قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَصْلٌ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَدَاءُ جَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ أَدَاءَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَيْ أَوَّلَ مَا يَبْلُغُ يَنْوِي فِي قَلْبِهِ يَقُولُ أَعْمَلُ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيَّ فَأُؤَدِّي الْوَاجِبَاتِ وَأَجْتَنِبُ الْمُحَرَّمَاتِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الإِتْيَانِ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ وَيَجْتَنِبَ مُبْطِلاتِهِ.
الشَّرْحُ أَنَّهُ يَجِبُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ الَّتِي فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ تُفْعَلَ هَذِهِ الْفَرَائِضُ مِنْ تَطْبِيقِ الأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ، وَلا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقِيَامِ بِصُوَرِ الأَعْمَالِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ الْيَوْمَ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى صُوَرِ الأَعْمَالِ، فَأَحَدُهُمْ يَذْهَبُ إِلَى الْحَجِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الْحَجِّ وَيَكْتَفِي بِأَنْ يُقَلِّدَ النَّاسَ فِي أَعْمَالِهِمْ، هَؤُلاءِ يَدْخُلُونَ تَحْتَ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ، وَرُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ [فِي صَحِيحِهِ].
وَقَوْلُهُ: «وَيَجْتَنِبَ مُبْطِلاتِهِ» يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْفَرَائِضَ حَتَّى يَجْتَنِبَهَا.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرُ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شَىْءٍ مِنْهَا أَوْ يَأْتِي بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا بِالإِتْيَانِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا.
الشَّرْحُ يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَأْمُرَ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شَىْءٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ بِأَدَائِهَا، وَيَأْمُرَ مَنْ رَءَاهُ يَأْتِي بِشَىْءٍ مِنَ هَذِهِ الْفَرَائِضِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَصِحُّ بِهِ، هَذَا إِنْ كَانَ يُخِلُّ بِفَرْضٍ أَوْ يَأْتِي بِمُبْطِلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ عِنْدَ الأَئِمَّةِ، أَمَّا مَنْ رَءَاهُ يُخِلُّ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ لا يُنْكِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ مَا يَعْتَقِدُهُ مُخِلًّا بِصِحَّةِ الْفَرْضِ فَيُنْكِرُ عَلَيْهِ كَمَا يُنْكِرُ عَلَى مَنْ أَتَى بِمُخِلٍّ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الأَئِمَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ رَأَى رَجُلًا كَاشِفًا فَخِذَيْهِ فِي الصَّلاةِ أَوْ غَيْرِهَا لا يُنْكِرُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا حَرَامٌ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّخْصُ الَّذِي كَشَفَ فَخِذَهُ يَعْتَقِدُ بِأَنَّ كَشْفَ الْفَخِذِ عَلَى الرَّجُلِ حَرَامٌ حِينَئِذٍ يَجِبُ الإِنْكَارُ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَخِذَ الرَّجُلِ اخْتَلَفَ الأَئِمَّةُ فِي حُكْمِهِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا الْفَخِذُ لَيْسَ عَوْرَةً وَقَالَ بِذَلِكَ ءَاخَرُونَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ دَاوُدُ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَعَطَاءُ بنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُحَمَّدُ بنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَهْرُهُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ.
الشَّرْحُ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ إِنْسَانًا لا يُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ صَحِيحَةً أَوْ يَتْرُكُهَا بِالْمَرَّةِ وَكَانَ لا يَمْتَثِلُ إِلَّا بِالْقَهْرِ يَجِبُ أَنْ يَقْهَرَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْ أَنْ يُرْغِمَهُ إِنِ اسْتَطَاعَ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْكَارُ بِقَلْبِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْقَهْرِ وَالأَمْرِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيـمَانِ أَيْ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ عِنْدَ الْعَجْزِ.
الشَّرْحُ أَنَّ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْهَرَ أَوْ يَنْهَى الشَّخْصَ الَّذِي يَتْرُكُ بَعْضَ الْفَرَائِضِ أَوْ يَأْتِي بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُصَلِّي صَلاةً فَاسِدَةً أَوْ يَصُومُ صِيَامًا فَاسِدًا أَوْ يَحُجُّ حَجًّا فَاسِدًا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ أَيِ الْكَرَاهِيَةُ لِفِعْلِ هَذَا الإِنْسَانِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ بِقَلْبِهِ فَإِنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ سَلِمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا أَضْعَفُ الإِيـمَانِ أَيْ أَقَلُّهُ ثَمَرَةً أَيْ فَائِدَةً.
وَالْمُرَادُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَدِيثِ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ» إِلَى ءَاخِرِهِ [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ] الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْمُنْكَرِ لا خُصُوصُ الرُّؤْيَةِ بِالْبَصَرِ فَإِنَّ الْعَرَبَ يُطْلِقُونَ الرُّؤْيَةَ وَيُرِيدُونَ بِهَا الْعِلْمَ فِي بَعْضِ الأَحْوَالِ.
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ إِذَا عَلِمَ بِمَعْصِيَةٍ مِنْ إِنْسَانٍ وَلَوْ كَانَ غَائِبًا أَنْ يَكْرَهَ بِقَلْبِهِ فِعْلَ ذَلِكَ الإِنْسَانِ لِهَذِهِ الْمَعْصِيَةِ.
أَمَّا إِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الإِنْكَارَ بِالْيَدِ أَوِ الْقَوْلِ فَلا يَكْفِيهِ الإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ، فَهَذِهِ الْكَرَاهِيَةُ لا تُخَلِّصُهُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ. فَالَّذِي يَحْضُرُ الْمَعْصِيَةَ وَلا يُنْكِرُهَا وَالَّذِي يَعْلَمُ بِهَا وَلا يَحْضُرُهَا فَلا يُنْكِرُهَا بِالْقَلْبِ سَوَاءٌ فِي الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَالسَّالِمُ مَنْ أَنْكَرَ إِنِ اسْتَطَاعَ بِيَدِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ.
وَمِنَ الْمُنْكَرِ الَّذِي يَجِبُ إِزَالَتُهُ الْكُفْرُ فَلِذَلِكَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الْجِهَادَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَقَاتِلُوهُم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة/193]، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ [فِي صَحِيحِهِ] عَنِ الْمُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ قَالَ لِكُفَّارِ الْفُرْسِ «أَمَرَنَا نَبِيُّنَا أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ». وَهَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَيْسَ تَخْيِيرًا فَإِنَّهُ تَجِبُ دَعْوَةُ الْكُفَّارِ إِلَى الإِسْلامِ فَإِنْ قَبِلُوا فَذَاكَ الأَمْرُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلُوا يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ دَفْعُ الْجِزْيَةِ فَإِنْ قَبِلُوا تُرِكُوا وَإِلَّا وَجَبَ قِتَالُهُمْ هَذَا إِنِ اسْتَطَاعَ الْمُسْلِمُونَ.
وَإِزَالَةُ الْمُنْكَرَاتِ الْفِعْلِيَّةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ… » إِلَى ءَاخِرِهِ وَلَمْ يَزَلِ الأَئِمَّةُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنْ مُعْتَزِلَةٍ وَمُشَبِّهَةٍ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِمُ الأَئِمَّةُ الأَرْبَعَةُ وَصَنَّفَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ رَسَائِلَ.
وَزَادَ الْمُؤَلِّفُ إِيضَاحًا لِذَلِكَ قَوْلَهُ:
وَيَجِبُ تَرْكُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ وَنَهْيُ مُرْتَكِبِهَا وَمَنْعُهُ قَهْرًا مِنْهَا إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ.
الشَّرْحُ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمُنْكَرَاتُ نَحْوَ ءَالاتِ الْمَلاهِي وَالصُّوَرِ الْمُجَسَّمَةِ فَبِتَكْسِيرِهَا لِمَنِ اسْتَطَاعَ وَإِنْ كَانَتْ خُمُورًا فَبإِرَاقَتِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ لا يُؤَدِّيَ فِعْلُهُ إِلَى مُنْكَرٍ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ وَإِلَّا فَلا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ عُدُولًا عَنِ الْفَسَادِ إِلَى الأَفْسَدِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ». وَقَدْ حَصَلَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الرَّابِعِ الْهِجْرِيِّ بِنَاحِيَةِ نَيْسَابُورَ فِي بِلادِ فَارِسَ الإِسْلامِيَّةِ أَنَّ طَائِفَةً مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَهُمْ سَلَفُ الْوَهَّابِيَّةِ الْمُشَبِّهَةِ ظَهَرَتْ وَقَوِيَ أَمْرُهَا حَتَّى صَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَهْرُبُونَ مِنْ فِتْنَتِهِمْ إِلَى الْجِبَالِ فَتَصَدَّى لإِطْفَاءِ هَذِهِ الثَّائِرَةِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ الأَسْفَرَايِينِيُّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ الْعِلْمِ وَلا سِيَّمَا فِي عِلْمِ الْعَقِيدَةِ وَالنِّضَالِ عَنْهَا فَصَارَ يَقُولُ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَوَوْا إِلَى الْجِبَالِ: «يَا أَكَلَةَ الْحَشِيشِ تَتْرُكُونَ دِينَ مُحَمَّدٍ تَلْعَبُ بِهِ الذِّئَابُ»، صَارَ يُوَبِّخُهُمْ وَيُعَيِّرُهُمْ مَعْنَاهُ لِمَ لَمْ تَثْبُتُوا بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى تُدَافِعُوا عَنِ الإِسْلامِ.
