قبلَ أن يُهَاجِرُوا إلى المدِينَةِ”.

الأدِلّةُ النّصِّيّةُ على وُقوعِ الانشِقاقِ الحقيقيّ للقمَر

الأدِلّةُ النّصِّيّةُ على وُقوعِ الانشِقاقِ الحقيقيّ للقمَرِ

186-        

……………………………………..

 

وَالنَّـصِّ وَالتَّـوَاتُـرِ السَّـمَـاعِيْ







(وَ)مُعجِزةُ انشِقاقِ القَمَرِ للنَّبِيّ ﷺ ثابِتةٌ بالإِجماعِ لا نِزاعَ فِيهَا كما أنَّها ثابتةٌ بـ(ـالنَّصِّ) القُرءانِيّ والحديثِيّ.

أمّا النصُّ القُرءانيُّ فقولُه تعالَى: ﱡﭐ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ أي مضَى انشِقاقُه. قال المَقرِيزيُّ: “وعلى هذا جميعُ أئِمّة التَّفسِير إلا ما رَوى عُثمانُ بنُ عَطِيّةَ عن أبِيه قال: معناهُ سيَنشَقُّ القمَرُ، وهو قولُ الحسَنِ، وأهلُ العِلم بالحديثِ والتَّفسِيرِ جَمِيعُهم على خِلافِه. والأحاديثُ الصّحِيحةُ الثابِتةُ بِنَقلِ الثِّقاتِ ناطِقةٌ بأنَّ هذه الآيةَ([4]) قد مَضَتْ، ويُؤَيِّدُ ذلك قولُه تعالَى: ﱡﭐ ﲠ ﲡ   فأتَى بِلَفظِ ماضٍ، وحَملُ الماضِي على المُستقبَلِ يَحتاجُ إلى قَرِينةٍ ودَلِيلٍ، فإنّه لا يُعْدَل عن ظاهِر النَّصِّ إلا بِدَليلٍ”([5]).

وأمّا النُّصوصُ الحَدِيثيّةُ فكثيرةٌ رواها جماعةٌ مِن كِبارِ الصَّحابةِ مِنهمُ عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ وعبدُ اللهِ بنُ عُمرَ وحذيفةُ رضي الله عنهم، منها ما رواهُ البخاريُّ في «صحِيحِه» عن ابنِ مسعودٍ قال: انشَقَّ القمَرُ على عَهدِ رسولِ اللهِ ﷺ شِقَّتَينِ فقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اشْهَدُوا». وقال عِياضٌ: “وأكثَرُ طُرُق هذه الأحاديثِ صَحِيحةٌ والآيةُ مُصَرِّحةٌ”([6]) ا.هـ.

(وَ)بَلَغ حَدَّ (التَّوَاتُرِ السَّمَاعِي) أي بِالسَّمَاعِ مِن الجَمِّ الغَفِيرِ فَحَصَل به العِلْمُ اليَقِينِيُّ. وقد ذهبَ إلى القولِ بتواتُرِ خبَرِ انشقاقِ القمَرِ جماعةٌ مِن المتكلِّمين والحُفّاظِ كالإمامِ

أبي منصورٍ الماتريديّ([7]) والعضُدِ الإيجيّ([8]) والشَّمسِ القُرطبيّ([9]) والقاضي عِياضٍ([10]) والتّقيّ المَقرِيزيّ([11]) وابن حجرٍ العسقلانِيّ([12]) والشّهابِ القَسطلّانيّ([13]) وغيرِهم.

رَدُّ الحُفّاظِ على شُبَهِ المُنْكِرِينَ لحصولِ انشِقاقِ القمَرِ

رَدُّ الحُفّاظِ على شُبَهِ المُنْكِرِينَ لحصولِ انشِقاقِ القمَرِ

واعلَم رَحِمكَ اللهُ أنّ كَثرةَ المُشكِّكِينَ بوقوعِ حادثةِ انفِلاقِ القمَرِ مُعجِزةً للنّبيّ ﷺ لا تُبدِّلُ الحقيقةَ ولا تَقلِبُ الحقَّ باطِلًا، سواءٌ كانَ كلامُهم على انشِقاقِ القمَرِ أو غيرِه مِن مُعجِزاتِ النّبيّ ﷺ الثّابتةِ المُتواتِرةِ.

لَكِن لَمَّا أورَدَ هؤلاءِ المَلاحِدةُ والفَلاسفةُ شُبَهًا مَنشؤُها الوَهمُ والعِنادُ مِن أجلِ نَفْيِ الحَقِّ قامَ العُلماءُ بالتصَدِّي لهُم وتفنيدِ دَعواهُم وتزييفِ أوهامِهم، وَمِن ذلكَ ما رَدَّ بهِ الحافظُ العسقلانيُّ على بعضِ شُبَهِهم، ونَصُّ كلامِه([14]) هذا: “وقد أنكَر جُمهورُ الفلاسِفةِ انشِقاقَ القمَرِ مُتَمسِّكِينَ بأنَّ الآياتِ العُلْوِيّةَ لا يَتهيَّأُ فيها الانخِراقُ والالْتِئامُ، وكذا قالوا في فَتحِ أبوابِ السَّماءِ لَيلةَ الإسراءِ إلى غَيرِ ذلكَ مِن إنكارِهم ما يكونُ يومَ القِيامةِ مِن تَكويرِ الشَّمْسِ وغَيرِ ذلكَ.

وجوابُ هؤلاءِ إنْ كانوا كُفَّارًا أنْ يُناظَروا أوَّلًا على ثُبوتِ دِينِ الإسلامِ ثُم يُشْرَكُوا معَ غَيرِهم مِمَّن أنكَرَ ذلك([15]) مِن المُسلِمِين، ومتَى سَلَّم المُسلِمُ بعضَ ذلكَ دُونَ بَعضٍ أُلْزِمَ التّناقُضَ، ولا سَبِيلَ إلى إنكارِ ما ثَبَت في القُرءانِ مِن الانخِراقِ والالْتِئامِ في القِيامةِ، فيَسْتَلزِمُ جَوازَ وُقوعِ ذلكَ معجزةً لِنَبِيّ اللهِ ﷺ.

وقد أجابَ القُدَماءُ عن ذلك فقال أبو إسحاقَ الزَّجّاجُ في «مَعانِي القرءانِ»: أنْكَرَ بعضُ المُبْتَدِعةِ المُوافقِينَ لِمُخالِفي المِلَّةِ انشِقاقَ القمَرِ ولا إنكارَ لِلعَقلِ فيهِ، لأَنَّ القَمرَ مَخلوقٌ للهِ يَفعلُ فيهِ ما يَشاءُ كما يُكَوِّرُهُ يومَ البَعْثِ ويُفْنِيهِ، وأمّا قَولُ بَعضِهم: لو وَقَع لجاءَ مُتَواتِرًا واشْتَرَكَ أهلُ الأرضِ في مَعرِفَتِه وَلَمَا اختَصَّ بها أهلُ مكّةَ، فجَوابُه أنّ ذلكَ وقَعَ لَيلًا وأكثَرُ النّاسِ نِيامٌ والأَبوابُ مُغْلقةٌ، وقَلَّ مَن يُراصِدُ السَّماءَ إلّا النادِرَ، وقَد يَقَعُ بالمُشاهَدةِ في العادةِ أنْ يَنكَسِفَ القمَرُ وتَبدُوَ الكواكِبُ العِظامُ وغيرُ ذلكَ في اللَّيلِ ولا يُشاهِدُها إلّا الآحادُ، فكذلكَ الانشِقاقُ كانَ ءايةً وقَعَتْ في اللَّيلِ لِقَومٍ سأَلُوا واقْتَرحُوا فلَم يَتأهَّبْ غيرُهم لَها، ويَحتَمِلُ أنْ يَكونَ القمَرُ لَيلتَئِذٍ كانَ في بَعضِ المَنازِل الّتي تَظهَرُ لِبَعضِ أهلِ الآفاقِ دُونَ بَعضٍ كما يَظهَرُ الكُسوفُ لِقَومٍ دُونَ قَومٍ.

