الأحد ديسمبر 22, 2024

 الْبِدْعَةُ فِى الدِّينِ تَعْرِيفُهَا حُكْمُهَا وَأَقْسَامُهَا

     قَالَ الإِمَامُ الْهَرَرِىُّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحْبِهِ الطَّاهِرِينَ.

     اعْلَمْ أَنَّ الْبِدْعَةَ لُغَةً مَا أُحْدِثَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، يُقَالُ جِئْتُ بِأَمْرٍ بَدِيعٍ أَىْ مُحْدَثٍ عَجِيبٍ لَمْ يُعْرَفْ قَبْلَ ذَلِكَ. وَفِى الشَّرْعِ الْمُحْدَثُ الَّذِى لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ وَلا جَاءَ فِى السُّنَّةِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِى لَيْسَتِ الْبِدْعَةُ وَالْمُحْدَثُ مَذْمُومَيْنَ لِلَفْظِ بِدْعَةٍ وَمُحْدَثٍ وَلا مَعْنَاهُمَا وَإِنَّمَا يُذَمُّ مِنَ الْبِدْعَةِ مَا يُخَالِفُ السُّنَّةَ وَيُذَمُّ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ مَا دَعَا إِلَى الضَّلالَةِ اهـ.

     وَالْبِدْعَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ

     بِدْعَةِ ضَلالَةٍ وَهِىَ الْمُحْدَثَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ.

     وَبِدْعَةِ هُدًى وَهِىَ الْمُحْدَثَةُ الْمُوَافِقَةُ لِلْقُرْءَانِ وَالسُّنَّةِ.

     وَهَذَا التَّقْسِيمُ مَفْهُومٌ مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِىِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظٍ ءَاخَرَ وَهُوَ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» فَأَفْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقَوْلِهِ «مَا لَيْسَ مِنْهُ» أَنَّ الْمُحْدَثَ إِنَّمَا يَكُونُ رَدًّا أَىْ مَرْدُودًا إِذَا كَانَ عَلَى خِلافِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّ الْمُحْدَثَ الْمُوَافِقَ لِلشَّرِيعَةِ لَيْسَ مَرْدُودًا.

     وَهُوَ مَفْهُومٌ أَيْضًا مِمَّا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِى صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَىْءٌ».

     وَأَخْرَجَ الْبُخَارِىُّ فِى صَحِيحِهِ عَنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزَّرْقِىِّ قَالَ كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّى وَرَاءَ النَّبِىِّ ﷺ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ «مَنِ الْمُتَكَلِّمُ» قَالَ أَنَا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ «رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلَ».

     قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِى الْفَتْحِ فِى شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ إِحْدَاثِ ذِكْرٍ فِى الصَّلاةِ غَيْرِ مَأْثُورٍ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُخَالِفٍ لِلْمَأْثُورِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِى التَّشَهُّدِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَيَقُولُ أَنَا زِدْتُهَا.

     وَقَالَ النَّوَوِىُّ فِى كِتَابِ تَهْذِيبِ الأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ مَا نَصُّهُ الْبِدْعَةُ بِكَسْرِ الْبَاءِ فِى الشَّرْعِ هِىَ إِحْدَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ فِى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهِىَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ اهـ.

     قَالَ الإِمَامُ الشَّيْخُ الْمُجْمَعُ عَلَى إِمَامَتِهِ وَجَلالَتِهِ وَتَمَكُّنِهِ فِى أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَبَرَاعَتِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ بنُ عَبْدِ السَّلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِىَ عَنْهُ فِى ءَاخِرِ كِتَابِ الْقَوَاعِدِ الْبِدْعَةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى وَاجِبَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ وَمَنْدُوبَةٍ وَمَكْرُوهَةٍ وَمُبَاحَةٍ قَالَ وَالطَّرِيقُ فِى ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فَإِنْ دَخَلَتْ فِى قَوَاعِدِ الإِيجَابِ فَهِىَ وَاجِبَةٌ أَوْ فِى قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَمُحَرَّمَةٌ أَوِ النَّدْبِ فَمَنْدُوبَةٌ أَوِ الْمَكْرُوهِ فَمَكْرُوهَةٌ أَوِ الْمُبَاحِ فَمُبَاحَةٌ انْتَهَى كَلامُ النَّوَوِىِّ.

     وَقَالَ ابْنُ عَابِدِينَ فِى رَدِّ الْمُحْتَارِ مَا نَصُّهُ فَقَدْ تَكُونُ الْبِدْعَةُ وَاجِبَةً كَنَصْبِ الأَدِلَّةِ لِلرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَتَعَلُّمِ النَّحْوِ الْمُفْهِمِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنْدُوبَةً كَإِحْدَاثِ نَحْوِ رِبَاطٍ وَمَدْرَسَةٍ وَكُلِّ إِحْسَانٍ لَمْ يَكُنْ فِى الصَّدْرِ الأَوَّلِ وَمَكْرُوهَةً كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَمُبَاحَةً كَالتَّوَسُّعِ بِلَذِيذِ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالثِّيَابِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِىُّ بِإِسْنَادِهِ فِى مَنَاقِبِ الشَّافِعِىِّ عَنِ الشَّافِعِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الْمُحْدَثَاتُ فِى الأُمُورِ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا أَوْ سُنَّةً أَوْ أَثَرًا أَوْ إِجْمَاعًا فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الضَّلالَةُ وَالثَّانِيَةُ مَا أُحْدِثَ مِنَ الْخَيْرِ لا خِلافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ.

     قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِى كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ﴿وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾ [سُورَةَ الْحَدِيد]. فَهَذِهِ الآيَةُ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ لِأَنَّ مَعْنَاهَا مَدْحُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أُمَّةِ عِيسَى الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِالإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رَأْفَةٍ وَرَحْمَةٍ وَلِأَنَّهُمُ ابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً، وَالرَّهْبَانِيَّةُ هِىَ الِانْقِطَاعُ عَنِ الشَّهَوَاتِ حَتَّى إِنَّهُمُ انْقَطَعُوا عَنِ الزِّوَاجِ رَغْبَةً فِى تَجَرُّدِهِمْ لِلْعِبَادَةِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾ أَىْ نَحْنُ مَا فَرَضْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِنَّمَا هُمْ أَرَادُوا التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ عَلَى مَا ابْتَدَعُوا مِمَّا لَمْ يُنَصَّ لَهُمْ عَلَيْهِ فِى الإِنْجِيلِ وَلا قَالَ لَهُمُ الْمَسِيحُ بِنَصٍّ مِنْهُ، إِنَّمَا هُمْ أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّجَرُّدَ بِتَرْكِ الِانْشِغَالِ بِالزِّوَاجِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالأَهْلِ فَكَانُوا يَبْنُونَ الصَّوَامِعَ أَىْ بُيُوتًا خَفِيفَةً مِنْ طِينٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْمَوَاضِعِ الْمُنْعَزِلَةِ عَنِ الْبَلَدِ لِيَتَجَرَّدُوا لِلْعِبَادَةِ.

     وَمِنَ الْبِدَعِ الْمُسْتَحَبَّةِ إِحْدَاثُ خُبَيْبِ بنِ عَدِىّ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَمَا قُدِّمَ لِلْقَتْلِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ فَفِيهِ مَا نَصُّهُ وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَكَثَ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى إِذَا أَجْمَعُوا قَتْلَهُ اسْتَعَارَ مُوسَى مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ لِيَسْتَحِدَّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، قَالَتْ فَغَفِلْتُ عَنْ صَبِىٍّ لِى فَدَرَجَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَاهُ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ فَلَمَّا رَأَيْتُهُ فَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَ ذَلِكَ مِنِّى وَفِى يَدِهِ الْمُوسَى فَقَالَ أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ، مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَتْ تَقُولُ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ مِنْ قِطَفِ عِنَبٍ وَمَا بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ ثَمَرَةٌ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ فِى الْحَدِيدِ، وَمَا كَانَ إِلَّا رِزْقًا رَزَقَهُ اللَّهُ، فَخَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ دَعُونِى أُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ لَوْلا أَنْ تَرَوْا أَنَّ مَا بِى جَزَعٌ مِنَ الْمَوْتِ لَزِدْتُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْقَتْلِ هُوَ ثُمَّ قَالَ

فَلَسْتُ أُبَالِى حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا      عَلَى أَىِّ شِقٍّ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِى

وَذَلِكَ فِى ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ        يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ

     ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ عُقْبَةُ بنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ إِلَى عَاصِمٍ لِيُؤْتَوْا بِشَىْءٍ مِنْ جَسَدِهِ يَعْرِفُونَهُ، وَكَانَ عَاصِمٌ قَتَلَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِثْلَ الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَىْءٍ.

     وَمِنَ الْبِدَعِ الْمُسْتَحَبَّةِ نَقْطُ الْمَصَاحِفِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ كَتَبُوا الْوَحْىَ الَّذِى أَمْلاهُ عَلَيْهِمُ الرَّسُولُ يَكْتُبُونَ الْبَاءَ وَالتَّاءَ وَنَحْوَهُمَا بِلا نَقْطٍ ثُمَّ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ لَمَّا كَتَبَ سِتَّةَ مَصَاحِفَ وَأَرْسَلَ بِبَعْضِهَا إِلَى الآفَاقِ إِلَى الْبَصْرَةِ وَمَكَّةَ وَغَيْرِهِمَا وَاسْتَبْقَى عِنْدَهُ نُسْخَةً كَانَ غَيْرَ مَنْقُوطٍ.

     وَإِنَّمَا أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ رَجُلٌ مِنَ التَّابِعِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالتَّقْوَى يُقَالُ لَهُ يَحْيَى بنُ يَعْمَرَ. فَفِى كِتَابِ الْمَصَاحِفِ لِابْنِ أَبِى دَاوُدَ السَّجَسْتَانِىِّ مَا نَصُّهُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِىُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ نَصْرِ بنِ مَالِكٍ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بنُ الْوَلِيدِ عَنْ هَارُونَ بنِ مُوسَى قَالَ أَوَّلُ مَنْ نَقَطَ الْمَصَاحِفَ يَحْيَى بُن يَعْمَر، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُكْتَبُ بِلا نَقْطٍ. فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا لَمْ يُنْكِرِ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ مَا أَمَرَ بِنَقْطِ الْمُصْحَفِ.

     وَهَذِهِ بِدْعَةٌ أَحْدَثَهَا عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِى صَحِيحِ الْبُخَارِىِّ مَا نَصُّهُ حَدَّثَنَا ءَادَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ ﷺ وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ اهـ.

     وَمِنَ الْبِدَعِ الْمُسْتَحَبَّةِ الْجَهْرُ بِالصَّلاةِ عَلَى النَّبِىِّ ﷺ بَعْدَ الأَذَانِ وَحَدَثَ هَذَا بَعْدَ سَنَةِ سَبْعِمِائَةٍ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ لا يَجْهَرُونَ بِهَا.

     وَمِنْهَا كِتَابَةُ ﷺ عِنْدَ كِتَابَةِ اسْمِهِ، وَلَمْ يَكْتُبِ النَّبِىُّ ذَلِكَ فِى رَسَائِلِهِ الَّتِى أَرْسَلَ بِهَا إِلَى الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ يَكْتُبُ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى فُلانٍ.

