الْخَاتِمَةُ فِى التَّحْذِيرِ مِنْ بَعْضِ مَا أُلِّفَ فِى الْمَوْلِدِ
اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلُهُ ثَابِتٌ فِى الْقُرْءَانِ وَالأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ وَلا يُحْتَاجُ فِى إِثْبَاتِ فَضْلِهِ إِلَى ذِكْرِ مَا فِيهِ كَذِبٌ وَغُلُوٌّ فَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تُطْرُونِى [أَىْ لا تُبَالِغُوا فِى مَدْحِى] كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
ثُمَّ إِنَّ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِالأَمْرِ الْهَيِّنِ بَلْ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ حَدَّثَ عَنِّى بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» وَرَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ الرَّسُولِ بِمَا لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ وَبِمَا فِيهِ كَذِبٌ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْغُلُوِّ الْمَذْمُومِ وَلا يُحْتَجُّ لِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ يُتَسَاهَلُ فِيهَا بِرِوَايَةِ الضَّعِيفِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَمَّا الْمَكْذُوبُ فَلا يُقْبَلُ فِى الْفَضَائِلِ بِالإِجْمَاعِ.
وَمِنْ أَشْهَرِ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَدْسُوسَةِ الْكِتَابُ الْمُسَمَّى مَوْلِدَ الْعَرُوسِ وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ نُورِ وَجْهِهِ فَقَالَ لَهَا كُونِى مُحَمَّدًا فَكَانَتْ مُحَمَّدًا وَفِى هَذِهِ الْعِبَارَةِ نِسْبَةُ الْجُزْئِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجُزْئِيَّةِ وَالِانْحِلالِ فَهُوَ لا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَالْكَثْرَةَ وَلا التَّجَزُّءَ وَالِانْقِسَامَ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ مِنْ خَلْقِهِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11]. وَحُكْمُ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ مُحَمَّدًا أَوْ غَيْرَهُ جُزْءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّكْفِيرُ قَطْعًا قَالَ تَعَالَى ﴿وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ [سُورَةَ الزُّخْرُف/15]. وَهَذَا الْكِتَابُ لَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ ابْنِ الْجَوْزِىِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ زُورًا وَبُهْتَانًا وَمَا فِى كُتُبِ ابْنِ الْجَوْزِىِّ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقِينَ وَنَفْىِ التَّجْسِيمِ وَالْجُزْئِيَّةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُخَالِفٌ لِمَا فِى هَذَا الْكِتَابِ الْمُفْتَرَى بَلْ إِنَّ رَكَاكَةَ أَلْفَاظِهِ وَضَعْفَ تَرْكِيبِ عِبَارَاتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَأْلِيفِ ابْنِ الْجَوْزِىِّ الْمُحَدِّثِ الْفَقِيهِ الْمُفَسِّرِ الَّذِى أُعْطِىَ بَاعًا قَوِيًّا فِى الْوَعْظِ وَالإِرْشَادِ فَكَانَ إِذَا تَكَلَّمَ حَرَّكَ الْقُلُوبَ حَتَّى إِنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُ وَذَلِكَ بِسَبَبِ قُوَّةِ وَعْظِهِ وَحُسْنِ تَعْبِيرِهِ وَفَصَاحَةِ مَنْطِقِهِ فَإِنَّهُ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَإِتْقَانِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَلَمْ يَنْسُبْ إِلَيْهِ هَذَا الْكِتَابَ إِلَّا الْمُسْتَشْرِقُ بروكلمان.
أَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ﴾ [سُورَةَ الأَنْبِيَاء/30] وَقَالَ تَعَالَى ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ﴾ [سُورَةَ الْكَهْف/110].
وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُ لِلأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ وَالْبَيْهَقِىُّ عَنْ عِمْرَانَ بنِ الْحُصَيْنِ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَىْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ».
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِى وَقَرَّتْ عَيْنِى فَأَنْبِئْنِى عَنْ كُلِّ شَىْءٍ قَالَ «كُلُّ شَىْءٍ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ» وَرَوَى السُّدِّىُّ فِى تَفْسِيرِهِ بِأَسَانِيدَ مُتَعَدِّدَةٍ «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا مِمَّا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ».
فَفِى الْحَدِيثِ الأَوَّلِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ وَالْعَرْشَ هُمَا أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَمَّا أَنَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْعَرْشِ فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحَدِيثَيْنِ التَّالِيَيْنِ.
وَأَمَّا عَزْوُ حَدِيثِ جَابِرٍ لِلْبَيْهَقِىِّ فَغَيْرُ صَحِيحٍ وَأَمَّا نِسْبَتُهُ لِمُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَلا وُجُودَ لَهُ فِى مُصَنَّفِهِ وَلا فِى جَامِعِهِ وَلا تَفْسِيرِهِ بَلِ الْمَوْجُودُ فِى تَفْسِيرِهِ عَكْسُ هَذَا فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ أَوَّلَ الْمَخْلُوقَاتِ وُجُودًا الْمَاءُ وَقَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ فِى الْحَاوِى عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ لَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ اهـ. وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ جَزْمًا وَقَدْ صَرَّحَ الْحَافِظُ السُّيُوطِىُّ فِى شَرْحِ التِّرْمِذِىِّ أَنَّ حَدِيثَ أَوَّلِيَّةِ النُّورِ الْمُحَمَّدِىِّ لا يَثْبُتُ. وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ رَكَاكَةُ أَلْفَاظِهِ فَإِنَّ الرَّسُولَ أَفْصَحُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَقْوَاهُمْ بَلاغَةً فَلا يَتَكَلَّمُ بِالرَّكِيكِ وَقَدْ حَكَمَ الْحَافِظُ الْمُحَدِّثُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بنُ الصِّدِّيقِ الْغُمَارِىُّ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَكِيكٌ وَمَعَانِيهِ مُنْكَرَةٌ، أَقُولُ الأَمْرُ كَمَا قَالَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلَّا هَذِهِ الْعِبَارَةُ «خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ نُورِهِ قَبْلَ الأَشْيَاءِ» لَكَفَى ذَلِكَ رَكَاكَةً لِأَنَّهُ مُشْكِلٌ غَايَةَ الإِشْكَالِ لِأَنَّهُ إِنْ حُمِلَ ضَمِيرُ مِنْ نُورِهِ عَلَى مَعْنَى مَخْلُوقٍ لِلَّهِ كَانَ ذَلِكَ نَقِيضُ الْمُدَّعَى لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ذَلِكَ النُّورُ هُوَ الأَوَّلُ لَيْسَ نُورَ مُحَمَّدٍ بَلْ نُورُ مُحَمَّدٍ ثَانِى الْمَخْلُوقَاتِ وَإِنْ حُمِلَ عَلَى إِضَافَةِ الْجُزْءِ لِلْكُلِّ كَانَ الأَمْرُ أَفْظَعَ وَأَقْبَحَ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِثْبَاتُ نُورٍ هُوَ جُزْءٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُؤَدِّى ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ مُرَكَّبٌ وَالْقَوْلُ بِالتَّرْكِيبِ فِى ذَاتِ اللَّهِ مِنْ أَبْشَعِ الْكُفْرِ لِأَنَّ فِيهِ نِسْبَةُ الْحُدُوثِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَبَعْدَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَكْذُوبِ رَكَاكَاتٌ بَشِعَةٌ يَرُدُّهَا الذَّوْقُ السَّلِيمُ وَلا يَقْبَلُهَا.
ثُمَّ هُنَاكَ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِىَ الِاضْطِرَابُ فِى أَلْفَاظِهِ لِأَنَّ بَعْضَ الَّذِينَ أَوْرَدُوهُ فِى مُؤَلَّفَاتِهِمْ رَوَوْهُ بِشَكْلٍ وَءَاخَرُونَ رَوَوْهُ بِشَكْلٍ ءَاخَرَ مُخْتَلِفٍ فِى الْمَعْنَى فَإِذَا نُظِرَ إِلَى لَفْظِ الزَّرْقَانِىِّ ثُمَّ لَفْظِ الصَّاوِىِّ لَظَهَرَ اخْتِلافٌ كَبِيرٌ.
أَمَّا حَدِيثُ «كُنْتُ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ فِى الْخَلْقِ وَءَاخِرَهُمْ فِى الْبَعْثِ» فَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا نَقَلَ ذَلِكَ الْمُحَدِّثُونَ وَفِيهِ بَقِيَّةُ ابْنُ الْوَلِيدِ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَسَعِيدُ بنُ بَشِيرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
أَمَّا حَدِيثُ «كُنْتُ نَبِيًّا وَءَادَمُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ» وَ«كُنْتُ نَبِيًّا وَلا ءَادَمَ وَلا مَاءَ وَلا طِينَ» فَلا أَصْلَ لَهُمَا. وَلا حَاجَةَ لِتَأْوِيلِهِمْ فَإِنَّهُ لا حَاجَةَ لِتَأْوِيلِ الآيَةِ أَوِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِخَبَرٍ مَوْضُوعٍ لا أَصْلَ لَهُ.
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَوَّلًا وَءَاخِرًا الَّذِى وَفَّقَنَا إِلَى جَمْعِ هَذَا الْكِتَابِ فِى مَوْلِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِىِّ الْعَظِيمِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى أَفْضَلِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ مُحَمَّدٍ النَّبِىِّ الْكَرِيمِ.