وقال الخَطّابيُّ: انشِقاقُ القمَرِ ءايةٌ عَظِيمةٌ لا يَكادُ يَعْدِلُها شىءٌ مِن ءاياتِ الأنبِياءِ، وذلكَ أنّهُ ظهَرَ في ملَكُوتِ السَّماءِ خارِجًا مِن جُملةِ طِباعِ ما في هذا العالَمِ المُرَكَّبِ مِن الطّبائِع، فلَيسَ مِمّا يُطْمَعُ في الوُصولِ إليه بحِيلةٍ، فلذلكَ صارَ البُرهانُ بِه أظهَرَ.

وقد أنكرَ ذلكَ بعضُهم فقال: لو وقَعَ ذلك لَم يَجُزْ أنْ يَخفَى أمرُه على عَوامِّ النّاسِ لأنّه أمرٌ صدَرَ عَن حِسٍّ ومُشاهَدةٍ فالنّاسُ فيهِ شُرَكاءُ والدَّواعِي مُتوفِّرةٌ على رُؤيةِ كُلِّ غَريبٍ ونَقْلِ ما لَم يُعْهَدْ، فلو كانَ لذلكَ أصلٌ لَخُلِّدَ في كُتبِ أهلِ التَّسيِيرِ والتَّنجِيم إذْ لا يَجوزُ إطباقُهم على تَرْكِه وإغفالِه معَ جَلالةِ شأْنِه ووُضوحِ أمرِه.

والجوابُ عَن ذلكَ أنّ هذه القِصّةَ خرَجَتْ عن بَقِيّةِ الأُمورِ الّتي ذكَرُوها لأنّه شىءٌ طلَبَهُ خاصٌّ مِن النّاسِ فوَقَع لَيلًا لأنّ القمَرَ لا سُلْطانَ له بالنَّهار، ومِن شأْنِ اللَّيلِ أن يَكونَ أكثرُ النّاسِ فيه نِيامًا ومُسْتَكنِّينَ بالأَبنِيةِ، والبارِزُ بالصَّحراءِ مِنهُم إذَا كانَ يَقْظانَ يَحتمِلُ أنه كان في ذلكَ الوَقتِ مَشغولًا بما يُلْهِيهِ مِن سَمَرٍ وغَيرِه، ومِن المُستَبعَدِ أنْ يَقصِدوا إلى مَراصِد مَركَزِ القمَرِ ناظِرِينَ إليه لا يَغْفلُونَ عَنهُ، فقَد يَجوزُ أنه وقَعَ ولَم يَشْعُرْ به أكثَرُ النّاسِ وإنَّما رَءاهُ مَن تَصَدَّى لِرُؤيَتِه مِمَّنِ اقتَرَحَ وُقوعَه، ولعَلَّ ذلك إنَّما كانَ في قَدْرِ اللَّحْظةِ الَّتِي هي مَدْرَكُ البَصَر، ثُمّ أَبدَى حِكمةً بالِغةً في كَونِ المُعْجِزاتِ المُحَمَّدِيّةِ لَم يَبْلُغْ شىءٌ مِنها مَبْلَغَ التَّواتُر الّذي لا نِزاعَ فِيهِ إلَّا القُرءانَ بِما حاصِلُه أنَّ مُعجِزةَ كُلِّ نَبِيٍّ كانتْ إذَا وقَعَتْ عامّةً أَعقَبَتْ هَلاكَ مَن كَذَّبَ بِه مِن قَومِه للاشْتِراكِ في إدراكِها بالحِسِّ، والنَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ رَحمةً فكانَتْ مُعجِزَتُه الَّتي تَحَدَّى بها عَقْلِيّةً فاختصَّ بها القَومُ الّذِينَ بُعِثَ مِنهُم لِمَا أُوتُوه مِن فَضلِ العُقولِ وزِيادةِ الأفهامِ، ولو كان إدراكُها عامًّا لعُوجِلَ مَن كَذَّبَ بِه كما عُوجِلَ مَن قَبْلَهُم.