وَمِمَّنْ كَانَ لَهُ عِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ فِي تَقْرِيرِ عَقَائِدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ مَشْهُورًا بِذَلِكَ. كَانَ يَتَصَدَّى لِكَسْرِ الْمُلْحِدِينَ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ وَغَيْرِهِمْ بِالأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ حَتَّى شُهِرَ وَعُرِفَ بِذَلِكَ وَصَارَ كَنَارٍ عَلَى عَلَمٍ، وَكَانَ مِنْ شِدَّةِ عِنَايَتِهِ بِالنِّضَالِ عَنِ الدِّينِ يُسَافِرُ مِنْ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ سَافَرَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً لِكَسْرِ هَؤُلاءِ، لِذَلِكَ كَثُرَتِ الْعِنَايَةُ فِي أَتْبَاعِهِ بِعِلْمِ الْعَقِيدَةِ. ثُمَّ بَعْدَ انْتِشَارِ بِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ قَيَّضَ اللَّهُ تَعَالَى لِلأُمَّةِ إِمَامَيْنِ جَلِيلَيْنِ هُمَا أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ وَأَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَضِيَّ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَامَا بِإِيضَاحِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الصَّحَابَةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِيرَادِ أَدِلَّةٍ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ مَعَ رَدِّ شُبَهِ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُمْ فِرَقٌ عَدِيدَةٌ بَلَغَ عَدَدُهُمْ عِشْرِينَ فِرْقَةً، فَقَامَا بِالرَّدِّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْفِرَقِ أَتَمَّ الْقِيَامِ بِرَدِّ شُبَهِهِمْ وَإِبْطَالِهَا فَنُسِبَ إِلَيْهِمَا أَهْلُ السُّنَّةِ فَصَارَ يُقَالُ لِأَهْلِ السُّنَّةِ أَشْعَرِيُّونَ وَمَاتُرِيدِيُّونَ.
وَلْيُحْذَرْ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دِينِهِ اللَّهُ يُعِينُهُ عَلَى مَعْنَى الدُّعَاءِ لَهُمْ وَتَرْكُ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَّنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [سُورَةَ الْمَائِدَة/105] مَعْنَاهُ أَنَّهُ لا يَجِبُ إِنْكَارُ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْغَيْرُ إِذَا كَانَ الشَّخْصُ هُوَ يَتَجَنَّبُهَا وَأَنَّهُ يَكْفِيهِ ذَلِكَ، كَيْفَ وَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ كَالْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْمُنْكَرَاتِ الْفِعْلِيَّةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الإِسْلامِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ… » إِلَى ءَاخِرِهِ وَلَمْ يَزَلِ الأَئِمَّةُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الأَشْعَرِيِّ وَالْمَاتُرِيدِيِّ يُنْكِرُونَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنْ مُعْتَزِلَةٍ وَمُشَبِّهَةٍ وَغَيْرِهِمْ. رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقْرَءُونَ هَذِهِ الآيَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ وَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْ مَنْ يَفْعَلُهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتُوا» فَالآيَةُ مَعْنَاهَا أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا لِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى افْعَلُوا مَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَكُفُّوا عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَإِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ، هَذَا مَعْنَى الآيَةِ.
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ النَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ الْمُحَرَّمِ فَلا يَكُونُ الْمَرْءُ قَائِمًا بِمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَعَ تَرْكِ نَهْيِ الْغَيْرِ عَنِ الْمُنْكَرِ الِاعْتِقَادِيِّ وَغَيْرِهِ.
قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالْحَرَامُ مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ بِالْعِقَابِ وَوَعَدَ تَارِكَهُ بِالثَّوَابِ وَعَكْسُهُ الْوَاجِبُ.
الشَّرْحُ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْحَرَامِ أَيْ أَنَّ الْحَرَامَ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَجْتَنِبُوهُ مَعْنَاهُ مَا فِي ارْتِكَابِهِ عِقَابٌ فِي الآخِرَةِ وَفِي تَرْكِهِ ثَوَابٌ، وَالْوَاجِبُ بِمَعْنَى الْفَرْضِ مَا فِي فِعْلِهِ ثَوَابٌ وَفِي تَرْكِهِ عِقَابٌ.
فَائِدَةٌ قَدْ يُطْلَقُ الْوَاجِبُ عَلَى السُّنَّةِ أَيْ نَوَافِلِ الطَّاعَاتِ كَحَدِيثِ «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ [فِي صَحِيحَيْهِمَا]، وَقَدْ تُطْلَقُ السُّنَّةُ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَيِ الْعَقِيدَةِ وَالأَحْكَامِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ كَحَدِيثِ «سِتَّةٌ لَعَنْتُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مُجَابٍ» [أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ] فَفِي ءَاخِرِهِ «وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي»، وَمِثْلُهُ حَدِيثُ «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهْيدٍ» [أَيْ يُشْبِهُ أَجْرَ شَهِيدٍ] رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي» ظَاهِرٌ أَنَّهُ فِيمَنْ تَرَكَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الِاعْتِقَادِ إِلَى غَيْرِهِ وَهُمْ أَهْلُ الأَهْوَاءِ. فَتَخْصِيصُ السُنَّةِ بِمَا يُقَابِلُ الْفَرْضَ عُرْفٌ لِلْفُقَهَاءِ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْفَرْضِ سُنَّةٌ أَيْ أَنَّهُ مِنَ شَرْعِ الرَّسُولِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ سَالِمٍ مِنْ إِيهَامِ السَّامِعِ أَنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا.