السبت سبتمبر 7, 2024

الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ

   كُلُّ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ فِيهِ اسْتِخْفَافٌ بِاللَّهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوْ كُتُبِهِ أَوْ مَلائِكَتِهِ أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ أَوْ شَعَائِرِهِ أَوْ مَعَالِمِ دِينِهِ أَوْ ءَايَاتِهِ فَهُوَ كُفْرٌ.

   وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ اللَّفْظَ الْمُكَفِّرَ إِلَى ظَاهِرٍ وَصَرِيحٍ فَالظَّاهِرُ مَا كَانَ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ وَجْهَانِ فَأَكْثَرَ وَلَكِنَّهُ إِلَى الْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ أَقْرَبُ وَأَمَّا الصَّرِيحُ فَلَيْسَ لَهُ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ إِلَّا وَجْهٌ وَاحِدٌ كُفْرِىٌّ، قَالُوا فَمَنْ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ ظَاهِرٍ لَهُ مَعْنَيَانِ فَأَكْثَرُ أَحَدُهُمَا مُتَبَادِرٌ وَهُوَ الْكُفْرُ وَالآخَرُ غَيْرُ مُتَبَادِرٍ لا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مُرَادُهُ وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِى الْكُفْرِ كُفِّرَ وَلا يُسْأَلُ عَنْ مُرَادِهِ وَلا يُقْبَلُ لَهُ تَأْوِيلٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لا يَعْرِفُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَعْنَاهُ صَرِيحٌ فِى الْكُفْرِ بَلْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ مَعْنًى ءَاخَرَ غَيْرَ كُفْرِىٍّ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِنْدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ حُكْمُ الصَّرِيحِ مِثَالُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ مَا فِى الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لا مَوْجُودَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ هُوَ الْكُلُّ فَإِنَّ هَذِهِ الأَلْفَاظَ مِنْ صَرِيحِ الْكُفْرِ بِحَسَبِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِىِّ لِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ الْعَالَمَ هُوَ اللَّهُ لَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ لا يَفْهَمُونَ مِنْهَا هَذَا الْمَعْنَى بَلْ يَظُنُّونَ أَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ هُوَ مُدَبِّرُ كُلِّ شَىْءٍ فَهَؤُلاءِ لا يُكَفَّرُونَ إِذَا قَالُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَإِنَّمَا يُنْهَوْنَ عَنْهَا وَيُبَيَّنُ لَهُمْ فَسَادُ مَعْنَاهَا بِخِلافِ الَّذِينَ وَضَعُوا هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ وَكَانُوا يَفْهَمُونَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِى هُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ وَالْعَالَمِ أَىْ جَعْلُ اللَّهِ وَالْعَالَمِ شَيْئًا وَاحِدًا فَإِنَّهُمْ يُكَفَّرُونَ وَهَؤُلاءِ كَانُوا مِنْ مَلاحِدَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الإِسْلامِ وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ بَعْضِ فَلاسِفَةِ الْيُونَانِ فَسَرَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الأَلْفَاظُ إِلَى أَسْمَاعِ بَعْضِ الْعَوَامِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا مَعْنَاهَا ثُمَّ مُنْذُ نَحْوِ قَرْنٍ ظَهَرَ مِنْ أُنَاسٍ يَنْتَسِبُونَ لِلشَّاذِلِيَّةِ الْيَشْرُطِيَّةِ الْقَوْلُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَعَ اعْتِقَادِ مَعْنَاهَا الَّذِى هُوَ كُفْرٌ وَهُوَ الْمَعْنَى الأَصْلِىُّ لَهَا وَهَؤُلاءِ تَارَةً يَقُولُونَ اللَّهُ حَالٌّ فِى كُلِّ شَخْصٍ وَتَارَةً يَقُولُونَ بِاتِّحَادِ اللَّهِ بِالأَشْخَاصِ [أَمَّا الشَّيْخُ نُورُ الدِّينِ عَلِىٌّ الْيَشْرُطِىُّ مُؤَسِّسُ الطَّرِيقَةِ الْيَشْرُطِيَّةِ فَلا نُثْبِتُ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالاتِ بَلْ نُقِلَ عَنْهُ كَمَا فِى تَارِيخِ حَلَب لِلطَّبَّاخِ أَنَّهُ ظَهَرَ فِى أَتْبَاعِهِ مَقَالاتٌ شَاذَّةٌ فِى حَيَاتِهِ وَأَنَّ الشَّيْخَ كَانَ يُحَذِّرُ مِنْهَا وَمِنْ أَصْحَابِهَا وَيُظْهِرُ التَّبَرُّؤَ مِنْ كُلِّ مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ].

   كَذَلِكَ إِنْ ظَنَّ شَخْصٌ لِجَهْلِهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِىِّ أَنَّ الْكَلِمَةَ الصَّرِيحَةَ فِى الْكُفْرِ تَحْمِلُ فِى اللُّغَةِ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا كُفْرِىٌّ وَالآخَرُ لَيْسَ فِيهِ كُفْرٌ وَنَطَقَ بِهَا وَمُرَادُهُ غَيْرُ الْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ بِخِلافِ مَنْ عَرَفَ أَنَّ الْكَلِمَةَ صَرِيحَةٌ بِحَسَبِ وَضْعِ اللُّغَةِ وَوَلَّدَ مَعْنًى ءَاخَرَ لَهَا بِزَعْمِهِ فَقَصَدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَقِدَ الْمَعْنَى الأَصْلِىَّ لَهَا لَكِنْ تَلَفَّظَ بِهَا عَمْدًا مَعَ فَهْمِهِ لِلْمَعْنَى الأَصْلِىِّ وَذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِ السُّفَهَاءِ أُخْتَ رَبِّكَ أَوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ يَا ابْنَ اللَّهِ فَهَؤُلاءِ يَكْفُرُونَ مَعَ أَنَّهُمْ لا يَقْصِدُونَ الْمَعْنَى [أَىْ وَلا يَعْتَقِدُونَهُ] وَهَؤُلاءِ قِسْمٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ بِالْعَامِيَّةِ يَا إِبِنْ أَلَّا بِدُونِ هَاءٍ مِنْ لَفْظِ الْجَلالَةِ وَهُمْ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ اللَّهَ لِأَنَّ عِنْدَهُمُ اللَّهَ بِالْهَاءِ وَأَلَّا بِلا هَاءٍ وَاحِدٌ.

   فَمَنْ تَلَفَّظَ بِالصَّرِيحِ مِنْ أَلْفَاظِ الرِّدَّةِ نَظَرْنَا فِى حَالِهِ هَلْ يَفْهَمُ الْمَعْنَى أَوْ يَجْهَلُهُ وَيَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَعْنَاهَا شَىْءٌ ءَاخَرُ فَإِنْ كَانَ يَجْهَلُهُ فَإِنَّنَا لا نُكَفِّرُهُ فِى هَذِهِ الْحَالِ بَلْ نُعَلِّمُهُ مَعْنَى الْكَلامِ وَنَنْهَاهُ عَنْهُ، حَتَّى لَوْ نَطَقَ بِالصَّرِيحِ وَهُوَ نَاسٍ لِلْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ الَّذِى كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلًا وَلَمْ يَكُنْ يَفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ النُّطْقِ إِلَّا مَعْنًى لَيْسَ فِيهِ كُفْرٌ فَلا يَكْفُرُ.

   وَيُعْلَمُ مِنْ هُنَا أَنَّهُ لا يَنْبَغِى التَّسَرُّعُ فِى إِطْلاقِ التَّكْفِيرِ عَلَى شَخْصٍ نَطَقَ بِكَلامٍ غَيْرِ صَرِيحٍ فِى الْكُفْرِ وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ فِى الْمَعْنَى الْكُفْرِىِّ قَبْلَ الْعِلْمِ بِمُرَادِهِ، وَلا إِطْلاقِ التَّكْفِيرِ عَلَى مَنْ نَطَقَ بِالصَّرِيحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى اللَّفْظِ وَيَعْرِفَ كَوْنَهُ صَرِيحًا.

   قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا كَانَ لِلْكَلِمَةِ سَبْعُونَ مَعْنًى هِىَ كُفْرٌ وَمَعْنًى وَاحِدٌ لَيْسَ كُفْرًا لا يُكَفَّرُ الْمُتَلَفِّظُ بِهَا إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِى الَّتِى هِىَ كُفْرٌ اهـ وَيُنْسَبُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا إِلَى أَبِى حَنِيفَةَ أَوْ مَالِكٍ وَلا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْهُمَا لَكِنِ الْمَعْنَى صَحِيحٌ وَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الإِمَامَيْنِ [وَأَمَّا مَا يَنْسُبُهُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى الإِمَامَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِى الْمَسْئَلَةِ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ قَوْلًا بِالتَّكْفِيرِ وَقَوْلٌ وَاحِدٌ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ يُؤْخَذُ بِقَوْلِ عَدَمِ التَّكْفِيرِ فَهُوَ افْتِرَاءٌ عَلَى الإِمَامَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ وَإِنَّمَا يَدُورُ الأَمْرُ فِى هَذِهِ الأَحْوَالِ مَعَ الدَّلِيلِ فَإِنْ دَلَّ دَلِيلُ الشَّرْعِ عَلَى التَّكْفِيرِ حُكِمَ بِهِ وَإِلَّا فَلا]، وَالتَّعْبِيرُ الْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِى إِثْبَاتِ حُكْمِ الرِّدَّةِ هُوَ قَوْلُهُمْ إِنْ كَانَ لِلْكَلِمَةِ وُجُوهٌ تَقْتَضِى الْكُفْرَ وَوَجْهٌ وَاحِدٌ لا يَقْتَضِى الْكُفْرَ لا يُكَفِّرُهُ الْمُفْتِى إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْمَعْنَى الْكُفْرِىَّ وَمُرَادُهُمْ بِالْوُجُوهِ الْمَعَانِى فَإِنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يَكُونُ لَهَا بِضْعَةَ عَشَرَ مَعْنًى كَكَلِمَةِ الْيَدِ فَمَنْ نَسَبَ الْيَدَ إِلَى اللَّهِ وَأَرَادَ بِهَا الْجَارِحَةَ أَىِ الْعُضْوَ الَّذِى هُوَ مِنَ الإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ لِأَنَّهُ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ. وَمَنْ نَسَبَ الْيَدَ لِلَّهِ وَأَرَادَ بِهَا الْقُدْرَةَ أَوِ النِّعْمَةَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِى الَّتِى لَيْسَ فِيهَا تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ فَلا يُكَفَّرُ فَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْكَمُ عَلَى مَنْ يُفَسِّرُ الْيَدَ الْمُضَافَةَ إِلَى اللَّهِ فِى الْقُرْءَانِ وَعَلَى مَنْ يُفَسِّرُ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ الْوَارِدَ فِيهِ وَالْمَجِىءَ الْوَارِدَ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْفَجْرِ ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ﴾ فَإِنْ فَسَّرَ الْيَدَ بِالْجَارِحَةِ أَوِ الِاسْتِوَاءَ بِالْجُلُوسِ أَوِ الِاسْتِقْرَارِ أَوْ عُلُوِّ الْمَكَانِ وَالْمَسَافَةِ أَىْ فَسَّرَ الْوَارِدَ بِالْمَعْنَى الْحِسِّىِّ الَّذِى هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ أَوْ فَسَّرَ الْمَجِىءَ بِأَنَّهُ كَمَجِىءِ الإِنْسَانِ وَالْمَلائِكَةِ بِالِانْتِقَالِ وَالْحَرَكَةِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ.

   بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ نَقُولُ لَوْ سَمِعْنَا شَخْصًا يَقُولُ مَثَلًا الصَّلاةُ عَلَى النَّبِىِّ مَكْرُوهَةٌ فَلا يَنْبَغِى التَّسَرُّعُ فِى تَكْفِيرِهِ بَلْ يُسْأَلُ عَنْ مُرَادِهِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُطْلِقُونَ كَلِمَةَ النَّبِىِّ عَلَى الأَرْضِ الْمُرْتَفِعَةِ الْمُحْدَوْدِبَةِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى الأَرْضِ الْمُحْدَوْدِبَةِ مَكْرُوهَةٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الصَّلاةِ لا خُشُوعَ فِيهَا فَكَلامُهُ صَحِيحٌ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنَّ الصَّلاةَ عَلَى النَّبِىِّ مُحَمَّدٍ مَكْرُوهَةٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَفِى الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ أَنَّ كَلِمَةَ النَّبِىِّ لَهَا هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ.

   وَيَتَبَيَّنُ لَنَا أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُفْتِى أَنْ يُفْتِىَ فِى هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ لِسَانَ أَهْلِ الْبَلَدِ فِيمَا يَسْتَعْمِلُونَ مِنَ الأَلْفَاظِ أَىْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُفْتِى أَنْ يُفْتِىَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالأَلْفَاظِ إِلَّا أَنْ يَعْرِفَ اصْطِلاحَاتِ أَهْلِ الْبَلَدِ.