الهِجْرَةُ بِدَايَةُ عَهْدٍ مَجِيدٍ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا. أحبابنا الكرام إِنَّ المَاضِي صَفَحَاتٌ وَالتَّارِيخُ عِبَرٌ وَعِظَاتٌ وَفِي صَفَحَاتِ المَاضِي وَعِبَرِ التَّارِيخِ المَجِيدِ السِّرَاجُ الَّذِي يَكْشِفُ لِلْمُسْتَبْصِرِ الرُّؤْيَةَ وَيَهْدِيهِ سوَاءَ السَّبِيلِ. وَهِجْرَةُ الرَّسُولِ المُبَارَكَةُ هِيَ وَاحِدَةٌ مِنْ تِلْكَ العِبَرِ والعِظَاتِ. وَالأُمَّةُ الإِسْلاَمِيَةُ تَمُرُّ اليَوْمَ بِمَرْحَلَةٍ مِنْ أدَقِّ مَرَاحِلِ تَارِيخِهَا وَهِيَ لِذَلِكَ أحْوَجُ مَا تكُونُ لِلاِسْتِفَادَةِ مِنْ دُرُوسِ الهِجْرَةِ المُبَارَكَةِ وَعِبَرِهَا.
لَقَدْ كَانَتِ الهِجْرَةُ إِيذانًا بِأَنَّ صَوْلَةَ البَاطِلِ مَهْمَا عظُمَتْ وَقُوَّتَهُ مَهْمَا بلغَتْ فَمَصِيرُهَا إِلَى الزَّوَالِ وَنِهَايَتُهَا إِلَى الفَشَلِ وَالبَوَارِ وإِيذَانًا بِأَنَّ الحَقَّ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ يَوْمٍ يُحَطِّمُ فِيهِ الأَغْلاَلَ وَتَعْلُو فِيهِ رَايَتُهُ وَتَرْتَفِعُ كَلِمَتُهُ، وَكَيْفَ لاَ وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ وَعَدَ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ المُبِينِ وَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ فَرَجًا وَمِنَ العُسْرِ يُسْرًا وَمِنَ الضِّيقِ سِعَةً قَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ. وَلئِنْ كَانَتِ الهِجْرَةُ المُبَارَكَةُ حرَكَةً نَوْعِيَةً فِي تَارِيخِ المِنْطَقَةِ وَنُقْطَةَ تَحَوُّلٍ فِي حَيَاةِ الدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَةِ إِلاَّ أَنَّهُ سَبَقَ تِلْكَ الهِجْرَةَ الجَسَدِيَّةِ هِجْرَةٌ رُوحِيَّةٌ عَظِيمَةٌ تَمَثَّلَتْ بِقَبُولِ المُهْتَدِينَ لِلدَّعْوَةِ المُحَمَّدِيَّةِ وَدُخُولِهِمْ فِي دِينِ اللهِ وَثُبُوتِهِمْ فِيهِ عَلَى الرَّغْمِ مِنَ الاِضْطِهَادِ وَالتَّنْكِيلِ وَكَافَّةِ المُحَاوَلاَتِ لِصَرْفِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ الحَقِّ. بَعْدَ هَذِهِ الهِجْرَةِ مِنَ الضَّلاَلِ إِلَى الإِيمَانِ وَمِنْ ظَلاَمِ الجاهِلِيَّةِ إِلَى نُورِ الإِسْلاَمِ وَبَعْدَ هِجْرَةِ الأَرْوَاحِ الَّتِي تَسَامَتْ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالدُّنْيَا وَهَجَرَتْ كُلَّ مَا أَلِفَتْ مِنْ عَادَاتٍ بَغِيضَةٍ وَتَقَالِيدٍ بَالِيَةٍ جَاءَتْ هِجْرَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى الحَبَشَةِ ثُمَّ إِلَى المَدِينَةِ لِتُشكِّلَ قِمَّةَ العَطَاءِ وَالاِسْتِعْدَادِ لِلتَّضْحِيَةِ بِكُلِّ شَىْءٍ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ وَأَرْضٍ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَجَاءَتْ هِجْرَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرٍ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِتُعْلِنَ نِهَايَةَ عَهْدِ الاِضْطِهَادِ وَالاِسْتِبْدَادِ وَبِدَايَةَ فَجْرٍ مُشْرِقٍ وَعَهْدٍ مَجِيدٍ. وَمِنْ هُنَاكَ مِنْ يَثْرِبَ انْبَثَقَ نُورُ الدَّعْوَةِ قَوِيّاً وَضَاءَ فَبَدَّدَ الظُّلْمَ وَجَازَ مَا اعْتَرَضَهُ مِنْ عَقَبَاتٍ. وَانْطَلَقَتْ كَلِمَةُ الحَقِّ تَحْمِلُهَا القَوَافِلُ وَالرُّكْبَانُ وَتُبَشِّرُ بِهَا أَصْوَاتُ الدُّعَاةِ إِلَى الصَّلاَةِ فِي كُلِّ أَذَانٍ حَتَّى أَتَمَّ اللهُ عَلَى المُسْلِمِينَ النِّعْمَةَ وَجَابَ عَنْهُمْ كُلَّ مِحْنَةٍ وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً وَأَذَّنَ مُؤَذِّنُ الحَقِّ فِي إِبَاءٍ وَعِزَّةٍ : اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين والحمد لله رب العالمين.