     وَمِنَ الْبِدَعِ الْمُسْتَحَبَّةِ الطُّرُقُ الَّتِى أَحْدَثَهَا بَعْضُ أَهْلِ اللَّهِ كَالرِّفَاعِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ وَهِىَ نَحْوُ أَرْبَعِينَ، فَهَذِهِ الطُّرُقُ أَصْلُهَا بِدَعٌ حَسَنَةٌ وَلَكِنْ شَذَّ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَيْهَا وَهَذَا لا يَقْدَحُ فِى أَصْلِهَا.

     وَمِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الِاحْتِفَالُ بِمَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهَذَا الْعَمَلُ لَمْ يَكُنْ فِى عَهْدِ النَّبِىِّ ﷺ وَلا فِيمَا يَلِيهِ إِنَّمَا أُحْدِثَ فِى أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ الْهِجْرِىِّ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ مَلِكُ إِرْبِلَ وَكَانَ عَالِمًا تَقِيًّا شُجَاعًا يُقَالُ لَهُ الْمُظَفَّرُ، جَمَعَ لِهَذَا كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ الصَّادِقِينَ فَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْعُلَمَاءُ فِى مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا.

     وَلِلْحَافِظِ السُّيُوطِىِّ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا حُسْنَ الْمَقْصِدِ فِى عَمَلِ الْمَوْلِدِ قَالَ إِنَّ أَصْلَ عَمَلِ الْمَوْلِدِ الَّذِى هُوَ اجْتِمَاعُ النَّاسِ وَقِرَاءَةُ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ وَرِوَايَةُ الأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِى مَبْدَإِ أَمْرِ النَّبِىِّ ﷺ وَمَا وَقَعَ فِى مَوْلِدِهِ مِنَ الآيَاتِ ثُمَّ يُمَدُّ لَهُمْ سِمَاطٌ يَأْكُلُونَهُ وَيَنْصَرِفُونَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ هُوَ مِنَ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ الَّتِى يُثَابُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ قَدْرِ النَّبِىِّ ﷺ وَإِظْهَارِ الْفَرَحِ وَالِاسْتِبْشَارِ بِمَوْلِدِهِ الشَّرِيفِ. وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ فِعْلَ ذَلِكَ صَاحِبُ إِرْبِلَ الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ.

     وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِى تَارِيخِهِ كَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ يَعْنِى الْمَلِكَ الْمُظَفَّرَ فِى رَبِيعٍ الأَوَّلِ وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا، وَكَانَ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَمَ مَثْوَاهُ. قَالَ وَقَدْ صَنَّفَ لَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْخَطَّابِ بنُ دِحْيَةَ مُجَلَّدًا فِى الْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ سَمَّاهُ التَّنْوِيرَ فِى مَوْلِدِ الْبَشِيرِ النَّذِيرِ فَأَجَازَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَدْ طَالَتْ مُدَّتُهُ فِى الْمُلْكِ إِلَى أَنْ مَاتَ وَهُوَ مُحَاصِرٌ لِلْفَرَنْجِ بِمَدِينَةِ عَكَّا سَنَةَ ثَلاثِينَ وَسِتِّمِائَةٍ مَحْمُودَ السِّيرَةِ وَالسَّرِيرَةِ.

     وَيَذْكُرُ سِبْطُ ابْنِ الْجَوْزِىِّ فِى مِرْءَاةِ الزَّمَانِ أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ عِنْدَهُ فِى الْمَوْلِدِ أَعْيَانُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ.

     وَقَالَ السُّيُوطِىُّ وَقَدِ اسْتَخْرَجَ لَهُ أَىِ الْمَوْلِدِ إِمَامُ الْحُفَّاظِ أَبُو الْفَضْلِ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ أَصْلًا مِنَ السُّنَّةِ وَاسْتَخْرَجْتُ لَهُ أَصْلًا ثَانِيًا.

     فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاحْتِفَالَ بِالْمَوْلِدِ النَّبَوِىِّ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَلا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ بَلْ هُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى سُنَّةً حَسَنَةً لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا شَمِلَهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «مَنْ سَنَّ فِى الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَىْءٌ».

     وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الأَمِينِ وَءَالِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ.