قَوَاعِدُ مُهِمَّةٌ
لِخَادِمِ عِلْمِ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ
الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَرِىِّ
الْمَعْرُوفِ بِالْحَبَشِىِّ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ
الْمُتَوَفَّى سَنَةَ 1429 ه
الطَّبْعَةُ الرَّابِعَةُ 2010
مُقَدِّمَةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَصَلَوَاتُ اللَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ وَالْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى ءَالِهِ وَصَحَابَتِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ.
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الأَمَانَةَ فِى الْعِلْمِ أَهَمُّ مِنَ الأَمَانَةِ فِى الْمَالِ فَيَنْبَغِى لِلإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاطًا فِى كَلامِهِ وَيَنْبَغِى أَنْ يَعْمَلَ بِمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا «الْعِلْمُ ثَلاثَةٌ كِتَابٌ نَاطِقٌ وَسُنَّةٌ مَاضِيَةٌ وَلا أَدْرِى» [حَسَّنَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِىُّ وَأخرَجَهُ الطَّبَرانِىُّ فِى الْمُعجَمِ الأَوسَطِ] يُرِيدُ بِالْكِتَابِ النَّاطِقِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَبِالسُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ الْحَدِيثَ الثَّابِتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِقَوْلِهِ لا أَدْرِى أَنْ يُجِيبَ بِذَلِكَ حَيْثُ لا يَعْلَمُ وَيَتَجَنَّبَ الْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَعَلَيْكُمْ بِفَهْمِ السُّؤَالِ عَلَى وَجْهِهِ وَعَدَمِ الِاسْتِعْجَالِ فِى الْجَوَابِ قَبْلَ فَهْمِ السُّؤَالِ كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهِ عَنْهُمَا «أَفْهِمُونِى مَا تَقُولُونَ وَافْهَمُوا عَنِّى مَا أَقُولُ» اهـ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ.
وَعَلَيْكُمْ بِكَلِمَةٍ مَنْ عَمِلَ بِهَا أَحْسَنَ الإِفَادَةَ أَلا وَهِىَ «زَيْنُ الْعِلْمِ الْحِلْمُ».
هَذَا وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَصَائِبِ فِى الْكَلامِ فِى أُمُورِ الدِّينِ تَأْتِى مِنْ تَجَاوُزِ الشَّخْصِ حَدَّهُ فَيُفْتِى بِلا عِلْمٍ فِى مَسَائِلَ جَانِبِيَّةٍ فِى أَثْنَاءِ تَدْرِيسِهِ لَيْسَتْ مِنْ أَصْلِ الْكِتَابِ الَّذِى يُدَرِّسُهُ وَهَذَا خَطَرٌ كَبِيرٌ فَلَوْ سَأَلَهُ الطَّالِبُ فَلا يُجِبْ فِى الْمَسَائِلِ الْجَانِبِيَّةِ الَّتِى لَمْ يَجِدْ فِيهَا نَقْلًا بَلْ لِيَقُلْ لا أَدْرِى فَيَكُونُ سَلِمَ لِنَفْسِهِ وَسَلِمَ الطَّالِبُ وَلا يَنْظُرِ الْمُدَرِّسُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُجِبْ فِى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْجَانِبِيَّةِ يَسْتَضْعِفُهُ الطَّالِبُ الَّذِى يُدَرِّسُهُ.
ثُمَّ إِنَّ مِنَ الْمُهمِّ أَنْ يَسْتَحْضِرَ الْمُدَرِّسُ أَوَّلَ مَا يَبْدَأُ بِالتَّدْرِيسِ أَنَّ مُرَادَهُ إِفَادَةُ النَّاسِ بِأَمْرِ دِينِهِمْ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لا أَنْ يُقَالَ عَنْهُ قَوِىٌّ فِى الْعِلْمِ فَإِذَا اسْتَحْضَرَ هَذِهِ النِّيَّةَ أَوَّلَ الدَّرْسِ يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لا أَدْرِى فِيمَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ نَقْلٌ.
وَمِنَ الْمُهِمِّ أَيْضًا التَّفْكِيرُ فِى حَالِ الَّذِى يَدْرُسُ عَلَى الْمُدَرِّسِ وَمَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبَتِهِ هَلِ الْعِبَارَةُ الَّتِى يَذْكُرُهَا فِى أَثْنَاءِ دَرْسِهِ يَفْهَمُ الْحَاضِرُونَ مَعْنَاهَا كَمَا يَنْبَغِى أَوْ لا يَفْهَمُونَ مَا يَفْهَمُهُ هُوَ وَيُرِيدُهُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ.
قَالَ الإِمَامُ عَلِىٌّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» اهـ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ [فِى صَحِيحِهِ فِى كِتَابِ الْعِلْمِ].
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ ق ﴿مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ بَيَّنَتِ الآيَةُ أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ يَتَلَفَّظُ بِهِ الْمَرْءُ يَكْتُبُهُ الْمَلَكَانِ رَقِيبٌ وَعَتِيدٌ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا اللَّفْظُ خَيْرًا أَمْ شَرًّا أَمْ مُبَاحًا.
وَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الإِنْسَانَ يُحَاسَبُ عَلَى نُطْقِهِ فَإِنْ نَطَقَ بِالشَّرِّ جُوزِىَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَطَقَ بِالْخَيْرِ كَانَ لَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا تَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فِى حَالِ الِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ إِكْرَاهٍ وَعَمْدًا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ لِسَانٍ مَعَ كَوْنِهِ عَاقِلًا غَيْرَ مَجْنُونٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنَ الإِسْلامِ [وَيُنَاسِبُ أَنْ نَذْكُرَ هُنَا حُكْمَ رِدَّةِ الصَّبِىِّ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَوْلُودَ مِنْ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مِنْ أَبٍ مُسْلِمٍ وَزَوْجَةٍ كِتَابِيَّةٍ يُحْكَمُ لَهُ بِالإِسْلامِ بِالتَّبَعِيَّةِ فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ وَالِدَيْهِ الْمُسْلِمَيْنِ أَوْ أَبِيهِ الْمُسْلِمِ فَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ فِى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ صَدَرَ مِنْهُ كُفْرٌ وَلا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ، فَهَذَا إِنْ حَصَلَ مِنْهُ كُفْرٌ اعْتِقَادِىٌّ أَوْ لَفْظِىٌّ أَوْ فِعْلِىٌّ يُقَالُ إِنَّهُ كَفَرَ لَكِنَّهُ لا يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ بَلْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيَّةِ لا تَصِحُّ رِدَّةُ الصَّبِىِّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّدَّةِ. قَالَ النَّوَوِيُّ فِى الْمِنْهَاجِ (ص/131) وَلا تَصِحُّ رِدَّةُ صَبِىٍّ وَمَجْنُونٍ اهـ قَالَ فِى مُغْنِى الْمُحْتَاجِ الشَّرْحُ وَيُعْتَبَرُ فِيمَنْ يَصِيرُ مُرْتَدًّا بِشَىْءٍ مِمَّا مَرَّ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا وَحِينَئِذٍ لا تَصِحُّ رِدَّةُ الصَّبِىِّ وَلَوْ مُمَيِّزًا وَلا رِدَّةُ مَجْنُونٍ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمَا فَلا اعْتِدَادَ بِقَوْلِهِمَا وَاعْتِقَادِهِمَا. تَنْبِيهٌ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمُ الرِّدَّةِ وَإِلَّا فَالرِّدَّةُ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ كَالزِّنَى فَكَيْفَ يُوصَفُ بِالصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا اهـ أَىْ أَنَّ الِاعْتِقَادَ أَوِ اللَّفْظَ أَوِ الْفِعْلَ الْكُفْرِىَّ الصَّادِرَ مِنَ الطِّفْلِ الْمُمَيِّزِ يُوصَفُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ وَلَكِنْ لا تُجْرَى عَلَى هَذَا الطِّفْلِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ. وَقَوْلُهُ مُكَلَّفًا مُخْتَارًا يُفِيدُ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ سَبْقَ لِسَانٍ وَلا بِسَبَبِ الإِكْرَاهِ اهـ وَقَوْلُهُ فَالرِّدَّةُ فِعْلُ مَعْصِيَةٍ كَالزِّنَى لَيْسَ مَعْنَاهُ مُسَاوَاةَ الْكُفْرِ بِالزِّنَى بَلْ أَنَّ كِلاهُمَا مَعْصِيَةٌ اهـ وَلَوْ أَقْلَعَ الصَّبِىُّ عَنِ الْكُفْرِ الَّذِى ارْتَكَبَهُ وَكَرِهَهُ وَلَمْ يَنْوِ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ وَبَلَغَ عَلَى الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ يَكُونُ قَدْ بَلَغَ مُسْلِمًا وَلَوْ لَمْ يَتَشَهَّدْ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِخِلافِ مَنْ بَلَغَ وَهُوَ عَلَى الْكُفْرِ كَأَنْ بَلَغَ مُحِبًّا لِلْكُفْرِ أَوْ نَاوِيًا الْوُقُوعَ فِيهِ. عَلَى أَنَّ وَلِىَّ الطِّفْلِ الْمُسْلِمِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَى طِفْلَهُ عَنِ الْكُفْرِ إِذَا صَدَرَ مِنْهُ وَلا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلإِسْلامِ إِنْ كَانَ الطِّفْلُ بِحَيْثُ يَفْهَمُ ذَلِكَ وَيُحَذِّرَهُ مِنَ الرِّدَّةِ وَيُعَلِّمَهُ كَيْفَ يَرْجِعُ الْمُرْتَدُّ إِلَى الإِسْلامِ وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِىِّ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَينِ مَعَ ذَلِكَ هَكَذا أَفتَى شَيخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُهُ عِندَ الِاستِفتَاءِ. تَنْبِيهٌ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لا تَصِحُّ رِدَّةُ الصَّبِىِّ لا يَعْنِى أَنَّهُ تَصِحُّ مِنْهُ الصَّلاةُ لِأَنَّنَا لا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِأَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ وَلَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ الْكُفْرَ بَلْ لا بُدَّ أَنْ يُقلِعَ عَنِ الْكُفْرِ لِتَصِحَّ مِنْهُ الصَّلاةُ وَلَو لَمْ يَتَشَهَّدْ قَبْلَهَا فَإِنْ لَمْ يَفعَلْ لَمْ تَصِحَّ صَلاتُهُ وَلا الْقُدْوَةُ بِهِ فَإِنَّ مَنْ لا يَعرِفُ اللَّهَ وَلا يُعَظِّمُهُ تَعَالَى لا تَصِحُّ مِنْهُ عِبَادةٌ لَهُ سُبحَانَهُ. هَذَا مَذْهَبُ السَّادَةِ الشَّافِعِيَّةِ وَأَمَّا السَّادَةُ الْحَنَفِيَّةُ فَقَالُوا تَصِحُّ رِدَّةُ الصَّبِىِّ الْعَاقِلِ أَىِ الْمُمَيِّزِ وَلَكِنْ لا يَقتُلُهُ الإِمَامُ قَبلَ البُلُوغِ وَكَذَلِكَ يَصِحُّ إِسلامُهُ اهـ. وَأَمَّا وَلَدُ الْمُرْتَدِّ فَقَدْ جَمَعَ أَطْرَافَ الْكَلامِ فِى حُكْمِهِ الْحَافِظُ أَبُو زُرْعَةَ الْعِرَاقِىُّ فِى نُكَتِهِ عَلَى الْكُتُبِ الثَّلاثَةِ وَخُلاصَتُهُ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ مُسلِمٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ كَافِرٌ أَصلِىٌّ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ مُرْتَدٌّ وَرَجَّحَ الشَّيخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِىُّ أَنَّهُ مُسلِمٌ وَعَلَى تَرجِيحِهِ مَشَى شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ فِى بُغْيَةِ الطَّالِبِ لَهُ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ].
وَقَدْ قَسَّمَ الْعُلَمَاءُ الْكُفْرَ إِلَى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ كُفْرٌ اعْتِقَادِىٌّ وَكُفْرٌ فِعْلِىٌّ وَكُفْرٌ لَفْظِىٌّ وَوَضَعُوا قَوَاعِدَ يُعْرَفُ بِهَا مَا يُخْرِجُ مِنَ الأَقْوَالِ أَوِ الأَفْعَالِ أَوِ الِاعْتِقَادَاتِ عَنِ الإِسْلامِ.