إنّ الحمدَ للهِ نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستهديهِ ونشكرُهُ ونستغْفِرُهُ ونتوبُ إليهِ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ومِنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ لَهُ .
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا ضِدَّ ولا نِدَّ لهُ ولا شكلَ ولا صورةَ ولا أعضاءَ ولا حَجم ولا حيِّز ولا مكانَ لهُ ولا جسمَ له ، ولا جثّة ولا جوارح له، هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
وأشهدُ أنّ سيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدنا وقرة أعيننا محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ وصفِيُّهُ وحبيبُهُ ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا من أنبيائه . الصلاة والسلام عليك يا محمد يا أبا القاسم يا أبا الزهراء يا علم الهدى ضاقت حيلتنا وأنت وسيلتنا أدركنا يا رسول الله أدركنا بإذن الله.
أمّا بعدُ عبادَ اللهِ ، فإنِّي أوصيكُمْ ونَفْسِي بتقوَى اللهِ العليِّ القديرِ القائل في محكم كتابه : { اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (سورة غافر/64) .
تبارك الله رب العالمين الذي رفع السماء بلا عمد، تبارك الله رب العالمين الذي جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا، تبارك الله رب العالمين الذي أرسل محمدا وحمى محمدا وأيد محمدا ونصر محمدا. يقول الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر/51) .
وقال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (سورة التوبة/40) .
تبارك الله رب العالمين الذي جعل الصبر والثبات والقوة والشجاعة والعزيمة والعفة والزهد والأمانة والصدق والفطانة في هذا الرجل العظيم محمد، رمَوْا على ظهره سلا جزور (أي كيس ولد الناقة) ، صبر ولم يتخَلَّ عن الدعوة إلى الله ، ضُرب بالحجارة وصبر ولم يتخلَّ عن الدعوة إلى الله ، عُرض عليه المال والجاه ولم يتخلَّ عن دين الله ، فلقد قالوا لعمِّه أبي طالب: “ماذا يريد ابن أخيك؟ إن كان يريد جاهًا أعطيناه، فلن نُمْضِيَ أمرًا إلا بعد مشورته، إن كان يريد مالاً جمعنا له حتى يصير أغنانا، وإن كان يريد الملك توّجناه علينا” فأجابهم بالجواب المشهور: “والله يا عَمُّ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه “ .
ثبت ثباتا يتضاءل أمامه ثبات الجبال الراسيات. وهاجر صلى الله عليه وسلم من مكة أم القرى بأمر من الله، هاجر امتثالاً لأمر الله تعالى ، فالهجرة ليست هربا من المشركين ولا يأسًا من وقع الحال ولا تخاذلاً عن إحقاق حقٍّ أو إبطال باطل ولا حبا في الشهرة والجاه والسلطان. هاجر امتثالاً لأمر الله تعالى ، فهو صلى الله عليه وسلم شديد التوكل على الله .
فبعد أن أجمع المشركون على قتله وجمعوا له من كل قبيلة رجلاً جَلْدًا ليضربوه ضربة رجل واحد حتى يتفرق دمه بين القبائل أتى الأمين جبريل عليه السلام وأخبره بكيد المشركين وأمره بأن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ففعل .
ثم خرج صلى الله عليه وسلم وهم على بابه ومعه حفنة تراب ، جمعوا له من كل قبيلة رجلا ليضربوه ضربة رجل واحد ، وهو من شدة توكله على الحي الذي لا يموت يخرج إليهم بحفنة تراب جعل يذرها على رؤوسهم وهو يقرأ قول الله تعالى: {يس * وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (سورة يس من 1 إلى 9).
تبارك الله رب العالمين الذي حمى حبيبه بخيط العنكبوت، حمى الله تعالى حبيبه بأضعف البيوت وأوهن البيوت بيت العنكبوت وأرسل حمامةً باضت على فم الغار ونسجت العنكبوت خيطها.
{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (سورة التوبة/32) .
والمؤمنون في المدينة المنورة ينتظرون حُبًّا وشوقًا ، ينتظرون وصول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فكانوا يتوافدون إلى مشارق المدينة من ناحية طريق مكة وبعضهم يتسلق الأشجار وينظر إلى بُعْدٍ عَلّهُ يرى أثرًا لقدوم الحبيب صلى الله عليه وسلم وتمضي الأيام والساعات والشوق يزداد واللهفة تزداد للقاء خير الناس ، للقاء سيد الناس ، للقاء أفضل الناس ، وذات يوم والناس في انتظار بلهف وشوق وقد انتصف النهار واشتدّ الحرّ وإذ برجل ينادي بأعلى صوته: “ها قد جاء من تنتظرون يا أهل المدينة” فَتَكرُّ الجموع لاستقبال الحبيب المحبوب والحب يسبقها ولسان حالها يقول: “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع” .
وأي فرح وأي سرور بهذا اللقاء ، فلقد وصل إليهم قائدهم ، وصل إليهم نبيهم وحبيبهم وسيدهم من قال فيه ربه: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } .
كانوا يجلسون معه وكأن على رؤوسهم الطير لا تسقط النُّخامةُ أوِ الشعرةُ منه إلا في كف أحدهم فإذا وصلت إلى كفّه جعل يتمسح بها تبركا بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيا ليتني كنت معك يا رسول الله أقبّل يديك وقدميك وأتبرك بالتراب الذي تدوسه رجلاك فأنا من أحبابك وعلى دينك وأسأل الله أن أدفن بقربك .
اللهم انفعنا ببركة هذا النبي العظيم وأعد علينا ذكرى الهجرة بالأمن والأمان إنك على كل شىء قدير .
هذا وأستغفر الله لي ولكم
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْوَعْدِ الأَمِينِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَءَالِ الْبَيْتِ الطَّاهِرِينَ وَعَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَنِ الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللَّهِ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ بِتَقْوَى اللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَاتَّقُوهُ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبِيِّهِ الْكَرِيْمِ فَقَالَ ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾، اللَّهُمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعَاءَنَا فَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلا مُضِلِّينَ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَءَامِنْ رَوْعَاتِنَا وَاكْفِنَا مَا أَهَمَّنَا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ. عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِي، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يُثِبْكُمْ وَاشْكُرُوهُ يَزِدْكُمْ، وَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ وَاتَّقُوهُ يَجْعَلْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مَخْرَجًا، وَأَقِمِ الصَّلاةَ.