الْغَفُورُ:
هوَ الذي تَكْثُرُ منهُ المغفرةُ ﭧﭐﭨﭐﱡﭐﳃ ﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈﳉﱠ([1])
وقالَ اللهُ تعالى: ﱡﭐﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩﱪﱠ([2])
قالَ النسفيُّ: الغَفُوْرُ السَاتِرُ للعُيُوبِ العَافيْ عَنِ الذُنُوبِ([3]).اهـ
فَاللهُ تَعَالَى يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِلَّا الإِشْرَاكَ بِهِ
سُبْحَانَهُ أَيْ لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الموْتِ، فَمَهَمَا بَلَغَتِ
الذُّنُوبُ فِي الكَثْرَةِ وَاسْتَغْفَرَ العَبْدُ ربَّه فَإِنَّهُ يَغْفِرُ لَهُ
وَلَا يُبَالِي، وَلِيسَ التَّوْبَةُ مُجَرَّدَ الاسْتِغْفَارِ اللِّسَانِيِّ
إِنَّمَا لَا بُدَّ مِنْ أَرْكَانٍ لِهَذِهِ التَّوْبَةِ، فَمَا هِيَ التَّوْبَةُ؟
وَمَا هِيَ أَقْسَامُهَا؟ التَّوْبَةُ فِي الشَّرَعِ هِيَ الرُّجُوعُ عَنْ
المعْصِيَةِ إِلَى الطَّاعَةِ سَوَاءٌ كَانَتِ المعْصِيَةُ مِنَ الصَّغَائِرِ أَمْ
مِنَ الكَبَائِرِ.
وَأَمَّا أَسْبَابُ المعَاصِي
فَكَثِيرَةٌ: مِنْهَا شَهْوَةُ النَّفْسِ، فَكَثِيرٌ مِنَ الأَنْفُسِ تَشْتَهِي
المعَاصِيَ وَتَسْتَلِذُّ بِهَا والعياذُ بِاللهِ تَعَالَى، وَمِنْهَا الغَفْلَةُ،
وَهِيَ اسْوِدَادُ القَلْبِ، فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُكْثرُونَ مِن اقْتِرَافِ
المحَرَّمَاتِ حَتَّى يَسْوَدَّ قَلْبُهُم وَيَعْتَادَ عَلَى المعَاصِي فَتَسْهُلَ
هَذِهِ الذُّنُوبُ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ: فَالشَّيْطَانُ
يُوقِعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي المعَاصِي كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ قَالَ ﷺ:
((إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجرَى الدَّمِ([4])))
وَيُسْتَثْنى مِنْ ذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ صَلَّى اللهَ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ،
فَلَا يَحْصُلُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْهُمْ مَجْرَى الدَّمِ([5]).
كَيْفَ يَتُوبُ المُذْنِبُ مِنْ
ذُنُوبِهُ؟ إِذْ لا بُدَّ لِصِحَّةِ
التَّوْبَةِ مِنْ أَرْكَانٍ وَهِيَ:
أَوَّلًا:
الإِقْلَاعُ عَنِ المعْصِيَةِ فَيَنْبَغِي عَلَى التَّائِبِ مِنَ الذَّنْبِ أَنْ
يَتْرُكَ هَذِهِ المعْصِيَةَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى.
ثَانِيًا:
النَّدَمُ خَوْفًا مِنَ اللهِ تَعَالَى وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَشْعِرَ فِي
قَلْبِهِ النَّدَمَ لِأَنَّهُ عَصَى اللهَ تَعَالَى وَتَجَرَّأَ عَلَى
مَعْصِيَتِهِ سُبْحَانَهُ مَثَلًا.
ثَالِثًا:
العَزْمُ الأَكِيدُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، أَيْ أَنْ يَعْزِمَ
يَقِينًا فِي قَلْبِهِ عَلَى أَنَّهُ لَنْ يَعُودَ لِهَذِهِ المعْصِيَةِ مَهْمَا
كَانَتْ.
ثُمَّ هُنَاكَ شُرُوطٌ أُخْرَى لَا
بُدَّ مِنْهَا فِي بَعْضِ الذُّنُوبِ فَإِذَا كَانَتِ المعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ
بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ بَنِي آدَمَ فَتَوْبَتُهُ تَكُونُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِمَا ذَكَرْتُ
مِنَ الشُّرُوطِ وهيَ “الإِقْلَاعُ وَالنَّدَمُ وَالعَزْمُ” وَيَزِيدَ
عَلَيْهَا بِأَنْ يَرُدَّ الحَقَّ لِصَاحِبِهِ أَوْ يَسْتَرْضِيهِ، وَمِنَ
المعَاصِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ بَنِي ءادَمَ الضَّرْبُ بِغَيْرِ حَقٍّ
والشَّتْمُ والغِيبَةُ إِذَا بَلَغَتِ المغتابَ، وَأَكْلُ مَالِ النَّاسِ ظُلْمًا،
فَلَا بُدَّ لِلخُرُوجِ مِنَ التَّبِعَةِ إِمَّا بِرَدِّ المالِ أَوْ التَّمْكِينِ
مِنَ القِصَاصِ أَوْ اسْتِرْضَاءِ المظْلُومِ وَإِنْ كَانَتِ المعْصِيَةُ
تَتَعَلَّقُ بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللهِ كَتَرْكِ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ قَضَاهَا ([6]).
