الأحد ديسمبر 22, 2024

الدرس الأول

بسم الله الرحمنِ الرحيم

النهيُ عن الغلوّ في الدين

درسٌ ألقاه المحدث الصوفيّ الفقيهُ الشيخ عبد الله بن محمّد العبدري الحبشي رحمه الله تعالى في ألمانيا وهو في بيان النَّهي عن الغلو في الدين. قال الشيخ رحمه الله رحمةً واسعةً:

الحمدُ لله ربّ العالمين وصلاة الله البرِّ الرحيم والملائكةِ الـمُـقربين على سيدنا محمّد أشرف المرسلين وعلى جميع إخوانه من النبيين وعلى ءاله الطيبين الطاهرين.

أما بعدُ فقد قال الله تعالى: ﴿يا أهلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا في دينِكُمْ﴾([1]) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس غَداةَ مِنًى: القُطْ لي حَصًى مثلَ حصَى الخَذْفِ. قال ابن عباس فالتَقَطْتُ له قال: بمثلِ هذا فارْمُوا بمِثْلِ هذا فارْمُوا وإيّاكُم والغُلُوَّ فإنَّ الغُلوَّ أهْلَكَ مَنْ كان قبلَكُمْ اهـ الحديث رواه ابنُ حبانَ في الصحيحِ([2]).

الآيةُ الكريمةُ والحديثُ الشريفُ كِلاهُما يَنْهَيانِ عن الغُلُوّ والغُلُوُّ مُجاوزَةُ الحَدِّ، اللهُ تباركَ وتعالى نَهانا عن أنْ نتجاوزَ الحدَّ في تعظيمِ أحدٍ من خلقِهِ. الأنبياءُ يُعظِّمُونَ إلى الحدِّ الذي يليقُ بهم فلا يجوزُ أنْ يُوصَفُوا بأكثرَ من ذلكَ، لا يجوزُ وصفُ النبيّ بأوصافِ الربوبيةِ وكذلكَ لا يجوزُ تعظيمُ الوليّ فوقَ منزلتِهِ، لا يجوزُ رفْعُهُ إلى فوقِ منزلتهِ فلا يجوزُ تعظيم الوليّ تعظيمًا يُساوي تعظيمَ الأنبياءِ إنما يُعَظَّمُون إلى ما دون ذلك.

اللهُ تعالى ذمَّ أهلَ الكتابِ لأنهم غَلَوا، اليهودُ غَلَوا في تعظيمِ عُزَيرٍ، وعُزيرٌ إمّا هو نبيٌّ وإما هُوَ وليٌّ، لم يثبُتْ في حديثٍ صحيحٍ أنهُ نبيٌّ أمَّا وِلايتهُ فلا شكَّ فيها، غَلَوا في محبةِ عُزَيرٍ عليه السلامُ فقالوا عنه ابنُ اللهِ والسببُ في ذلك أنهُ استَحْضَرَ التوراةَ في بيتِ الـمَقدِسِ لأنَّ بُخْتَ نصَّرَ الكافرَ الذي سلَّطَهُ اللهُ على اليهودِ فقتلَ منهم مائةَ ألفِ نفسٍ وشرَّدَ منهم عددًا كثيرًا وأحرقَ نسخ التوراةِ ثم بعدَ سبعينَ سنة عادوا إلى بيتِ المقدسِ فلمّا وجَدُوا عُزَيرًا يحفظُ التوراةَ عن ظهرِ قلبٍ قالوا هذا ما وصلَ إلى هذه الدرجةِ إلا لأنهُ ابنُ اللهِ.

وأما النصارى فإنّهم غَلَوا في محبةِ المسيح رفعوهُ إلى فوقِ منزلته، منزلةُ النبيّ أن يكونَ أفضلَ خَلْقِ اللهِ أفضلَ من الملائكةِ وأفضل من سائر البشر هذه منزلةُ النبيّ أمّا أنْ يكونَ له عِلمٌ كعِلمِ اللهِ أو قدرةٌ كقدرةِ اللهِ فلا يجوزُ ذلك لا يصِحُّ عقلاً ولا شرعًا. النصارى قالوا في حقِّ المسيحِ إنهُ ابنُ اللهِ كان فينا ما شاء ثم صعد إلى أبيه يَعْنُونَ اللهَ وقال بعضُهم إنه هو اللهُ كان فينا ما شاءَ ثم صَعِدَ إلى السماءِ، والفريقُ الثالثُ قالوا في غُلُوِّهِم اللهُ ثالثُ ثلاثةٍ أي المسيح والروح القدس والله تعالى ومنهم من قال المسيحُ وأمُّهُ واللهُ ربُّ العالَمين.

ثمَّ في أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أناسٌ غَلَوا فقالَ بعضُ الـمُـجازِفينَ وهو سودانيّ كان في المدينةِ المنوَّرةِ ويَنتسبُ إلى الطريقةِ القادريةِ قال ذاتَ يومٍ في حديثهِ الرسولُ يعلَمُ كلَّ شيءٍ فردَّ عليه أحدُ إخواننا قال له لا يجوز هذا لو كان الرسول يعلم كل شيءٍ ما قال الله تعالى: ﴿ولو كُنْتُ أعلَمُ الغَيبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخيرِ وما مَسَّنِيَ السُّوءُ﴾([3]) هذه الآيةُ فيها دلالةٌ على أنَّ الرسولَ لا يعلمُ الغيبَ أي لا يعلمُ كلَّ الخَفِيَّاتِ لا يعلم كل الخفيات إلا اللهُ لا جبريلُ ولا أيُّ ملكٍ من ملائكةِ اللهِ ولا أيُّ نبيٍّ سيدُنا محمّد ومَن قبلَهُ لا يعلمُ أحدٌ من الأنبياءِ جميعَ الغَيبِ أي كُلَّ الخفيات أي كلَّ ما يخفَى علينا بل جميعُ ما يخفَى علينا لا يعلَمُهُ إلا اللهُ، قال الخَضِرُ لموسى حين اجتمعا عليهما الصلاة والسلام كانا في السفينة التي ركباها فجاء عصفور فنقرَ مِنقارَهُ في البحر فقال الخضر لموسى يا موسى ما عِلمي وعِلمُكَ في جَنبِ علمِ اللهِ إلا كما نقرَ هذا العصفورُ منَ البحر([4]). هذا والخضر له مِنَ العُمر ما لم يُعْطَهُ أحدٌ من الأنبياءِ، الخضرُ على القولِ الـمُـعتمدِ نبيٌّ ليسَ وليًّا فقط. كان قبلَ موسى بزمانٍ ثم لما اجتمع بموسى قال له هذا. هذا دليلٌ على أنه لا يعلمُ أحدٌ من الخَلق جميعَ الغَيبِ. اللهُ تعالى يُطلِعُ أنبياءه وملائكتَهُ على بعضِ الغَيب وهذا الذي يُطلِعُهُم عليه شيءٌ قليلٌ قليلٌ قليلٌ بالنسبة لِما لا يعلَمُهُ إلا اللهُ.

فهذا السودانيُّ تجرَّأَ وجعلَ رسولَ اللهِ مثلَ اللهِ مُساويًا للهِ تعالى قال له أخونا هذا الذي ردَّ عليه أليسَ رسولُ الله أرسلَ عددًا سبعينَ شخصًا من أصحابهِ إلى قبيلةٍ ليُعلِّموا الدّينَ طلبَ بعضُ أهلِ تلكَ القبيلةِ منه صلى الله عليه وسلم أن يُرسِلَ لهم مَن يُفَقِّهُهُمْ في الدينِ فأرسلَ لهم سبعينَ رجلًا كانُوا يُسَمَّونَ القُرَّاءَ من خِيارِ الصحابةِ فاعتَرَضتهم بعضُ القبائلِ في الطريق فقتلوهم، قال أخونا هذا لهذا السودانيّ لو كانَ الرسولُ يعلمُ الغيبَ هل كانَ يُرسلُ هؤلاءِ إلى تلكَ القبيلةِ وهو يعلمُ أنهم يُقتَلون ويُحصدون أكانَ يُرسِلُهُمْ قال نعم كان على علمٍ بذلكَ وأرسَلَهُم، مِن شدةِ العِنادِ قال نعم. هذا ينتسبُ إلى الطريقةِ القادريةِ وشيخُهُ في الطريقةِ القادرية الذي ينتسب إليه إنسانٌ تقيٌّ من العلماءِ الأتقياءِ مجاورٌ في المدينة المنورة لكن هذا الذي ينتسب إليه طلعَ مُلحِدًا.

مَن ساوَى بينَ اللهِ وبينَ أحدٍ مِنْ خَلْقِهِ مِن نبيّ أو مَلَكٍ أو غيرِ ذلك فقد كفرَ، اللهُ تعالى لا أحدَ يُشابِهُهُ في شيءٍ منَ الصفاتِ عِلْمُهُ ليسَ كعِلمِنا قدرتُهُ ليست كقدرتنا وإرادَتُهُ ليست كإرادَتِنا وذاتُهُ ليسَ كذواتِنا مُنَزَّهٌ عن مُشابعةِ المخلوقين.

ومِنَ الغُلوِّ الذي هو داخلٌ تحتَ النَّهْيِ الذي وردَ في القرءانِ والنَّهْيِ الذي وردَ في الحديثِ قولُ أصحابِ الطريقةِ التجَّانيةِ في دفترٍ لهم يُسَمُّونَهُ أحزاب وأوراد الطريقة التجانية، مذكورٌ في هذا الدفتر هذه الصيغةُ اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمّد عَينِ ذاتِكَ الغَيبيَّةِ يعني المؤلفُ أنَّ الرسول عينُ ذات الله. هؤلاء كثرةٌ مَنْبَعُهُمْ مِنَ المغربِ، هذه الطريقةُ نَبَعَتْ من المغرب من مدينة فاس ثم امتدتْ إلى ما يليها من البلاد وما أكثرَ المنتسبينَ إليها في السودانِ وفي السنغالِ وفي نَيجيريةَ وفي مصرَ حتى إنهُ كانَ لهم زعيمٌ أصلُهُ تُونُسيٌّ يُسمَّى محمدَ الحافظ رجلٌ مُعَمّرٌ وله اطّلاعٌ في الحديثِ هو عالِمٌ لكن الله أضلَّهُ هو زعيمُ هذه الطائفةِ التجّانيةِ كنتُ أنكِرُ على الموجودين في بيروت من هذه الطائفة فاستنْجَدُوا بشيخهم الذي هو في القاهرة محمّد الحافظ التجانيّ ثم كتب إليَّ كتابًا يتضمَّنُ الدفاعَ عن هذهِ الصيغةِ اللهمَّ صلّ وسلم على سيدنا محمّد عينِ ذاتِكَ الغيبية يدافع عن هذهِ الصيغة التي هيَ صريحةٌ في توحيد اللهِ والنبيِّ أي أنَّهما واحِدٌ، كلمةُ عَينِ ذاتِكَ الغيبيةِ معناهُ يا اللهُ محمدٌ الذي هو أنتَ صلّ وسلّمْ عليه، صار في هذا المكتوب يُدافع عنها لكن لم يأتِ بطائل إنما مُجرَّدُ الدفاعِ. هذا من جُملةِ الغُلُوّ الذي حصلَ من هذه الأمةِ في هذا العصرِ بل وقبل هذا لأنّ هذه الطريقةَ في القرنِ الثاني عشرَ الهجريّ طلَعَتْ ظَهَرَتْ. أما ذلك السودانيُّ الذي ذكَرْتُ لكم الذي هو ينتسب إلى الطريقة القادرية فهو من أهل عصرِنا، هذا الكلامُ الذي صدرَ منه كان منذُ ثلاثِ سنواتٍ.

ورجلٌ ءاخَرُ في المدينةِ كان هناك أناسٌ اجتمعوا للاحتفال بليلة سبعٍ وعشرينَ من شهرِ رجَبٍ ففي أثناءِ الاحتفالِ أحدُ الحاضرينَ قال اللهُ يَتَشرَّفُ بعُروجِ سيدنا محمدٍ في هذهِ الليلةِ، هذا من الغُلُوّ الذي من نوعِ الكُفرِ لأنّ الله تباركَ وتعالى لا ينتفعُ بأحدٍ من خلقهِ لا بسيدنا محمّد ولا بأيّ نبيّ ولا بجبريلَ ولا بأيّ ملَكٍ، اللهُ مُنَزَّهٌ عن الانتفاعِ لأنّ اللهَ كامِلٌ لا يقبلُ الزيادةَ ولا النُّقصانَ كمالُهُ أزليٌّ أبديٌّ الأزليُّ لا يزيدُ ولا ينقصُ، اللهُ تعالى كامِل بكمال أزليّ أبديّ لا يزدادُ ولا ينقصُ، هو كاملٌ في الأزلِ بكمالٍ لا يقبلُ الزيادةَ والنقصانَ. هذا الذي قال اللهُ يتشرفُ بعروجِ النبيّ بهذهِ الليلةِ هذا جعلَ اللهَ تعالى كالمخلوقِ لأنّ المخلوقَ هو الذي يزدادُ ترَقيًّا إلى الكمالِ أو ينقصُ، الأنبياءُ يزدادونَ ترَقيًّا والملائكةُ كذلك يزدادونَ ترَقيًّا.

فيجبُ اجتنابُ الغُلُوِّ في تعظيمِ الأنبياءِ وفي تعظيمِ الأولياءِ.

ومما حصلَ من الغُلوّ في تعظيم الأولياءِ أنّ رجُلًا من الأولياءِ المشهورينَ في الحبشةِ يُقالُ له أبو محمّد هذا ظهرتْ له كراماتٌ كثيرةٌ باهرةٌ من جُملَتِها أنه حصلتْ غارةٌ من الكفار في ناحيةٍ، هذه الغارةُ جاءتْ إلى بلدِ هذا الوليّ أبي محمّد فذَبَحَتْ مُريدًا له ماتَ ثمَّ الناسُ هيَّئُوهُ للدفنِ لكنْ قالوا ننتظر قُدومَ الشيخِ، الشيخُ كان غائبًا، فحضرَ الشيخُ فقيلَ له يا سيدنا خادمُكُم فلانٌ الغارةُ ذَبَحَتْهُ قَتَلَتْهُ ذَبَحَتْهُ ذبحًا وها قد هيَّأناهُ للدفنِ فتضرَّعَ الشيخُ إلى اللهِ تعالى فأحيا هذا الميتَ بقُدرة الله بإذن الله فأهلُ تلكَ الناحيةِ غَلَوا في تعظيم هذا الشيخِ حتى إنهم عَمِلُوا قصيدةً بلُغَةِ الحبشةِ فيها إنّ أبا محمّد مثلُ الصمَدِ أي مثلُ اللهِ هذا من جملة الغلوّ الذي هو كفرٌ. اللهُ تباركَ وتعالى آمَرَنا بالاعتِدالِ لا نرفَعُ الأولياء إلى ما فوقَ منزلتهم أي لا نَصِفُهُم بأوصافِ الربوبيةِ لا نُشَبِّهُهُمْ بالله ولا ننقصهم عما هو لائقٌ بهم أي عنِ المنزلة التي تليقُ بهم أما التعظيمُ الذي هو دونَ الغُلُوّ فهو شيءٌ يحبّه الله تعالى، اللهُ تعالى عَظَّم نبيَّهُ محمدًا فقَرَنَ اسمَهُ باسمِهِ ويَكفيهِ تعظيمًا أنهُ يُذْكَرُ مع اسمِ اللهِ في الأذانِ جهْرًا وفي الإقامةِ كذلكَ أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله، هذا الذي يحصل في الأذان وضمن الصلاة هذا تعظيمٌ بالغٌ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، اللهُ تعالى عظَّمَهُ.

كان بعض ملوك التتار الذين أسلموا قال ما أعلَى تعظيم يُعظَّمُهُ إنسانٌ قال له بعض الجاهلين أنتَ أنتَ بلغتَ في التعظيم أعلى منزلة فقال لا إنّ الذي بلغَ أعلى منزلةٍ هو محمدٌ يُذكر في الأذانِ مع اسم الله تعالى هذا التعظيمُ الذي هو أعلى تعظيم.

التعظيمُ الذي ليسَ فيه غُلُوٌّ فهذا قُربةٌ إلى الله تعالى ومَن تحاشَى ذلك تَوَهُّمًا منهُ أنهُ إخلالٌ بتوحيدِ اللهِ فهو فاسدُ القلب فاسدُ الاعتقادِ، ذكرَ لي أحدُ أصدقائنا من أهل بيروتَ أنهُ كان في مسجدٍ فقال الخطيبُ في خطبة الجمعة لا يجوزُ تعظيمُ الرسولِ، قال اعترضتُ عليه وقلتُ كيفَ تقولُ هذا وقد قال الله تعالى وعزَّرُوهُ قال لهُ عزَّرُوهُ معناه نَصَرُوهُ فقال نصروه في الآية بعدَ هذا فانقطعَ تظاهرَ بأنه يريدُ صلاةَ النفلِ فاستقبلَ القبلةَ فكبَّر. هذا أيضًا إلحادٌ، هذا كفرٌ كيف يقولُ مَن يدَّعي الإسلامَ لا يجوزُ تعظيمُ الرسولِ. اللهُ عظَّمَهُ، هذه الشهادةُ لمَّا نقولُ محمدٌ رسولُ الله أليسَت تعظيمًا.

أما التبرك بقبر النبيّ صلى الله عليه وسلم بزيارةِ قبره فهذا ليس من الغُلُوّ في شيءٍ فمن زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم للتبرك أي ليعطيَهُ اللهُ البركةَ بزيارتِهِ لقبرِ النبيّ فقد عمل عملاً يُحبُّهُ اللهُ تعالى.

كذلكَ التوسلُ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم في حالِ حياتِهِ وبعدَ مماتِهِ قُربةٌ إلى الله تعالى ليسَ من الغلوّ الذي يُنافي توحيدَ الله تعالى، الذي يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أي يطلب من الله تعالى أن يقضيَ له حاجتَهُ لأجلِ نبيه صلى الله عليه وسلم أو يكشفَ عنه كربةً فهذا عملٌ يحبه الله تعالى سواء كان في حال حياةِ النبيّ وحضوره أي في مجلسه أو كان بعد وفاته عند قبره أو في مكانٍ ءاخرَ، كلُّ ذلكَ قُربةٌ إلى الله، ولم يكن في العصور القديمةِ الصدرِ الأولِ والذي يليه أحدٌ من أهلِ العلمِ يُنكرُ التوسلَ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن أحدٌ يُنكر التوسل بالنبي في عهد الصحابة أو في ما بعد ذلك إلى أن ظهرَ رجلٌ في القرنِ السابعِ الهجريّ في أواخره فحرَّمَ التوسلَ بالنبي قال لا يجوزُ التوسل بالنبي إلا بحضورهِ في حياته أما التوسلُ به بعد وفاتهِ فحرامٌ وكذلكَ التوسل به في حالِ حياته في غير حضرته كذلكَ حرامٌ، وهذا الرجلُ هو أحمدُ بن تيمية لم يسبقه أحدٌ من علماء الإسلام إلى مثل ذلك بل كلهم يَرَونَ التوسلَ بالنبيّ في حياته وبعد مماته جائزًا، لا يَثبُتُ عن أحدٍ من الصحابةِ إنكارُ ذلك ولا عن أحد التابعينَ ولا عن أحدٍ مِن تَبَعِ الأتباعِ ولا مَن بعد ذلك فاعلموا ذلك أيها الإخوان ولا يُهَوَّلَنَّكُمْ هؤلاء الذين يُحرِّمُونَ ذلك ويُورِدُون الآياتِ ليُوهموا الناسَ أنَّ القرءانَ يُحرِّمُ ذلك ويُوردونَ الأحاديث ليُوهِمُوا الناسَ أن أحاديثَ النبيّ تُحرمُ ذلك فإياكم وإياهم.

الذينَ يحرِّمُون التوسلَ ليسَ لهم دليلٌ إلا التمويهُ يُورِدُونَ ءايتٍ في غير محلِّها ويوردونَ أحاديثَ في غير محلّها كما يوردونَ أحاديثَ لا أساسَ لها ولا صحة، من جملتها أنَّ هؤلاءِ يقولونَ إنَّ أبا بكرٍ الصديقَ رضيَ الله عنه قال قُوموا بِنا نستغيثُ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم من هذا الـمُـنافقِ فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه لا يُستغاثُ بي إنما يُستغاثُ بالله عز وجلَّ هذا الحديثُ ليسَ له إلا إسنادٌ واحدٌ وهذا الإسنادُ الواحدُ فيه راوٍ ضعيفٌ لا يُحتَجُّ به، هذا عندهم عُمدةٌ للمُحَرِّمينَ للتوسل والاستغاثةِ هذا عندهم عمدة وهو لا يصحُّ الاحتجاجُ به لأنَّ فيه راويًا هو ابنُ لَهِيعةَ مع أنَّ الـمُـطَّلعينَ منهم اطلعوا على حديثٍ هو ضِدُّ هذا وهو مما رواهُ البخاريُّ في الصحيح من حديثِ ابنِ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنَّ الشمسَ تدنُو من رؤوس الناسِ يومَ القيامةِ فإذا بهم استغاثوا بآدم([5]) اهـ انظروا قال عليه الصلاة والسلام استغاثوا بآدم بهذا اللفظ، هذا في البخاري صحيحٌ ثابتٌ. ثم هؤلاء من عَمَى قلوبهم كأنهم لا يرَونَ هذا الحديثَ الذي في البخاريّ ويحتجونَ بهذا الحديث الذي ما له صحة.

ثم إنَّ أعمَى جاءَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له يا رسول الله ادعُ اللهَ أن يكشفَ عَن بصري فقال له إنْ شِئتَ صبرتَ وإن شئتَ دعوتُ لك قال يا رسول الله ليسَ لي قائدٌ وقد شقَّ عليَّ ذهابُ بصري قال له ائتِ الـمِيضأةَ فتوضَّأْ وصَلِّ ركعَتَينِ ثم قُلْ اللهم إني أسألكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبينا محمدٍ نبيِّ الرحمةِ يا محمدُ إني أتوجهُ بكَ إلى ربي في حاجتي لتُقضَى لِي وتُسَمِّي حاجَتَكَ([6]) اهـ هذا لفظُ الطبراني، وقد روى الطبرانيُّ في هذا الحديث أن الصحابي الذي روى الحديثَ عثمانَ بنَ حُنَيفٍ قال فواللهِ ما تفرَّقنا ولا طالَ بِنا المجلسُ حتى دخلَ الرجلُ علينا المجلسَ وقد أبصرَ اهـ ثم يقول الطبرانيُّ بالإسنادِ نفسه إنَّ رجُلاً كان يتردَّدُ إلى عثمانَ بنِ عفانَ في حاجةٍ له فلم يقضِها له فشكَا ذلك إلى عثمان بن حُنيف أي الصحابيّ الذي كان مع الرسول عندما جاء الأعمى فعلَّمه عثمانُ التوسل الذي علمه الرسولُ صلى الله عليه وسلم للأعمى اهـ هذا الحديثُ فيه التوسلُ بالنبي في حياته في غيرِ حضرَتِهِ أي في غيرِ مجلسه وفيه التوسل بالنبي بعد وفاته في أيام عثمان بن عفان. يقول الطبرانيُّ بعد أن يذكر الحادثتين حادثةَ الأعمى وحادثةَ الرجلِ الذي كانت له حاجةٌ إلى عثمان بن عفان والحديثُ صحيحٌ([7])، هكذا يقول، هذا دليل الـمُـجَوّزِينَ للتوسلِ بالنبيّ والاستغاثةِ به ولهم أدلة أخرى إن شاء الله سنشرحها في دروسٍ أخَر.

انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم.

 

[1])) سورة النساء/الآية 171.

[2])) رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر وصف الحصى الذي يرمى به.

[3])) سورة الأعراف/ الآية 188.

[4])) رواه مسلم في صحيحه باب فضائل الخضر.

[5])) رواه البخاري في صحيحه باب مَن سأل الناس تَكَثُّرًا.

[6])) رواه الطبراني في المعجم الكبير باب ما أسندَ عثمان بن حُنيفٍ، ورواه الحاكم في المستدرك باب كتاب الدعاء والتكبير والتهليلِ والتسبيحِ والذكرِ.

[7])) رواه الطبراني في معجمَيه الكبير باب ما أسند عثمان بن حنيف والصغير باب من اسمه طاهر.