الجمعة أكتوبر 18, 2024

بابٌ فيه (ذِكرُ أَخلاقِهِ) العظِيمةِ (الشَّرِيفةِ ﷺ)

هذا بابٌ معقودٌ لبَيانِ بعضِ السِّماتِ الدّالّةِ على رَفِيع خِصالِه ﷺ في الكَرَمِ والشّجاعةِ والحِكمةِ في القَولِ والفِعل وفي التّواضُعِ والحَياءِ وحُسنِ عِشرَةِ الأهلِ والأصحابِ.

بِعثةُ رسولِ الله لتَتمِيمِ مَكارِم الأخلاقِ

بِعثةُ رسولِ الله لتَتمِيمِ مَكارِم الأخلاقِ

281-        

أَكْـرِمْ بِـهِ خُـلُـقُـهُ القُـرْءَانُ

 

فَـهْـوَ لَـدَى غَضَـبِـهُ غَضْـبَـانُ


282-        

يَرْضَـى بِمَا يَرْضَاهُ لَيْسَ يَغْضَبُ

 

لِـنَـفْـسِـهِ إِلَّا إِذَا تُـرْتَـكَـبُ


283-        

مَـحَـارِمُ اللهِ إِذًا فَـيَـنْـتَـقِـمْ

 

فَأَحَـدٌ لِـذَاكَ أَصْـلًا لَـمْ يَـقُـمْ


284-        

بَـعَـثَـهُ الـرَّحــمــٰـنُ بِالإِرْفَـاقِ

 

كَـيْـمَـا يُـتِـمَّ صَـالـحَ الأَخْلَاقِ


 
















(أَكْرِمْ بِهِ) أي ما أكرَمَهُ على اللهِ إذْ (خُلُقُهُ) أي طَبعُهُ ومُرُوءَتهُ ما دَلَّ عَليهِ (القُرْءَانُ) أي خُلُقُه جميعُ ما فُصِّلُ في القُرءانِ مِن مَكارم الأخلاقِ مِثلُ قولِهِ تعالَى: ﱡﭐ ﱥ ﱦ  [الأعراف: 199]، وقَولِه: ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ  ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ [النحل: 90]، وقَولِه: ﱡﭐ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ  [لقمان: 17]، وقَولِه: ﱡﭐ  ﲱ  ﲲ ﲳ  [المائدة: 13]، وقَولِه ﱡﭐ ﱓ ﱔ ﱕ  ﱖ ﱗ  [ءال عمران: 134]، وقَولِه: ﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ  [الحجرات: 12]، فإنّهُ ﷺ كانَ مُتحَلِّيًا بها وبغيرها مِن مكارِم الأخلاق، وقيل: معناهُ كانَ خُلُقه مَذكورًا في القرءان في قوله تعالى: ﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ  [القلم: 4].

وقد بلَغ ﷺ مِن حُسنِ الخُلُق ما لم يَبلُغْهُ أحَدٌ مِنَ الأنبياءِ. قال أبو عَليٍّ الدَّقاقُ رحمهُ اللهُ وهو أحدُ مشاهيرِ الأولِياء والصُّوفيّةِ([1]): “قد خَصَّ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ ﷺ بمَزايا كثِيرةٍ

ولم يُثنِ عَلَيه بِشَىءٍ مِنها مِثلَما أثنَى عليه بِخُلُقِه فقال تعالى: ﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ “.

وقال شيخنا وأستاذنا الإمام الحافظ المجتهِد المجدِّد الهرريُّ رضي الله عنه: “كُلُّ خصلةٍ خيرٍ أمَرَ القُرءانُ بها فهيَ مِن خُلُقِ رَسولِ الله ﷺ”. وهو موافِقٌ لِمَا ذهبَ إليهِ كثيرٌ مِنَ الشُّرّاحِ مِن أنّ المعنَى أنّه ﷺ كان خُلُقُه ما دَلَّ عليه القرءانُ مِن أوامرِهِ تعالَى ونَواهِيهِ ووَعْدِه ووَعِيدِه إلى غَيرِ ذَلِكَ (فَهْوَ) ﷺ يَمتَثِلُ ما جاءَ في القرءانِ، يأتَمِرُ بأوامِرِه وينتهي بِنواهِيهِ ويَرضى برِضاهُ ويكون (لَدَى غَضَبِهُ) أي لِغَضَبِ اللهِ (غَضْبَانُ) أي يَغضَبُ للهِ ويَكرَهُ ما يُغضِبُ اللهَ تعالَى، وغضَبُ اللهِ ورِضاهُ صِفَتانِ لهُ تعالَى لا كغَضَبِ ورِضَا الخَلْق، فإذا قيل: “غضِبَ الله على  الكافرِينَ” فهو بمعنَى إرادةِ انتقامِه عزَّ وجلَّ مِنهُم مِن غيرِ حدوثِ إرادةٍ لَهُ ولا تَجدُّدٍ فيها، فغضَبُهُ عزَّ وجلَّ ليسَ بمعنَى الانفِعالِ النّفسانيّ ولا بمعنَى التأثُّرِ وغَلَيانِ القَلْبِ بالدَّمِ للانتقامِ، بل التّأثُّرُ صِفةُ المخلوقِ، وكذلكَ رِضَا اللهِ تعالَى هو بمعنَى إرادتهِ الإنعامَ على مَن يشاءُ.

 وكان ﷺ (يَرْضَى بِمَا يَرْضَاهُ) اللهُ مِمّا أوحَى الله بهِ إليهِ، و(لَيْسَ يَغْضَبُ)(لِـ)ـهَوَى (نَفْسِهِ) كحالِ أكثرِ النّاسِ، وقد سبقَ الكلامُ عليهِ في الباب السابقِ، ولم يَكُن ﷺ يَغضبُ (إِلَّا إِذَا) كانتْ (تُرْتَكَبُ) أي تُنتَهَكُ (مَحَارِمُ اللهِ) أي يُعصَى اللهُ تعالَى ويُخالَفُ نَهيُه فيما حرَّمَ انتِهاكَه، فإذا انتُهِكَتْ محارِمُ اللهِ (إِذًا فَيَنْتَقِمْ) ﷺ للحَقِّ بالحَقِّ، فإنْ تُعُدِّيَ الحَقُّ (فَأَحَدٌ لِذَاكَ) أي لشِدّةِ انتِقامهِ (أَصْلًا لَمْ يَقُمْ) وهو كلامٌ مُقتبَسٌ مِن حديثِ عندَ الطّبرانيّ في «الكبير» والبيهقيّ في «الشُّعَب»: «وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَىءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ». فهو ﷺ وَقَّافٌ عند حدودِ القرءانِ والتأدُّبِ بآدابِه والاعتبارِ بأمثاله وقَصَصِه وتَدبِيره وحُسنِ تِلاوَتِه.

فوَصفُهُ ﷺ بِكَونِه على خُلقٍ عَظِيمٍ لم يَمْنَعهُ مِن إقامة حدودِ الله وجِهادِ أعداءِ الله بل كان ﷺ يعطي كُلَّ مَقامٍ ما يَلِيقُ بِشَأنِه.

وقد (بَعَثَهُ) اللهُ (الرَّحمنُ بِالإِرْفَاقِ) أي رِفقًا بهذِه الأُمّةِ (كَيْمَا) و”ما” زائدةٌ أيْ كَيْ (يُتِمَّ) أي يُكمِّلَ (صَالحَ الأَخْلَاقِ) وهذا إشارةٌ إلى قولِهِ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» أيِ الفَضائِلَ والمَحاسِنَ. والأنبياءُ عليهمُ الصّلاةُ والسّلامُ كُلُّهم كانُوا مَوسُومِينَ بالأخلاقِ الرَّضِيّةِ والشمائل البَهِيّةِ لكنّ نَبِيَّنا محمَّدًا ﷺ قد بلَغَ أعلى الكَمالات البشريّة فلا أدبَ فوقَ أدَبِهِ ﷺ.

وأمّا ما يُروَى حديثًا على أنّه مرفوعٌ: «أَدَّبَنِي رَبَّي فَأَحْسَنَ تَأدِيِبي» فقد ذَكَره ابنُ الجَوزِيّ في «الأحاديث الواهية» وقال: لا يَصِحُّ، وقال الفَتَّنِيُّ في «الموضوعات»: سَندُهُ ضَعِيفٌ ولا يُعرَفُ لهُ إِسنادٌ ثابتٌ، وقال إمامُنا الأستاذُ الحافظ الهرريُّ رحمه الله: هو حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لكنه يُروَى، إذْ ليس فِيهِ ضَعْفٌ شَدِيدٌ.

ومعنى الحديثِ أنّ الله تعالى نَشّأني بقُدرَتِه سبحانَه نَشأةً طيِّبةً صالحةً مبارَكةً زَكِيّة بعيدةً عن الرَّذالاتِ والقبائحِ منذ نَشأَتِي وطُفولتِي. وكان ﷺ يَتَرقَّى دائمًا في الكَمالات، وهو في هذا المعنَى شامِلٌ لِكُلِّ الأنبياء.

وأمّا ما يُروىَ حَدِيثًا: «تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللهِ» فقد قال فيه شيخُنا الحافظ عبد الله الهرري رضي الله عنه: “حديثٌ ضعيفٌ جِدًّا”، ثُمّ إنّه مِنَ القبيح جِدًّا بل مِن الكفر الصريحِ قول بعض زنادقةِ المتصوِّفة مُحتَجِّين بهذا الحديث المكذوبِ: “إنَّ القُطبَ يتّصفُ بصِفاتِ اللهِ فيقول للشىءِ كُن فيكونُ”.



([1])  الفتوحات الرّبّانية على الأذكار النّواوية، ابن عَلّان البَكريّ، (6/145).