الـمَلِكُ العَادِلُ، نُوْرُ الدِّيْنِ، تَقِيُّ الـمُلُوْكِ، لَيْثُ الإِسْلاَمِ، أَبُو القَاسِمِ مَحْمُوْدُ ابنُ الملك عِمَادِ الدِّينِ، قَسِيمِ الدَّوْلَةِ أَبِي سَعِيْدٍ زَنْكِي ابنِ الأَمِيْرِ الكَبِيْرِ آقْ سُنْقُر، التُّرْكِيُّ.
مَوْلِدُهُ
ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شَوَّالٍ، سَنَة إِحْدَى عَشْرَةَ وَخَمْسِمائَةٍ بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرءان والفروسية والرمي، وكان شهمًا شجاعًا ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة.
صفته
كان طويل القامة، أَسْمَر اللون، حلو العينِيْنَ، وَاسِع الجبهَة، حسن الصُّوْرَة، ليس له لِحيَة إلا في حنكه، مهيبًا متواضعًا عليه جلالة ونور، يعظم الإسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع.
من مناقبه
كَانَ نُوْر الدِّيْنِ حَامِل رَايَتَيِ العَدْل وَالجِهَاد، قلَّ أَنْ تَرَى العُيُونُ مِثْلَه، افتَتَح حُصُوْنًا كَثِيْرَة، وَأَظهرَ السُّنَّةَ بِحَلَبَ. وأمات البدعة، وَبَنَى الـمَدَارِسَ بِحَلَبَ وَحِمْصَ وَبَعْلَبَكَّ، وَالجَوَامِعَ وَالمـَسَاجِدَ. وَسُلِّمت إِلَيْهِ دِمَشْقُ، في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها، وحَصَّنهَا، وَوسَّع أَسواقهَا، وبنى لهم المدارس والمساجد والربط، ووسع لهم الطرق على المارة، وبنى عليها الرصافات، وَأَنشَأَ الـمَارستَان (دار المرضى)، ودارًا لاستماع الحَدِيْث وإسماعه، وَأَبطل الـمُكُوْس. وفتح باب الفرج، ولم يكن هناك قبله باب بالكلية. ثُمَّ جَهَّز نُوْرُ الدِّيْنِ رَحِمَهُ اللهُ جَيْشًا، فَافْتَتَحَ مِصْرَ، وَصَفَتِ الدِّيَار المِصْرِيَّة لنَائِبِهِ أَسَدِ الدِّيْنِ شِيرْكُوْه، ثُمَّ لِصَلاَح الدِّيْنِ، فَأَقَامَ الدعوَة العَبَّاسِيَّة.
قَالَ ابْنُ الأَثِيْرِ: طَالعتُ السِّيَر، فَلَمْ أَرَ فِيْهَا بَعْد الخُلَفَاء الرَّاشدين وَعُمَر بن عَبْدِ العَزِيْزِ أَحْسَنَ مِنْ سِيرته، وَلاَ أَكْثَر تَحرِّيًا مِنْهُ لِلْعدل، وَكَانَ لاَ يَأْكُل وَلاَ يَلبس وَلاَ يَتصرف إِلاَّ مِنْ مِلْكٍ لَهُ قَدِ اشترَاهُ مِنْ سهمه مِنَ الغَنِيْمَة. وَكَانَ يَتهجَّد كَثِيْرًا، وَكَانَ عَارِفًا بِمَذْهَب أَبِي حَنِيْفَةَ.اهـ
من مآثره
كَانَ بَطَلاً، شُجَاعًا، وَافر الهَيْبَة، حسن الرَّمْي، مليح الشّكل، ذَا تَعبُّد وَخوف وَورعٍ، وَكَانَ يَتعرَّضُ لِلشَّهَادَة، وَبَنَى دَار العَدْل، وَأَنْصَفَ الرَّعِيَّة، ووقف وقفًا على من يعلم الأَيْتَام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى الـمُجَاوِرِيْنَ بالحرمين، وله أوقاف على الأرامل والمحاويج، وعلى جميع أبواب الخير. وَأَمر بِتكمِيْل سُور الـمَدِيْنَة النَّبَوِيَّة المنورة، وَاسْتخرَاجِ العينِ بِأُحُد دَفَنهَا السَّيْل، وَفتح درب الحِجَاز، وَعَمَّر الخوَانق وَالرُّبط وَالجسور بِدِمَشْقَ وَغَيْرهَا، وَكَذَا فَعلَ إِذْ ملك حَرَّانَ وَسِنْجَارَ وَالرُّهَا وَالرَّقَّة وَمَنْبِجَ وَشَيْزَر وَحِمْص وَحَمَاة وَصَرْخَد وَبَعْلَبَكَّ وَتَدمُرَ.
وقد بنى الخَانَات الكثيرة في الطرقات والأبراج، ورتب الخفراء في الأماكن المخوفة، وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الأخبار في أسرع مدة، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم، وكان يحب الصالحين. وَوَقَفَ كُتبًا كَثِيْرَةً مُثَمَّنَة.
زهده وعبادته
كَانَ نُوْر الدِّيْنِ مَلِيْح الخَطِّ، كَثِيْر الـمُطَالَعَة للكتب الدينية، متبعًا للآثار النبوية، محبًا لفعل الخيرات، زَاهِدًا، عَابِدًا، يُصَلِّي فِي جَمَاعَةٍ، وَيَصُوْم، وَيَتلو، وَيُسَبِّح، كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها. وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين تكثر القيام في الليل. (والأتابك كلمة تركية مركبة من “أتا” وتعني المربي، و”بك” وتعني الأمير).
وَكان يَتجنَّب الكِبْر، وَيَتَشَبَّه بِالعُلَمَاءِ وَالأَخيَار، صموتًا وقورًا، مهيبًا شديد الهيبة في قلوب الأمراء، كَانَ دَيِّنًا، تَقِيًّا، لاَ يَرَى بذلَ الأَمْوَال إِلاَّ فِي نَفع، متمسِّكًا بِالشَّرع، كَثِيْر البِرِّ وَالأَوقَافِ، وَيَتحرَّى فِي القُوْت، عفيف البطن والفرج، مقتصدًا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، وَكَانَ يَأْكُل مِنْ عَمل يَده، يَنسخ تَارَة، وَيَعْمَل أَغلاَفًا تَارَة، وَيَلْبَس الصُّوف، وَيُلاَزم السجَّادَة وَالـمُصْحَف.
وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئًا، ولو مات جوعًا.
قَالَ سِبْط الـجـَوْزِيّ: كَانَ لَهُ عجَائِزُ، فَكَانَ يَخِيطُ الكوَافِي، وَيَعْمَلُ السَّكَاكِرَ، فَيَبِعْنهَا لَهُ سرًّا، وَيُفْطِر عَلَى ثمنهَا.
قَالَ مَجْد الدِّيْنِ ابْن الأَثِيْرِ فِي نَقل سِبْط الجَوْزِيّ عَنْهُ: لَمْ يَلبس نُوْر الدِّيْنِ حَرِيْرًا وَلاَ ذهبًا، وَمَنَع مِنْ بيع الخَمْر فِي بِلاَده، وَكَانَ كَثِيْرَ الصَّوْم، وَلَهُ أَورَاد فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.اهـ
رَوَى الحَدِيْثَ، وَأَسْمَعَهُ بِالإِجَازَةِ، وَكَانَ مَنْ رَآهُ شَاهَد مِنْ جَلاَلِ السَّلطَنَةِ وَهَيْبَةِ الـمُلْكِ مَا يَبْهَرُهُ، فَإِذَا فَاوضه، رَأَى مِنْ لَطَافته وَتوَاضعه مَا يُـحَيِّرُه. حَكَى مَنْ صَحِبَه حَضَرًا وَسفرًا أَنَّهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ كلمَة فُحشٍ فِي رِضَاهُ وَلاَ فِي ضَجَرِه، وَكَانَ يُوَاخِي الصَّالِحِيْنَ، وَيزُورهُم. وَكَانَ حنفِيًا، يُرَاعِي مَذْهَب الشَّافِعِيّ وَمَالِك، وَكَانَ ابْنُهُ الصَّالِح إِسْمَاعِيْل أَحْسَنَ أَهْل زَمَانِهِ. ومناقبه ومآثره كثيرة جدًا، وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بـها على ما وراءها.
وقد قيل فيه
سُلْطَانُنَا زَاهِد وَالنَّاس قَدْ زَهِدُوا * لَهُ فُكُلٌّ عَلَى الخيرَات مُنْكَمِشُ
أَيَّامُه مِثْلُ شَهْر الصَّوْم طَاهِرَةٌ * مِنَ المـَعَاصِي وَفِيْهَا الجوع وَالعطشُ
من عدله
هو أول من ابتنى دارًا للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع أربعة أيام، ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، وَيَأْمر بِإِزَالَة الـحـَاجِب وَالبوَّابين، حتى يصل إليه القوي والضعيف، والغني والفقير، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم.
عقيدته السنية
أثنى صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية على عقيدة السلطان نور الدين غير مرة، وصاحب الروضتين هو شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المقدسي الدمشقي الشافعي الأشعري، المعروف بأبي شامة المتوفى سنة 665 هـ وهو من شيوخ النووي.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 12/336): قال العماد: وفيها (أي سنة ثمان وستين وخمسمائة): وصل الفقيه الإمام الكبير قطب الدين النيسابوري، وهو فقيه عصره ونسيج وحده، فسر به نور الدين وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق، ثم أتى به إلى دمشق فدرس بزاوية جامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي، ثم نزل بمدرسة الجاروق، ثم شرع نور الدين بإنشاء مدرسة كبيرة للشافعية، فأدركه الأجل قبل ذلك. قال أبو شامة: وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعد ذلك الملك العادل أبو بكر بن أيوب.اهـ
وقطب الدين النيسابوري هو أبو المعالي مسعود بن محمد بن مسعود الشافعي نزيل دمشق، يعرف بالنيسابوري توفي سنة 578 هـ من تصانيفه عقيدة أهداها للسلطان صلاح الدين الأيوبي، ففي الروضتين ما نصه: وكان قد جمع له الشيخ الإمام قطب الدين النيسابوري رحمه الله عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب وكان من شدة حرصه عليها يعلمها الصغار من أولاده حتى تترسخ في أذهانهم من الصغر ورأيته وهو يأخذها عليهم وهم يقرؤونها من حفظهم بين يديه.اهـ
ويقول القاضي تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى عند ترجمة الإمام أبي منصور فخر الدين ابن عساكر(8/177): وتفقه بدمشق على الشيخ قطب الدين النيسابوري وزوجه بابنته واستولدها، وسمع الحديث من عميه الإمامين الحافظ الكبير أبي القاسم والصائن هبة الله وجماعة، وحدث بمكة ودمشق والقدس. ثم قال: كان الشيخ فخر الدين ابن عساكر مدرسا بالمدرسة العذراوية وهو أول من درس بها والنورية والجاروخية وهذه الثلاث بدمشق والمدرسة الصلاحية بالقدس يقيم بالقدس أشهرا وبدمشق أشهرا.اهـ
ويقول ابن كثير في البداية والنهاية (13/119) عند ترجمة الفخر ابن عساكر ما نصه: اشتغل الشيخ فخر الدين من صغره بالعلم الشريف على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري، فتزوج بابنته ودرس مكانه بالجاروخية، وبها كان يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما، وبها توفي غربي الإيوان. ثم تولى تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف.اهـ
وذكر القاضي تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (8/184) أن الشيخ فخر الدين ابن عساكر كان يقرئ بالمدرسة الصلاحية العقيدة المرشدة في بيت المقدس، وأن الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي رحمه الله قال: وهذه العقيدة المرشدة جرى قائلها على المنهاج القويم والعقد المستقيم وأصاب فيما نزه به العلي العظيم. ثم ساق السبكي العقيدة المرشدة ثم قال: هذا ءاخر العقيدة وليس فيها ما ينكره سني.اهـ
ومؤلف العقيدة المرشدة هو ابْنُ تُوْمَرتَ، أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ الحَسَنِي، مَاتَ فِيءاخِرِ سَنَةِ أَرْبَعٍ َعِشْرِيْنَ وَخَمْسِ مائَةٍ. قال عنه التاج السبكي: كان أشعريا صحيح العقيدة أميرا عادلا داعيا إلى طريق الحق.اهـ
وفيها يقول [الله”موجـــودٌ قبـــل الخلقِ، ليس له قبلٌ ولا بعدٌ، ولا فــــــــوقٌ ولا تحــتٌ، ولا يَمينٌ ولا شمـالٌ، ولا أمامٌ ولا خلفٌ، ولا كـلٌّ، ولا بعضٌ، ولا يقالُ متى كـانَ ولا أينَ كـانَ ولا كيفَ، كان ولا مكان، كوَّنَ الأكـــــوانَ ودبَّـرالزمـــــانَ، لا يتقيَّدُ بالزمــــــانِ ولا يتخصَّصُ بالمكــــان]. اهـ
تعظيمه للصوفية الصادقين والعلماء العاملين
فقد جاء في الروضتين في أخبار الدولتين نقلا عن ابن الأثير(1/106): وبنى الرُّبُط والخانقاهات في جميع البلاد للصوفية، ووقف عليها الوقوف الكثيرة وأدَرَّ عليهم الإدرارات الصالحة وكان يـُحْضِر مشايخهم عنده ويقربهم ويدنيهم ويبسطهم ويتواضع لهم وإذا اقبل أحدهم إليه يقوم له مُذْ تقع عينه عليه ويعتنقه ويجلسه معه على سجادته ويقبل عليه بحديثه، وكذلك كان أيضا يفعل بالعلماء من التعظيم والتوقير والاحترام، ويجمعهم عند البحث والنظر، فقصدوه من البلاد الشاسعة، من خراسان وغيرها، وبالجملة كان أهل الدين عنده في أعلى محل وأعظمه.اهـ والخانقاه: كلمة فارسية تعنى المكان الذى ينقطع فيه المتصوف للعبادة.اهـ
يقول صاحب (الروضتين) نقلا عن العماد (1/110): وواظب (السلطان نور الدين) على عقد مجالس الوعاظ ونصب الكرسي لهم في القلعة للإنذار والاتعاظ وأكبرهم الفقيه قطب الدين النيسابوري وهو مشغوف ببركة أنفاسه واغتنام كلامه واقتباسه، ووفد من بغداد ابن الشيخ أبي النجيب الأكبر، وبسط له في كل أسبوع المنبر، وشاقه وعظه، وراقه معناه ولفظه.اهـ
وابن الشيخ أبي النجيب الأكبر هو عبد الرحيم بن عبد القاهر بن عبد الله السهروردي المتوفى سنة 567هـ
وقال ابن كثير في البداية والنهاية (12/347) ما نصه: وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم، وكان يحب الصالحين، وقد نال بعض الأمراء مرة عنده من بعض الفقهاء، وهو قطب الدين النيسابوري، فقال له نور الدين: ويحك إن كان ما تقول حقًا فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقًا، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحدًا غيره عندي بسوء لأودبنك. فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك.اهـ
ويقول ابن الأثير: بنى بدمشق دار الحديث ووقف عليها وعلى من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفا كثيرة وهو أول من بنى دارا للحديث فيما علمنا.اهـ
ويقول التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (7/224) في ترجمة الإمام الجليل حافظ الأمة أبي القاسم ابن عساكر الأشعري ما نصه: وكان الملك العادل محمود بن زنكي نور الدين قد بنى له دار الحديث النورية فدرس بها إلى حين وفاته.اهـ والحافظ ابن عساكر هو مصنف كتاب: تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري.اهـ
ويقول الحافظ ابن عساكر في خطبة كتابه تاريخ دمشق: ورقى خبر جمعي له ( أي لتاريخ دمشق ) إلى حضرة الملك القمقام (القمقام من الرجال السيد الكثير الخير الواسع الفضل) الكامل العادل الزاهد المجاهد المرابط الهمام أبي القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر ناصر الإمام أدام الله ظل دولته على كافة الأنام وأبقاه مسلما من الأسواء، منصور الأعلام منتقما من عداة المسلمين الكفرة الطغام، معظما لحملة الدين بإظهار الإكرام لهم والاحترام، منعما عليهم بإدرار الإحسان إليهم والإنعام عافيا عن ذنوب ذوي الإساءات والاجترام، بانيا للمساجد والمدارس والأسوار ومكاتب الأيتام راضيا بأخذ الحلال رافضا لاكتساب الحطام، آمرا بالمعروف زاجرا على ارتكاب الحرام، ناصرا للملهوف وقاهرا للظالم العسوف بالانتقام، قامعا لأرباب البدع بالإبعاد لهم والإرغام، خالعا لقلوب الكفرة بالجرأة عليهم والإقدام، وبلغني تشوقه إلى الاستنجاز له والاستتمام، ليلم بمطالعة ما تيسر منه بعض الإلمام، فراجعت العمل فيه راجيا الظفر بالتمام، شاكرا لما ظهر منه من حسن الاهتمام.اهـ
حفظه لأصول الدين ومحاربته للبدع
ذكر الـمُؤرّخ الحافظ عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة المقدسي الدمشقي في الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، عن السلطان نور الدين زنكي، ما نصّه (1/108): وأمّا حفظ أصول الديانات، فإنّه كان مُراعيا لها لا يُهملها، ولا يُمكّن أحدا من الناس مِن إظهار ما يُخالف الحقّ، ومتى أقدم مُقدم على ذلك أدّبه بما يُناسب بدعته. وكان يُبالغ في ذلك ويقول: نحن نحفظ الطرق مِن لصّ وقاطع طريق، والأذى الحاصل منهما قريب، أفلا نحفظ الدّين ونمنع عنه ما يُناقضه وهو الأصل.
قال: وحُكي أنّ إنسانا بدمشق يُعرف بيوسف بن ءادم،كان يُظهر الزّهد والنّسك وقد كثُر أتباعه، أظهر شيئا من التشبيه، فبلغ خبره نور الدين، فأحضره وأركبه حمارا وأمر بصفعه، فطيف به في البلاد جميعه ونودي عليه: هذا جزاء مَن أظهر في الدين البدع. ثمّ نفاه مِن دمشق فقصد حرّان. وأقام بها إلى أن مات.
وفاته
فلما كان يوم الأربعاء الحادي عشر من شَوَّالٍ، سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّيْنَ وَخَمْسِمائَةٍ، توفي رحمه اللّه تعالى بعلة الخوانيق في حلقه منعته من النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع وكان مهيبًا فما روجع، عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة، وصلي عليه بجامع القلعة بدمشق. ثم نقل إلى مدرسته التي عند سوق الخواصين، وروي أن الدعاء عند قبره مستجاب، ويقال إنه دفن معه ثلاث شعرات من شعر لحيته صلى اللّه عليه وسلم، فينبغي لمن زاره أن يقصد زيارة شىء منه صلى اللّه عليه وسلم. وقبره رضي الله عنه يُزَار، ويتبرك به كل مار، فيقول: قبر نور الدين الشهيد.
قَالَ العِمَادُ فِي (البَرْقِ الشَّامِيِّ): أَكْثَر نُوْر الدِّيْنِ عَام مَوْته مِنَ البِرّ وَالأَوقَاف وَعمَارَة المـَسَاجِد.اهـ
قَالَ ابْنُ وَاصِلٍ: كَانَ مِنْ أَقوَى النَّاس قَلْبًا وَبدنًا، لَمْ يُرَ عَلَى ظهر فَرَس أَحَد أَشدَّ مِنْهُ، كَأَنَّمَا خلق عَلَيْهِ لاَ يَتحرك، وَكَانَ يَقُوْلُ: طَالـمَا تَعرضتُ لِلشَّهَادَة، فَلَمْ أُدْرِكْهَا. قُلْتُ: قَدْ أَدْركهَا عَلَى فِرَاشه، وَعَلَى أَلسنَة النَّاس: نُوْر الدِّيْنِ الشَّهِيْد.اهـ
وَتَمَلَّكَ بَعْدَهُ ابْنُهُ الملك الصَّالِحُ أَشْهُرًا، وَسلَّم دِمَشْق إِلَى السُّلْطَانِ صَلاَحِ الدِّيْنِ، وَتَحَوَّلَ إِلَى حَلَبَ، فَدَامَ صَاحِبُهَا تِسْع سِنِيْنَ، وَمَاتَ بِالقُوْلَنْجِ، وَلَهُ عِشْرُوْنَ سَنَةً، وَكَانَ شَابًّا دَيِّنًا رَحِمَهُ اللهُ.
وفي لسان العرب: والخُناقُ والخُناقيَّةُ: داء أَو ريح يأْخذ الناس والدوابّ في الحُلوق ويعتري الخيل أَيضًا وقد يأْخذ الطير في رؤوسها وحُلُقها.اهـ
وفي القاموس المحيط: القُولَنْجُ، وقَدْ تُكْسَرُ لامُهُ، أو هو مكسورُ اللامِ، ويُفْتَحُ القافُ ويُضَمُّ: مَرَضٌ مِعَوِيُّ مُؤْلِمٌ، يَعْسُرُ معه خُروجُ الثُّفْلِ والرِّيحِ.اهـ