وذكَر أبو نُعَيمٍ في «الدلائِل» نحوَ ما ذكرَه الخَطّابي وزادَ: ولا سِيَّما إذا وقَعَتِ الآيةُ في بَلْدةٍ كان عامّةُ أهلِها يومَئِذٍ الكُفّارَ الّذِين يَعتَقِدُونَ أنّها سِحرٌ ويَجتهِدُونَ في إطفاءِ نُورِ اللهِ([16]). قلتُ: وهو جَيِّدٌ بالنِّسبةِ إلى مَن سأَلَ عَنِ الحِكمةِ في قِلَّةِ مَن نَقَلَ ذلكَ مِن الصَّحابةِ، وأمَّا مَن سألَ عَنِ السَّبَبِ في كَونِ أهلِ التَّنجِيمِ لَم يَذكرُوهُ فجَوابُه أنّه لَم يُنْقَلْ عن أحَدٍ مِنهُم أنه نَفاهُ، وهذا كافٍ فإنَّ الحُجّةَ فِيمَن أَثبَتَ لا فِيمَن يُوجَدُ عنه صَرِيحُ النَّفْيِ، حتَّى إنَّ مَن وُجِدَ عَنهُ صَرِيحُ النَّفْيِ يُقَدَّمُ علَيهِ مَن وُجِدَ مِنهُ صَرِيحُ الإِثباتِ” انتَهى كلامُ الحافظ العسقلانِيّ.

افتِراقُ النّاسِ المُعاينِينَ لانشِقاقِ القمَرِ فريقَينِ

افتِراقُ النّاسِ المُعاينِينَ لانشِقاقِ القمَرِ فريقَينِ

187-        

زَادَ الَّـذِيـنَ ءَامَـنُـوا إِيـمَانَا 

 

وَلِأَبِي جَـهْـلٍ بِـهِ طُـغْـيَانَا 

188-        

وَقَـالَ ذَا سِـحْرٌ فَـجَاءَ السَّـفْرُ 

 

كُــلٌّ بِـهِ مُصَــدِّقٌ مُـقِـرُّ 

لَمّا رأى بعضُ النّاسِ انشِقاقَ القمَرِ لإشارَةِ النّبيّ ﷺ









(زَادَ) هذا الأمرُ الفريقَ (الَّذِينَ ءَامَنُوا إِيمَانا) أي ثُبوتًا ورُسخوًا وتصديقًا، وهو شأنُهم إذا أخبَرَهم النّبيُّ ﷺ بأمرٍ أو نَزَلَ عليه حُكمٌ أو ءايةٌ، قال الله تعالَى: ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ  ﱝ    ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ.

وأمّا الّذِينَ كفَروا باللهِ ورسولِه فقد زادُوا غَيًّا وعُدوانًا وتكذِيبًا (وَ)حَصَلَ (لِأَبِي جَهْلٍ) ومَن مَعه مِن الكُفّارِ (بِـ)ـسبَبِـ(ـهِ) أي انْشِقاقِ القمَر ومُعاينَتِهم له زيادةُ عِنادٍ وتَعَنُّتٍ وتَكَبُّرٍ فطغَوا بذلكَ (طُغْيَانَا) فوقَ طُغيانِهم أي ظُلمِهِمُ المُتمادِي.

(وَ)لَمّا بلغَ أبو جَهلٍ  ومَن معهُ مِن الكافرِينَ مِنَ التّغَيُّظِ ما بلَغُوا (قَالَـ)ـوا: “هــ(ـذَا سِحْرٌ) سحَرَكُموهُ ابنُ أبي كَبْشةَ([17])، فقال بعضُهم: لَئِنْ كان سَحَرَنا ما كان يَستطِيعُ أنْ يَسحَرَ النّاسَ كُلَّهم، فابعَثُوا إلى الآفاقِ لِتَنظُروا أرَأَوا ذلكَ أمْ لا”، (فَـ)ـأَخبَرَ أهلُ الآفاقِ أنّهُم رَأَوُا القمرَ مُنْشَقًّا، وَ(جَاءَ السَّفْرُ) أي الْمُسافِرُونَ مِن الآفاقِ مِن كُلِّ وِجْهةٍ (كُلٌّ) مِنهُم مُوقِنٌ (بِهِ) أي بانشِقاقِ القَمَرِ (مُصَدِّقٌ مُقِرٌّ) بذلِكَ بقائلِينَ: “رأَيناه عِيانًا”، فقال الكفَرَةُ عندَ ذلِكَ: “هَذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ”، وقد أخبَرَ الله تعالَى عنهُم فقال عزَّ مِن قائِلٍ: ﱡﭐ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ  ﲢ  ﲣ  ﲤ ﲥ ﲦ  ﲧ ﲨ ﲩ .



([1])  إنسان العُيون في سيرة الأمِين المأمون، نور الدِّين الحلَبي، (3/521).

([2])  فتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (7/183).

([3])  المواهِب اللَّدُنِّيّة بالمِنَح المُحمَّدية، شهاب الدين القَسْطلّانيّ، (2/256).

([4])  أي حُصولَ الانشِقاقِ.

([5])  إمتاع الأسماع، تقي الدين المَقرِيزي، (5/17-18).

([6])  الشِّفَا بتعريفِ حُقوق المصطفَى، القاضي عِياض المالكي، (1/547).

([7])  تأويلات أهل السُّنّة، أبو منصور الماتريدي، (9/441).

([8])  المَواقِف، عضُد الدِّين الإيجي، (3/405).

([9])  الإعلام، شمس الدِّين القرطبي، (ص/380).

([10])  الشِّفَا بتعريفِ حُقوق المصطفَى، القاضي عِياض المالكي، (1/495).

([11])  إمتاع الأسماع، تقي الدين المَقرِيزي، (5/18).

([12])  فَتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (6/592).

([13])  المواهِب اللَّدُنِّيّة بالمِنَح المُحمَّدية، شهاب الدين القَسْطلّانيّ، (2/253).

([14])  فَتح الباري، ابن حجَر العسقلاني، (7/185).

([15])  أي أنكَرَه ولَم يكُن قَد بَلَغَه ولا سَمِعَ ما ورَدَ في شأْن ذلكَ في القُرءانِ أو الحَدِيثِ أو أنّهُ الّذي عليهِ المُسْلِمونَ.

([16])  الإيمانُ نُورُ اللهِ لأنّه يُنقِذُ مِن ظُلماتِ الكُفرِ، فهوَ نُورٌ خلَقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ، واللهُ تعالَى ليسَ نُورًا ولا يُشبِهُ النُّورَ ولا شبيهَ له في المخلوقاتِ، فهو تعالَى كما قالَ: ﱡﭐ . وأمّا قولُه تعالَى: ﱡﭐ   فمعناهُ هادي أهلِ السّماواتِ وهُم الملائكةُ وهادي أهل الأرض مِن الإنسِ والجِنّ، فهو تعالَى هادِي المؤمنِينَ.

([17]) يَعنُونَ النَّبِيَّ ﷺ. وأبو كَبْشةَ اسمُ رَجُلٍ كانَ قَدِيمًا فارَقَ دِينَ الجاهلِيّةَ وعَبَدَ نَجْمَ الشِّعْرَى فشَبَّهَ المُشرِكونَ النَّبِيَّ ﷺ به. وقيل: بل كانَتْ لِلنَّبِيّ ﷺ أختٌ مِن الرَّضاعةِ تُسمَّى كَبْشةَ وكانَ أبُوهُ مِن الرَّضاعةِ يُكنَى بها. وقيل: بل كان في أجدادِه لِأُمِّه مَن يُكنَى بذلك. وذَكَر بَعضُهم أنَّ جَماعةً مِن جِهةِ أَبِيه وأُمِّه يُكنَونَ بأَبِي كَبْشةَ. يُنظر: شرح الشِّفا، الملّا عليّ القاري، (1/590).