الأحد ديسمبر 7, 2025

الْعَلِيْمُ: هوَ العالِمُ بالسرائرِ والخَفِيَّاتِ التي لا يدرِكُها علمُ المخلوقاتِ، ولا يجوزُ أن يُسمَّى اللهُ عارفًا، ﭧﭐﭨﭐﱡ ﳀ ﳁ ﳂﳃ([1]). وقالَ اللهُ تعالى:  ﭐﱡﭐﲸﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﲾ ﲿﳀ ﳁ ﳂ ﳃ  ﳄ ﳅﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎ  ﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﳘ ﳙﳚ([2]) وعلمُه تعالى علمٌ واحدٌ لا ابتداءَ لهُ أيْ صفةٌ واحدةٌ، خلافًا لِمَنْ قالَ إِنَّ علمَه الذي هوَ صفتُه يتعددُ بتعددِ المعلوماتِ -حاشا للهِ- فإِنَّ كثرةَ متعلقاتِ الصفةِ لا تجعلُ الصفةَ متكثرةً.

اتفقَ المسلمونَ جميعُهم على أنَّ اللهَ تعالى عالمٌ بجميعِ المعلوماتِ الموجوداتِ منها والمعدوماتِ فهو سبحانَه يعلمُ دبيبَ([3]) النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصمَّاءِ([4]) في الليلةِ الظلماءِ، ويعلمُ حركةَ الذرِّ([5]) في جوِّ الهواءِ ويعلمُ السرَّ وأخفى([6])، ويعلمُ هواجسَ الضمائر([7]) وحركاتِ الخواطرِ([8]) وخفيَّاتِ السرائرِ([9])، كلُّ ذلكَ يعلمُه بعلمٍ قديمٍ أزليٍّ لم يزلْ متصفًا بهِ في الأزلِ، لا بِعِلْمٍ متجددٍ حاصلٍ في ذاتِه بالحلولِ والانتقالِ تعالى اللهُ عنْ ذلكَ علوًا كبيرًا. وفي معنى ذلكَ قال الشاعرُ الصوفيُّ اليمنيُّ عبدُ الرحيمِ بنُ أحمدَ البرعيُّ([10]) [الطويل]:

يَرَى حَرَكَاتِ النَّمْلِ فِي ظُلَمِ الدُّجَى

¯¯

وَلَمْ يَخْفَ إِعْلَانٌ عَلَيْهِ وَإِسْرَارُ

وَيُحْصِيْ عَدِيْدَ النَّمْلِ وَالقَطْرَ وَالحَصَى

¯¯

وَمَا اشْتَمَلَتْ بَحْرٌ عَلَيْهِ وَأَنْهَارُ

ومِنَ الدليلِ العقليِّ على وجوبِ صفةِ العلمِ للهِ تعالى أَنَّه لو لم يكنْ موصوفًا بالعلمِ لكانَ موصوفًا بضدِّه وهوَ الجهلُ، والربُّ عزَّ وجلَّ موصوفٌ بصفاتِ الكمالِ التي تليقُ بهِ لا بصفاتِ النقصِ حاشاهُ.

وقالَ تعالى:  ﭐﱡﭐﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧﱨ([11]) مهما كانتِ العينُ سريعةً في استراقِ النظرِ إلى الشىءِ ومهما كانتِ النفوسُ تُسِرُّ مِنْ أمانةٍ أو خيانةٍ فاللهُ عالمٌ بكلِّ ما يحصلُ في هذا العالمِ،  ﭧﭐﭨﭐﱡﭐﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼ ﳍ([12]) لا يعلمونَ إلَّا ما أطلعَهم اللهُ عليهِ مِنْ بعضِ الغيبِ، أمَّا ما سوى ذلكَ مِنْ معلوماتِ اللهِ فلا يعلمُه أحدٌ إلَّا اللهُ لقولِه تعالى:  ﭐﱡﭐﳄ ﳅﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊﳋ([13]) أي لا يطلعُ أحدًا على كلِّ الغيبِ. وهذا منَ المفردِ المضافِ، والمفردُ المضافُ يكونُ للعمومِ، فـ”غَيْبِهِ” مفردٌ مضافٌ فهوَ للعمومِ([14]) أيْ لا يعلمُ جميعَ الغيبِ إلا اللهُ.

       ووردَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مفاتيحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ: لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا فِي غَدٍ إلَّا اللهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا تغيضُ الأَرْحَامُ إلَّا اللهُ، وَلَا يعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللهُ وَلَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوْتُ، وَلَا يَعْلَمُ مَتَى تَقُوْمُ السَّاعَةُ إِلَّا اللهُ)) ([15])، وَوَرَدَ أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ))([16])، وعنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ جِبْرِيْلَ أَتَى النَّبِيَّ فَسَأَلَهُ تَعْلِيْمًا لِلْحَاضِرِيْنَ مِنَ الصَّحَابَةِ: “قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ ﷺ: ((مَا الْمَسْؤُوْلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ))([17]) أي لا يعلمُ وقتَها إلا اللهُ، فلا النبيُّ ﷺ الذي هوَ أفضلُ الخلقِ ولا جبريلُ عليهِ السلامُ الذي هوَ أفضلُ الملائكةِ لا أحدَ منهم يعلمُ متى تقومُ الساعةُ أيِ القيامةُ.

تَنْبِيْهٌ وَتَحْذِيْرٌ: لا يجوزُ القولُ إِنَّ النبيَّ يعلمُ كلَّ الغيبِ وأنَّه ما خرجَ مِنَ الدنيا إلا وهوَ يعلمُ كلَّ ما يعلمُه اللهُ والعياذُ باللهِ تعالى مِنْ فسادِ هذا المعتقدِ، فالقائلُ بهِ سَاوَى بينَ الخالقِ والمخلوقِ في صفةِ العلمِ، والآياتُ القرآنيةُ والأحاديثُ الصحيحةُ تَرُدُّ هذا المعتقدَ الشاذَّ عنِ الحقِّ فقدْ ﭧﭐﭨﭐ ﱡﭐﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼ ﱽ  ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄﲅ ﲆ ﲇ ﲈ ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐﲑ([18]) فَالرَّسُولُ بنصِّ هذهِ الآيةِ لا يعلمُ جميعَ تفاصيلِ ما يفعلُه اللهُ بهِ وبأمَّتِه، فكيفَ يتجرأُ متجرئٌ على قولِ إِنَّ الرسولَ ﷺ يعلمُ كلَّ شىءٍ يعلمُهُ اللهُ والعياذُ باللهِ تعالى.

فَاْئِدَةٌ مُهِمَّةٌ: مَا أوهمَ ظاهرُهُ تجددَ العلمِ للهِ تعالى مِنَ الآياتِ القرءانيةِ فإِنَّه يُأَوَّلُ كقولِه تعالى: ﭐﱡﭐﲌ ﲍ  ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓﲩ([19]) فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ: ﴿ لَيْسَ رَاجِعًا لِقَوْلِهِ: ﴿ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى خَفَّفَ عَنْكُمُ الآنَ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِي الأَزَلِ أَنَّهُ يَكُونُ فِيكُمْ ضَعْفٌ([20])، فهذهِ الآيةُ معناها أَنَّهُ نُسِخَ ما كان واجبًا عليهم مِنْ مقاومةِ واحدٍ مِنَ المسلمينَ لأضعافٍ كثيرةٍ مِنَ الكفارِ بإيجابِ مقاومةِ واحدٍ لاثنينِ مِنَ الكفارِ رحمةً بهم للضعفِ الذي فيهِم، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﭐﱡﭐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ([21]) معناهُ ولنبلونَّكم حتَّى نميزَ أي نظهرَ للخلقِ مَن يجاهدُ ويصبرُ مِن غيرِهم، وكانَ اللهُ عالِمًا قبلُ كمَا نقلَ البخاريُّ ذلكَ عن أبي عبيدةَ معمرِ بنِ المثنى([22])، وهذا شبيهٌ بقولِه تعالى:  ﭐﱡﭐﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃﲒ([23]) أي أَنَّ اللهَ تعالى يبتلي عبادَه بما شاءَ مِنَ البلايا حتى يُظهرَ ويميزَ لعبادِه مَنْ هوَ الصادقُ المجاهدُ في سبيلِ اللهِ الذي يصبرُ على المشقَّاتِ معَ إخلاصِ النيةِ للهِ تعالى ومَن هوَ غيرُ الصادقِ الذي لا يصبرُ.

         ويروى في سببِ إسلامِ الصحابيِّ الجليلِ عميرِ بنِ وهبٍ الجمحيِّ([24])  أنَّ رسولَ اللهِ أخبرَه فيما أوحى اللهُ إليهِ مما جرى بينَ عميرٍ وبينَ صفوانَ بنِ أميةَ([25]) وكانا عندَ الحِجرِ ولم يكنْ يعلمُ بما جرى بينهما إنسانٌ، لكنِ اللهُ تعالى يعلمُ كلَّ شىءٍ أوحى لنبيِّه بما حصلَ بينهما فأسلمَ عندمَا أخبرَه رسولُ اللهِ بما كانَ ([26]).

ومما يدلُّ على أَنَّ علمَ اللهِ لا يساويهِ علمُ أحدٍ ما قالَ اللهُ تعالى:  ﱡﭐ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ([27]) معناهُ مهما وُجِد مِنْ عالمٍ ففوقَه عالمٌ وهوَ الله معناها اللهُ أعلمُ مِنْ كلِّ عالمٍ، والمعنى المرادُ هوَ الثناءُ على اللهِ تعالى في صفةِ العلمِ.