أَمَّا مُجَرَّدُ الاسْتِغْفَارِ اللِّسَانِيِّ فَلَيْسَ تَوْبَةً مَعَ أَنَّ
الشَّرَعَ حَثَّنَا عَلَى الإِكْثَارِ مِنَ الاسْتِغْفَارِ اللِّسَانِيِّ، فَعَنْ
أَبِي هُرَيْرَةُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((وَاللهِ إِنَّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ
فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)) ([7])،
وعنِ الأَغَرِّ بنِ يَسارٍ المزنِيِّ([8])
قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: ((يَا
أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ وَاسْتغْفرُوهُ فَإِنِّي أَتُوْبُ فِي
اليَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ)) ([9]).
فَلَيْسَ دَائِمًا يَكُونُ
الاسْتِغْفَارُ مِنْ ذَنْبٍ بَلْ يَكُونُ أَحْيَانًا لِمَحْوِ التَّقْصِيرِ
وَأَحْيَانًا بِمَعْنَى سَتْرِ القَبِيحِ وَالاسْتِغْفَارُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ قَدْ
يِكُون رَفْعًا فِي الدَّرَجَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى خاصٍ بِهِ عَلَيْهِ
الصَلَاةُ وَالسَلَامُ يَلِيقُ بِمَقَامِ النُّبُوَّةِ. فَعَنْ أَبِي حَمْزَةَ
أَنَسِ بنِ مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ خَادِمِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: قالَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ: ((للَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى
بَعِيْرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِيْ أَرْضٍ فَلَاْةٍ))([10]).
وفي روايةٍ: ((للهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِيْنَ يَتُوْبُ
إِلْيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ
مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا فَأَتَى شَجَرةً فَاضْطَجَعَ
فِي ظِلِّهَا وَقَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ
بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ:
اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِيْ وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ))([11]).
قَالَ النَّوَوِيُّ: “قَالَ العُلَمَاءُ: فَرَحُ اللهِ تَعَالَى هُوَ
رِضَاهُ، وَقَالَ المازريُّ: الفَرَحُ يَنْقَسِمُ إِلَى وُجُوهٍ منهَا السُّرُورُ،
وَالسُّرُورُ يُقَابِلُهُ الرِّضَا بالمسرور بِهِ، قَالَ: فَالمرَادُ هُنَا أَنَّ
الله تَعَالَى يَرْضَى تَوْبَةَ عَبْدِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَرْضَى وَاجِدُ ضَالَّتِهِ
بالفلاةِ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالفَرَحِ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الرِّضَا فِي نَفْسِ
السَّامِعِ وَمُبَالَغَةً فِي تَقْدِيرِهِ” ([12])اهـ
فَكَمْ مِنْ مُذْنِبٍ رَجَعَ إِلَى طَاعَةِ مَوْلَاهُ فَقَبِلَ اللهُ تَوْبَتَهُ
وَحَسَّنَ حَالَهُ، فَرَبُّنَا غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَقْبَلُ
التَّوْبَةَ، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ لِلتَّوْبَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ
الأَجَلِ. أَمَّا حُكْمُ الَّذِي تَابَ مِنَ الذَّنْبِ ثَمَّ عَادَ إِلَيْهِ
فَإِنَّ تَوْبَتَهُ الأُولَى لَمْ تَنْتَقِضْ أَيْ تَبْقَى تَوْبَتُهُ الأُولَى
ثُمَّ إِنْ تَابَ المرَّةَ الثَّانِيَةَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَهَكَذَا كُلَّمَا
عَادَ إِلَى الذَّنْبِ جَدَّدَ التَّوْبَةَ فَإِنَّ تَوْبَتَهُ تُقْبَلُ بِإِذْنِ
الله تَعَالَى، فَفِي الخَبَرِ الصَّحِيحِ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إنَّ اللهَ
عَزَّ وجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ ليتوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ
يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ
مَغْرِبِهَا((([13]).
وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَفْتَحُ بَابَ التَّوْبَةِ لِلعَبْدِ
وَيَقْبَلُهَا مِنْهُ إِذَا كَانَتْ فِي الوَقْتِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ، وَقَدْ
قَالَ النَّوَوِيَّ رَحِمَهُ اللهُ: “بَسْطُ اليَدِ اسْتِعَارَةٌ فِي قَبُولِ
التَّوْبَةِ قَالَ المازريُّ: المرَادُ بِهِ قَبولُ التَّوْبَةِ، وَإِنَّمَا
وَرَدَ لَفْظُ بَسْطِ اليَدِ لِأَنَّ العَرَبَ إِذَا رَضِيَ أَحَدُهُمُ الشىءَ
بَسَطَ يَدَهُ لِقَبُولِهِ وَإِذَا كَرِهَهُ قَبَضَهَا عَنْهُ فَخُوطِبُوا
بِأَمْرٍ حِسِّيٍ يَفْهَمُونَهُ وَهُوَ مَجَازٌ فَإِنَّ يَدَ الجَارِحَةِ
مُسْتَحِيلَةٌ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى”([14]).
فائدةٌ: عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللهِ ﷺ: ((مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ
مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ([15]))).
دُعَاءٌ عَظِيْمٌ:
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهُ
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي، قَالَ: ((قُلْ
اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّكَ
أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ([16])))،
وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَبِيرًا))([17])،
بِالْبَاءِ الْمُوَحَدَّةِ.
([4])صحيح مسلم، كتاب
السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن
يقول: هذه فلانة، ليدفع ظن السوء به.
([5]) قال
القاضي: قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان
مجاري دمه وقيل هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الإنسان كما
لا يفارقه دمه، وقيل يُلقي وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب.اهـ
المنهاج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي ج14 ص129.
([6])
قال النووي : أجمع العلماء الذين يعتد بهم على أن من ترك صلاة
عمدًا لزمه قضاؤها.اهـ المجموع شرح المهذب للنووي ج3 ص 59.