الجمعة أكتوبر 18, 2024

 

بابٌ فيهِ (ذِكرُ وَصْفِ) عاتِكةَ (أُمِّ مَعْبَدٍ) الخُزاعِيّةِ (لَهُ ﷺ) خَلْقًا وخُلُقًا

وأُمُّ مَعبَدٍ هيَ عاتِكَةُ بِنتُ خالِدٍ بنِ مُنْقِذ بنِ ربيعةَ بنِ أصرَمَ الخُزاعيّةُ، وهِيَ الَّتِي نَزَل بخَيمَتِها النَّبِيُّ ﷺ حِينَ هاجَرَ إلى المدينة وهي بِقُدَيدٍ كما سبَقَ. وأمّا عَدُّها مِن الصّحابةِ فقال فيه أبو نُعيمٍ الأصبهانيُّ([1]): “قال أبو أحمَدَ بنُ بِشْرِ بنِ محمَّد، حدّثنا عبدُ المَلِك بنُ وَهبٍ، بلَغنِي أنَّ أُمَّ مَعبدٍ هاجرَتْ وأسلَمَتْ ولَحِقَتْ بِرَسولِ اللهِ ﷺ”.

ذِكرُ أُمِّ مَعْبَدٍ أوصافَ رسولِ الله ﷺ الخلْقِيّةَ

ذِكرُ أُمِّ مَعْبَدٍ أوصافَ رسولِ الله الخلْقِيّةَ

281-        

تَـقُـولُ فِـيـهِ بِلِسَـانٍ نَاعِـتِ

 

أَبْـلَـجُ وَجْـهٍ ظَاهِـرُ الوَضَـاءَةِ


282-        

الخَـلْـقُ مِـنْـهُ لـمْ تَـعِـبْـهُ ثَجْلَةْ

 

كَـلَّا وَلَمْ تُـزْرِ بِـهِ مِـنْ صَـعْلَةْ


283-        

أَدَعْـجُ وَالأَهْـدَابُ فِيهَا وَطَـفُ

 

مِنْ طُـوْلِها أَوْ غَطَـفٌ أَوْ عَطَفُ


284-        

وَالجِـيْـدُ فِـيـهِ سَـطَـعٌ وَسِـيْـمُ

 

وَالصَّـوْتُ فِـيـهِ صَـحَلٌ قَسِـيمُ


285-        

كَـثِـيـفُ لِـحْـيـةٍ أَزَجُّ أَقْـرَنُ

 

أَحْـلَاهُ مِـنْ قُـرْبٍ لَـهُ وَأَحْسَـنُ


 

(تَقُولُ) أُمُّ مَعبدٍ (فِي) وَصْفِـ(ـهِ)(بِلِسَانٍ نَاعِتٍ) أي واصِفٍ لَهُ ﷺ: هوَ (أَبْلَجُ وَجْهٍ) أي مُشرِقُهُ مُسفِرُهُ بمعنَى واضِحهُ جَلِيَّهُ، ومِنهُ يُقالُ: أسَفَرَ الصُّبحُ،  والأبلَج هو

الَّذِي قد وَضَح ما بَين حاجِبَيه فلم يَتَّصِلا، والاسمُ البَلَج بفتح اللام([2]).

وهوَ ﷺ (ظَاهِرُ الوَضَاءَةِ) أي بَيِّنُ الحُسنِ والبَهجةِ والجَمالِ لا يَرتابُ في ذلكَ مَنْ يراهُ.

و(الخَلْقُ) أي البَدَنُ (مِنْهُ) ﷺ كانَ في أحسَنِ كمالٍ أُوتِيهَ أحَدٌ مِن البشَرِ فـ(ـلَمْ تَعِبْهُ) أيْ لَم تَقدَحْ في جَمالِ بَدَنِه ﷺ (ثَجْلَةْ) أي ضَخامةُ بَطنٍ معَ استِرخاءٍ في أسفَلِه (كَلَّا) تأكيدٌ لِرَدِّ أنْ يكونَ فيه ﷺ عَيبٌ خِلْقِيٌّ، بل لَمْ يَعِبْ جسَدَهُ ﷺ ذلكَ ولا خَصلةٌ أُخرَى غيرُ الثَّجْلةِ، فهو ﷺ كامِلُ الخِلْقة تامُّها ولَم يُوجَد قطُّ أجمَلَ مِنهُ.

(وَ)هوَ ﷺ عظيمُ الرّأسِ (لَمْ تُزْرِ بِهِ) أي لَم يَعِبهُ وصفٌ فيهِ (مِنْ صَعْلَةْ) أو غيرِها، والصَّعْلةُ صِغَرُ الرّأسِ وهي أيضًا الدِّقَةُ والنُّحولُ في البَدِن([3])، بل كانَ ﷺ رأسُهُ الشّريفُ عظيمًا مُتناسِبًا معَ حَجمِ جسَدهِ المُبارَك، وفي روايةٍ أُخرَى لحديث أُمِّ مَعبَدٍ: «صَقْلَةٌ» هي الدِّقّة والنُّحولُ، تعني لم يَكُنْ مُنتفِخَ الخاصِرةِ جِدًّا ولا ناحِلًا جِدًّا([4])، وفي روايةٍ: «سَقْلَةٌ» وهي بمعنَى «صَقْلَةٌ».

وهوَ ﷺ (أَدَعْجُ) العَينَينِ أي شَديدُ سوادِهما مع سَعَتِهِما (وَالأَهْدَابُ) أي أشفارُ العَينِ منه ﷺ كانَ (فِيهَا) معَ جمالِ لَونِها (وَطْفٌ) بإسكانِ الطّاء للوَزنِ أي كثافةٌ واستِرخاءٌ([5]) (مِنْ طُوْلِها) ويُطلَقُ الوَطَفُ ويرادُ به طُولُ الأشفارِ وحدَه أيضًا (أَوْ) قال إنّه ﷺ كان في أهدابِه (غَطَفٌ) بالغين المعجمة وتحريكِ الطّاءِ وهو مِثلُ الوَطَفِ وزنًا ومعنًى، وشَكَّ بعضُ رُواةِ حديثِ أُمِّ مَعبدٍ فقال (أَوْ عَطْفُ) بإسكانِ الطّاء للوَزنِ وهو أنْ تَطُول أشفارُ العَينِ حتى تَنعَطِف([6]).

(وَ)كانَ (الجِيْدُ) منه ﷺ أيِ عنُقُه (فِيهِ سَطَعٌ) أي ارتِفاعٌ وطُولٌ، يُقالُ: عُنُقٌ سَطعاءُ وهي المُنتصِبةُ الطّويلةُ([7])، ولَم يَكُن طولُها مُفرِطًا بل هوَ طُولٌ (وَسِيْمٌ) أي حَسنٌ.

(وَ)أمّا (الصَّوْتُ) مِنه ﷺ فكانَ (فِيهِ صَحَلٌ) بتحريكِ الحاءِ أي شِبهُ بُحّةٍ خَفيفةٍ تزيدُ صوتَه ﷺ جمالًا مع سُطوعِ وضوحِه وبَيانِه مِن غيرِ أن يُشكِل على سامعه شىءٌ، فليسَ في صَوتِه وكلامِه خللٌ أو عَيبٌ، بل هو صَوتٌ ﷺ (قَسِيمُ) أي جَميلٌ حسَنٌ.

وهوَ ﷺ (كَثِيفُ) شَعَرِ الـ(ـلِّحْية) بكسر اللام ويجوز فتحها، وكانَتْ متوسِّطةَ الطُّولِ تملأُ مِن صَدرِه الشّريفِ ما يقابلها، وقد كان ﷺ يأخُذ منها ما زاد على القَبْضة، ورُبّما كان يأخُذ مِن أطرافِها أيضًا، فلم يكن ﷺ مُفْرِطَ طُولِ اللِّحيةِ ولا كوسجَ([8]) ولا خفِيفَ اللِّحية ولا مَقصُوصَها، فليسَ مِنَ السُّنّةِ تركُ اللِّحيةِ تسترسِلُ حتّى تصِلَ إلى البَطنِ أو ما يُقاربُ السُّرّةَ.

وهوَ ﷺ (أَزَجُّ) الحاجِبَينِ أي دَقيقُ شَعَرِهما طَوِيلُهما إلى مُؤَخَّر العين معَ تَقَوُّسٍ هِلالِيٍّ، وقد وَصَفتْهُ أُمُّ مَعبَدٍ بأنّهُ (أَقْرَنُ) الحاجِبَينِ لأنّها رَأَتْهُ مِن بُعْدٍ فَظَنَّتْ أنَّه أقرَنُ وذلكَ لِقُربِ طَرَفَيْ حاجِبَيهِ الْتِقاءً وَصفَتْهُ بالقَرَنِ، إلّا أنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ الله تعالَى وَجْهَهُ قَدْ حَقَّقَ وَصفَ حاجِبَيهِ ﷺ مِن قُربٍ فَرَءاهُما كادَا يَلتَقِيانِ ولَيسَا مُلتَقِيَين فوَصَفَه بِالبَلَج.

ويؤيِّدُه قَولُ الشّمس الدُّلجِيّ([9]): “إنَّ الصَّحِيحَ وَصفُهُ بالبَلَجِ لأنّهُ المحمُودُ عِندَ العَرَبِ دُونَ القَرَنِ”، ووافقَه الأنطاكِيُّ وغَيرُه بقولهم: “والعَربُ تَستَملِحُ البَلَجَ والعَجَمُ تَستَحسِنُ القَرَنَ، ونَظَرُ العَربِ أدَقُّ وطَبعُهُم أَرَقُّ”. نَعم يَبعُدُ تَجوِيزُ البُرهَانِ الحَلَبِيّ حُدوثَ القَرَن له عليه الصّلاةُ والسّلامُ بَعدُ، فالصَّوابُ أنّه ﷺ كانَ حاجِباهُ مُتَقارِبَينِ بَينَهُما فَراغٌ لَطيفٌ مُعتَدِلٌ.

وهوَ ﷺ (أَحْلَاهُ) أي أحلَى الخَلْقِ وأجملُهُم مَنظَرًا (مِنْ قُرْبٍ) فيَراهُ كذلكَ مَن كان قريبًا (لَهُ) بالمَسافةِ (وَ)هوَ ﷺ (أَحْسَنُ) النّاسِ و(أَجْمَلُهُـ)ـم (مِنْ بُعُد) أيضًا (وَأَبْهَـ)ـاهُم مَنظَرًا، وروايةُ البَيهَقِيِّ في «الدّلائِل» عن لَفظِ أُمِّ مَعبَدٍ: «أَجْمَلُ النَّاسِ وَأَبْهَاهُ مِنْ بَعِيدٍ، وَأَحْلَاهُ وَأَحْسَنُهُ مِنْ قَرِيبٍ».

ذِكرُ أُمِّ مَعْبَدٍ بعضَ مَظاهِرِ هَيبةِ الرّسولِ ﷺ وأخلاقِه العالِيةِ

ذِكرُ أُمِّ مَعْبَدٍ بعضَ مَظاهِرِ هَيبةِ الرّسولِ ﷺ وأخلاقِه العالِيةِ

286-        

أَجْـمَـلُـهُ مِـنْ بُـعُـدٍ وَأَبْـهـَى

 

يَـعْـلُـوهُ إِذْ مَا يَـتَـكَـلَّـمُ الْبَـهَاْ


287-        

كَـذَاكَ يَعْلُوهُ الوَقَارُ إِنْ صَـمَتْ

 

مَنْطِـقُـهُ كَخَـرَزٍ تَـحَـدَّرَتْ


288-        

فَصْـلُ الكَـلَامِ لَيْسَ فِيهِ هَـذْرُ

 

حُـلْـوُ الْمَـقَـالِ مَـا عَـرَاهُ نَـزْرُ


289-        

لَا بَائِـنٌ طُـوْلًا وَلَا يُـقْـتَـحَـمُ

 

مِـنْ قِـصَــرٍ فَهْوَ عَلَيهِمْ يَعْظُـمُ


290-        

بِنَـضْـرَةِ الْمَـنْـظَـرِ وَالْمِـقْـدَارِ

 

تَـحُـفُّـهُ الرِّفْـقَـةُ بائْـتِـمَـارِ


291-        

إِنْ أُمِـرُوا تَـبَادَرُوا امْـتِـثَالَا

 

أَوْ قَـالَ قَـوْلًا أَنْصَـتُوا إِجْـلَالَا


292-        

فَـهْـوَ لَـدَى أَصْـحَـابِهِ مَـحْفُودُ

 

أَيْ يُسْـرِعُـونَ طَاعَةً مَـحْشُـودُ


293-        

لَيْـسَ بِـعَابِـسٍ وَلَا مُـفَـنِّـدِ

 

بِـذَاكَ عَـرَّفَـتْـهُ أُمُّ مَـعْـبَـدِ


 

وَكانَ ﷺ (يَعْلُوهُ) أي يَظهَرُ عليهِ (إِذْ مَا) أي حينَ (يَتَكَلَّمُ الْبَهَا)ءُ وهوَ المَنظرُ الحسَنُ المَالِئُ لِلعَينِ، وَ(كَذَاكَ) كانَ ﷺ (يَعْلُوهُ) أي يَظهَرُ عليهِ (الوَقَارُ) أيِ الحِلمُ والرَّزانةُ (إِنْ صَمَتَ) أي سكَتَ.

وكان (مَنْطِقُهُ) ﷺ أي مَنطوقُه إنْ تَكلَّم (كَخَرَزٍ) أي جَواهِرَ مُتعالِيةٍ وَلآلِئَ مُتغالِيَةٍ منظومةٍ إذا (تَحَدَّرَتْ) أي خَرَجَتْ مِن فَمِهِ الشّريفِ المبارَكِ ﷺ، ووجْهُ الشَّبَهِ مِن ناحيةٍ هوَ التّناسُقُ بين كَلِماتِهِ ﷺ وشِدّةُ اتّصالِ بَعضِها ببعضٍ كتوالِي الخَرَزاتِ إذا نُظِمَتْ في السِّمْطِ الجامِع لَها، ومِن ناحيةٍ أُخرَى هوَ شَرَفُ وعُلُوُّ مَنطوقِهِ ﷺ، فإنّه ﷺ لا يَنطِقُ إلّا بالكلام الرَّزِينِ الّذي يَنبُو عن عُلُوِّ قَدرِ قائِلِه ﷺ.

وهوَ ﷺ (فَصْلُ الكَلَامِ) أي كلامُهُ بَيِّنٌ ظاهرٌ واضِحٌ لا فأفأةَ فيهِ ولا تأتأةَ ولا لَغوَ أو معناهُ كلامُهُ فاصِلٌ بَينَ الحَقِّ والباطِلِ أو معناهُ بَيِّنٌ قاطِعٌ للشَّكِّ لا لَبْسَ فِيه أو معناهُ ذُو فَصْلٍ بَينَ أَجزائِهِ وهو الّذي دَلَّ عليه ما رواهُ التِّرمِذيُ مِن قولِ عائشةَ رضيَ الله عنها: «مَا كَانَ رَسُولُ الله يَسْرُدُ سرْدَكُمْ هَذَا، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ» ومعناهُ لَم يَكُن يسَرُدُ الكلامَ كسَردِكم فِي العَجَلةِ، وكُلُّ هذه التّفاسيرِ صالِحةٌ لوَصفِ كلامِه الشّريفِ المُبارَكِ.

وكلامُهُ الشّريفُ ﷺ (لَيْسَ فِيهِ هَذْرٌ) بِسكُون الذّالِ المُعجَمة أي ليس بالكَثِيرِ المُمِلِّ أو الكلامِ الّذي لا يُعبَأُ بِه([10])، وأما الهَذَر بفتح الذّال فمعناه الهَذَيان([11])، بل هو ﷺ (حُلْوُ)

أي جَميلَ (الْمَقَالِ) تَلتَذُّ الأذُنُ بسَماعِهِ لاشتِماله على حَلاوةٍ وعُذوبةٍ وسَلاسةٍ وحُسنٍ في بَدئِه وجَمالٍ في خِتامِه.

وكلامُهُ الشّريفُ ﷺ مُستقِيمٌ (مَا عَرَاهُ) أي لَم يُصِبْ كلامَه اختلالٌ بأنْ دَخَلَه وغَشِيَهُ (نَزْرُ) مَنطِقٍ أيْ لم يَكُن كلامُهُ باليَسِير المُخِلِّ بل كان كلامًا تَامًّا خالِيًا عن كُلِّ ما يُعَدُّ مِن عِيِّ الكلامِ.

وهوَ ﷺ مربوعٌ أميَلُ إلى الطُّولِ فـ(ـلَا) هوَ (بَائِنٌ) مُفرِطٌ (طُوْلًا) مِن بانَ بِمعنَى بَعُدَ (وَلَا) هوَ (يُقْتَحَمُ) أي يُتجاوَزُ في النّظَرِ عنه احتِقارًا لَهُ (مِنْ قِصَرٍ) فِيه أو مِن غَيرِ ذلكَ مِن العُيوبِ الخِلْقِيّةِ، بل هو ﷺ عظيمٌ خَلْقًا وخُلُقًا يراهُ النّاظِرُ إليهِ ذلكَ.

وإذا أقامَ ﷺ بينَ أصحابِهِ (فَهْوَ عَلَيهِمْ يَعْظُمُ) أي يَفوقُهم (بِنَضْرَةِ) أي حُسْنِ (الْمَنْظَرِ وَ)عِظَمِ (الْمِقْدَارِ) أيِ المَنزِلةِ والقَدْرِ.

وكان ﷺ حينَ رأَتهُ أمُّ مَعبَدٍ (تَحُفُّهُ) أي تُحِيطُ بهِ (الرِّفْقَةُ) أي مَن يُرافِقهُ وكانوا ثلاثةً: أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه ومَولَى أبي بكرٍ عامِرُ بنُ فُهَيرةَ ودَلِيلُهُما في الطّريقِ اللَّيثِيُّ عبدُ الله بن الأُرَيقِطِ، فكانَ الكُلُّ يحِيطُون حولَهُ (بائْتِمَار) أي امتثالٍ لأوامِرهِ ﷺ، فـ(ـإِنْ أُمِرُوا) أي إنْ أمَرَهُم ﷺ بشىءٍ (تَبَادَرُوا) أي بادَرُوا مُبادرةً لتنفيذِ أوامرِهِ (امْتِثَالًا) أي مُمتَثلِينَ مُنصاعِينَ غيرَ مُعارِضينَ ولا مُجادِلِينَ مُعانِدِينَ، (أَوْ قَالَ)(قَوْلًا) وهم عِندَه حُضورٌ (أَنْصَتُوا) لَهُ (إِجْلَالًا) أي إعظامًا له ﷺ (فَهْوَ)(لَدَى) لدَى حُضورِ (أَصْحَابِهِ) عِندَه (مَحْفُودٌ) أي مَخدومٌ  مِن قِبلَهِم (أَيْ يُسْرِعُونَ) فِي خِدمَتِه (طَاعَةً) وهو عِندَهُم (مَحْشُودٌ) أي مُطاعٌ، والمَحشودُ في الأصلِ هوَ الّذِي يَجتَمِعُ النّاسُ حَولَه لِيَمتَثِلُوا قولَه ويَقتَدُوا بفِعلِه.

وزادتْ أمُّ معبدٍ على ما مرَّ فأخبرَتْ أنّه ﷺ كان سَمْحًا طَلْقَ الوَجهِ (لَيْسَ بِعَابِسٍ) كالِحِ الوَجهِ مُقَطَبِّهِ (وَلَا مُفَنِّدٍ) أي ولا مَنسُوبٍ إلى الجَهل وقِلّة العَقلِ، قال ابنُ الأنبارِيّ: المُفنِّدُ هو الّذي لا فائِدةَ في كَلامِه لِخرَفٍ أصابَه، ويُقالُ: فَنَّدَهُ أيْ خَطَّأَ رَأيَهُ وَضَعَّفَهُ، ومِثلُه: فَنَّدَ أقوالَ أهلِ الضّلالِ أي رَدَّهَا وكذَّبها.

 وَفِي رِوايةٍ: «وَلَا مُعْتَدٍ» أي ولا مُجاوِزٍ للحَدِّ، وفي أُخرى: «ولَا مُفَتِّدٍ» والمُفَتِّدُ الَّذِي يُكثِرُ اللَّومَ.

(بِذَاكَ) الوَصفِ السّابِقِ (عَرَّفَتْهُ) عاتِكةُ (أُمُّ مَعْبَدٍ) لِزَوجِها أبي مَعبَدٍ حِينَ رَجَعَ وسألَها عن اللَّبنِ الّذي وَجَدهُ عِندَها كما سبَقَ. فقال لها أبو مَعبَدٍ: هذِه واللهِ صِفةُ صاحبِ قُرَيشٍ، ولو رَأيتُه لاتَّبَعتُه، ولأَجتَهِدَنَّ أنْ أفعَلَ. ويُقال: إنّهُ خَرَج في طَلبِ أثَرِهم فأدركهم وبايَعَهُ ﷺ ورَجَع.

ورُوِيَ أنّ أُمَّ مَعبدٍ ذَبَحتْ لهم شاةً وطَبَخَتْها فأكلوا منها، ووَضَعت لهم في سُفْرَتِهم منها ما وَسِعَتْهُ تِلكَ السُّفْرة، وَبَقِيَ عِندَها أكثَرُ لَحمِها.

وأصبَح صَوتٌ بمكّةَ عالِيًا يَسمَعُونَهُ ولا يرَونَ صاحِبَه يَقُول: [الطّوِيل]

جَزَى الله رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ

 

رَفِيقَيْنِ حَـلَّا خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَـدِ

هُمَا نَزَلَاهَا بِالْهُـدَى وَاهْتَدَتْ بِهِ

 

فَقَدْ فَازَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ

فَيَا لَقُصَيٍّ مَا زَوَى الله عَنْكُمُ

 

بِهِ مِـنْ فَعَالٍ لَا تُجَازَى وَسُـؤْدُدِ

لِيَهْـنِ أَبَا بَـكْرٍ سَـعَادَةُ جَـدِّهِ

 

بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْـعِدُ اللهُ يَسْـعَدِ

لِيَهْـنِ بَنِـي كَعْــبٍ مَقَامُ فَتَاتِهِمْ

 

وَمَقْـعَـدُهَا لِلْمُـؤْمِنِينَ بِمَرْصَـدِ

سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا

 

فَإِنَّكُمُ إِنْ تَسْـأَلُوا الشَّـاةَ تَشْـهَدِ

دَعَاهَا بِشَـاةٍ حَائِلٍ فَتَحَـلَّبَتْ

 

عَلَيْهِ صَـرِيحًا ضَـرَّةَ الشَّاةِ مَزْبَدِ

فَـغَادَرَهُ رَهْـنًا لَـدَيْهَا لِحَـالِـبٍ

 

يُـرَدِّدُهَا فِي مَصْـدَرٍ بَعْدَ مَـوْرِدِ

قَالَت أسماءُ: فَلَمَّا سَمِعنا قَولَه عَرَفْنا حيثُ تَوَجَّه رَسولُ اللهِ ﷺ وأنَّ وِجهتَهُ إلى المَدِينة. ولَمَّا سَمِعَ حَسّانُ الهاتِفَ بِذلك أنشدَ يُجيبُهُ قائِلًا: [الطّوِيل]

لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُمْ

 

وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي

تَرَحَّـلَ عَنْ قَـوْمٍ فَضَـلَّتْ عُقُولُهُمْ

 

وَحَـلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَـدَّدِ

هَـدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضَّـلَالَةِ رَبُّـهُمْ

 

فَأَرْشَـدَهُمْ مَنْ يَتْبَعِ الْحَقَّ يَرْشُـدِ

وَهَلْ يَسْـتَوِي ضُلَّالُ قَوْمٍ تَسَـفَّهُوا

 

عَـمًى وَهُـدَاةٌ يَهْتَـدُونَ بِمُهْتَـدِ

وَقَدْ نَزَلَـتْ مِنْهُ عَلَـى أَهْـلِ يَثْرِبٍ

 

رِكَابُ هُدًى حَلَّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْـعَدِ

نَبِيٌّ يَرَى مَا لَا يَـرَى النَّاسُ حَـوْلَهُ

 

وَيَتْلُـو كِتَابَ الله فِي كُلِّ مَشْــهَدِ

وَإِنْ قَالَ فِي يَـوْمٍ مَـقَالَةَ غَائِـبٍ

 

فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ

 

قال أبو عبدِ اللهِ الحاكِمُ في «المُستَدرَك»: “هذا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإسنادِ ولَم يُخَرِّجاه. ويُستَدلُّ على صِحَّتِه وصِدقِ رُواتهِ بِدَلائِلَ، فمِنها نُزول المصطفَى ﷺ بالخَيمَتَين مُتواتِرًا في أخبارٍ صَحِيحَةٍ ذَواتِ عَدَدٍ، ومِنها أنَّ الَّذِينَ ساقُوا الحَدِيثَ على وَجْهِه أهلُ الخَيمَتَينِ مِن الأَعارِيبِ الَّذِين لا يُتَّهَمُون بِوَضعِ الحَدِيث والزِّيادةِ والنُّقْصانِ، وقَد أخَذُوه لَفْظًا بَعدَ لَفْظٍ عَن أَبِي مَعْبَدٍ وأُمِّ مَعْبَدٍ، ومِنها أنَّ له أسانِيدَ كالأَخْذِ باليَدِ أَخْذَ الوَلَدِ عَن أَبِيه والأَبِ عَن جَدِّهِ لا إِرْسالَ ولا وَهَنَ في الرُّواةِ” ا.هـ.

([1])  دلائل النُّبوة، أبو نُعيم الأصبهاني، (ص/337).

([2])  النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدّين بن الأثير، (1/151).

([3])  المصدر السّابِق، (3/32).

([4])  النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدّين بن الأثير، (3/42).

([5])  لسان العرب، جمال الدّين بن منظور، (9/357).

([6])  الإملاء المختصر في شرح غريب السير، ابن أبي الركب (ص/132).

([7])  الغريبَين في القرءان والحديث، أبو عُبَيد الهرَوي، (3/893).

([8])  وهو مَن يَعرَى عارِضاهُ عَنِ الشَّعَرِ.

([9])  شرح الشِّفا، الملّا علي القاري، (1/359).

([10])  الغريبَين في القرءان والحديث، أبو عُبَيد الهرَوي، (3/522).

([11])  النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدّين بن الأثير، (5/265).