       وهذا يرشدُنا إلى أَنَّ أحقَّ مَنْ نستحيي منهُ هوَ اللهُ تباركَ وتعالى الذي لا تخفَى عليهِ خافيةٌ يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصدورِ، وإِنَّ الحياءَ مِنَ اللهِ يكونُ بالإيمانِ بهِ وأداءِ ما افترضَ وتركِ ما حرَّمَ، وغايةُ الحياءِ كمَا في حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ  أنَّ النَّبيَّ ﷺ قالَ: ((اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)) فقلنا: يا نبيَّ اللهِ إِنَّا لنَسْتَحْيِي، قالَ: ((لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى وَالْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ)) ([28]).



سورة النساء / 26. ([1])

 سورة الأنعام / 59. ([2])

([3]) الدبيب هو السير اللين اهـ لسان العرب لابن منظور ج9 ص105.

([4]) يقال: صخرة صماء إذا لـم يكن فـيها خرق ولا منفذ.اهـ عمدة القاري للعيني ج4 ص75.

 ([5])الذر: النَّمل الأحمر الصغير، واحدتها ذرَّةٌ. اهـ النهاية لابن الأثير ج2 ص157، وقيل الذرّ أجزاء الهباء في الكوَّة وكل جزء منها ذرة ولا يكون لها وزن.اهـ تفسير البغوي ج1 ص622.  

([6]) السر: هو ما أسررته لغيرك، وأخفى: هو ما أخطرته ببالك وأسررته في نفسك.اهـ تفسير النسفي ج3 ص47.

([7]) الهاجس الخاطر.اهـ تاج العروس ج17 ص26.

([8]) ما يخطر في القلب من تدبير أو أمر.اهـ تاج العروس ج11 ص194.

([9]) ما أكنته القلوب من العقائد والنيات.اهـ البحر المحيط لأبي حيان ج8 ص453.

([10]) هو عبد الرحيم بن أحمد البرعي صاحب القصيدة الشهيرة في مدح الرسول ومطلعها: (الكامل)

 “يا راحلين إلى منى بقياد …………. هيجتمُ يوم الرحيل فؤادي”

توفي سنة 803 هـ.اهـ تاج العروس للزبيدي ج20ص 318، الأعلام للزركلي ج3 ص343

سورة غافر / 19. ([11])

 سورة البقرة / 255.([12])

 سورة الجن / 26. ([13])

 كما في البحر المحيط للزركشي ج4 ص147.([14])

([15])  صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن باب قوله:ﱡﭐﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲﱺ سورة الرعد/8.

مسند أحمد ج 6 ص 508. ([16])

([17]) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة وبيان النبي .

سورة الأحقاف / 9. ([18])

سورة الأنفال / 66. ([19])

([20])  قال ابن عاشور في معنى هذه الآية: أي: خفف الله عنكم وقد علم من قبل أن فيكم ضعفا. اهـ التحرير والتنوير ج 10 ص 69.

سورة محمد / 31. ([21])

 ([22]) هو معمر بن المثنى أبو عبيدة التيمي البصري النحوي، وقال أبو العَبَّاس المُبَرِّد: كان أبو عُبيدة عالمًا بـالشِّعر والغَرِيب والأخبـار والنّسَب. وكان الأصْمَعيُّ يشركه فـي الغَريب والشِّعر والمعاني. وقال الـمُظَفَّر بنُ يحيى: مات سنة تسع ومائتـين وهو ابنُ ثلاث وتسعين سنة.اهـ تهذيب الكمال للمزي ج18 ص275.

سورة الأنفال / 37. ([23])

([24]) عمير بن وهب الجمحي شهد بدرا كافرا ثم أسلم بعد بدر بالمدينة، قدمها ليقتل النبي فهداه الله فأسلم، ثم رجع إلى مكة مسلما.اهـ انظر معرفة الصحابة لأبي نعيم باب العين باب من اسمه عمير.

 ([25])صفوان بن أمية بن خلف قتل أبوه يوم بدر كافرا، وحكى الزبير أنه كان إليه أمر الأزلام في الجاهلية، هرب يوم فتح مكة وأسلمت امرأته، فأحضر له ابن عمه عمير بن وهب أمانا من النبي فحضر، وحضر وقعة حنين قبل أن يسلم ثم أسلم، وكان استعار النبي منه سلاحه لما خرج إلى حنين، قال الزبير: أعطاه من الغنائم فأكثر، فقال: أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي فأسلم، فأقام بمكة حتى مات بها.اهـ الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ج 3 ص 349  

دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني باب ما حدث من المعجزات في غزوة بدر. ([26])

سورة يوسف / 76. ([27])

 سنن الترمذي ج 7 ص 172.([28]