الخميس نوفمبر 21, 2024

الْمُعْجِزَةُ

اعْلَمْ أَنَّ السَّبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الْمُعْجِزَةُ، وَهِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ يَأْتِي عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَوِا النُّبُوَّةَ سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْمِثْلِ. فَمَا كَانَ مِنَ الأُمُورِ عَجِيبًا وَلَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلْعَادَةِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ.

وَكَذَلِكَ مَا كَانَ خَارِقًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ كَالْخَوَارِقِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي الأَوْلِيَاءِ أَتْبَاعِ الأَنْبِيَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ بَلْ يُسَمَّى كَرَامَةً.

وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الْمُعْجِزَةِ مَا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ كَالسِّحْرِ فَإِنَّهُ يُعَارَضُ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ.

وَالْمُعْجِزَةُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَقَعُ بَعْدَ اقْتِرَاحٍ مِنَ النَّاسِ عَلَى الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَقِسْمٌ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَاحٍ.

فَالأَوَّلُ نَحْوُ نَاقَةِ صَالِحٍ الَّتِي خَرَجَتْ مِنَ الصَّخْرَةِ. اقْتَرَحَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إِلَيْنَا لِنُؤْمِنَ بِكَ فَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ نَاقَةً وَفَصِيلَهَا فَأَخْرَجَ لَهُمْ نَاقَةً مَعَهَا فَصِيلُهَا (أَيْ وَلَدُهَا) فَانْدَهَشُوا فَآمَنُوا بِهِ.

لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا فِي قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا الأَمْرِ الْعَجِيبِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِمِثْلِ مَا أَتَى بِهِ، فَثَبَتَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ. وَلا يَسَعُهُمْ إِلَّا الإِذْعَانُ وَالتَّصْدِيقُ لِأَنَّ الْعَقْلَ يُوجِبُ تَصْدِيقَ مَنْ أَتَى بِمْثِلِ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي لا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ مِنْ قِبَلِ الْمُعَارِضِينَ. فَمَنْ لَمْ يُذْعِنْ وَعَانَدَ يُعَدُّ مُهْدِرًا لِقِيمَةِ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ.

مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ لِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَدَمُ تَأْثِيرِ النَّارِ الْعَظِيمَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حَيْثُ لَمْ تَحْرِقْهُ وَلا ثِيَابَهُ.

وَمِنْهَا انْقِلابُ عَصَا مُوسَى ثُعْبَانًا حَقِيقِيًّا ثُمَّ عَوْدُهَا إِلَى حَالَتِهَا بَعْدَ أَنِ اعْتَرَفَ السَّحَرَةُ الَّذِينَ أَحْضَرَهُمْ فِرْعَوْنُ لِمُعَارَضَتِهِ وَأَذْعَنُوا فَآمَنُوا بِاللَّهِ وَكَفَرُوا بِفِرْعَوْنَ وَاعْتَرَفُوا لِمُوسَى بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا جَاءَ بِهِ.

وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ لِلْمَسِيحِ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذَلِكَ لا يُسْتَطَاعُ مُعَارَضَتُهُ بِالْمِثْلِ فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْيَهُودُ الَّذِينَ كَانُوا مُولَعِينَ بِتَكْذِيبِهِ وَحَرِيصِينَ عَلَى الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يُعَارِضُوهُ بِالْمِثْلِ. وَقَدْ أَتَى أَيْضًا بِعَجِيبَةٍ أُخْرَى عَظِيمَةٍ وَهِيَ إِبْرَاءُ الأَكْمَهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ مُعَارَضَتَهُ بِالْمِثْلِ مَعَ تَوَفُّرِ الطِّبِّ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِي كُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ وُجُوبِ عِبَادَةِ الْخَالِقِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ بِهِ وَوُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ فِي الأَعْمَالِ الَّتِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا.