المقالة الرابعة : قوله بالجلوس في حق الله تعالى
أما قوله بالجلوس في حق الله تعالى فهو ثابت عنه وإن نفاه بعض أتباعه لما استبشعوا ذلك، ذكر ذلك في كتابه منهاج السنة النبوية [1] فقال ما نصه: “ثم إن جمهور أهل السنة يقولون إنه ينزل ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه وحماد بن زيد وغيرهما ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته اهـ. وهذه فرية على أهل السنة ولا يستطيع أن ياتي بعبارة لأحد منهم فهذا محض تقوّل على الأئمة كما تقوّل في مسئلة زيارة قبور الأنياء والاولياء للدعاء عندها رجاء الإجابة، وتعامى عما أطبق عليه السلف والخلف من قصد القبور رجاء الإجابة من الله.
وقال في كتابه شرح حديث النزول [2] ما نصه: “والقول الثالث –وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها- أنه لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه” اهـ.
وأما عبارته في فتاويه فإنها صريحة في إثباته الجلوس لله فقال فيه ما نصه [3]: فقد حدّث العلماء المرضيّون وأولياؤه المقربون أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسه ربه على العرش معه اهـ.
وقد نقل عنه هذه العقيدة أبو حيان الأندلسي النحوي المفسر المقرئ في تفسيره المسمى بالنهر قال: “وقرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرنا، وهو بخطه سماه كتاب العرش: إن الله يجلس على الكرسي وقد أخلى منه مكانًا يُقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحيَّلَ عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق البارنباري، وكان أظهر أنه داعية له حتى أخذه منه وقرأنا ذلك فيه” [4] اهـ.
ونقل ابن حيان هذا كان قد حُذف من النسخة المطبوعة القديمة، ولكن النسخة الخطية تثبته. وسبب حذفه من النسخة المطبوعة ما قاله الزاهد الكوثري في تعليقه على السيف [5]، قال: “وقد أخبرني مصحح طبعه بمطبعة السعادة أنه استفظعها جدًا فحذفها عند الطبع لئلا يستغلها أعداء الدين، ورجاني أن أسجل ذلك هنا استدراكًا لما كان منه ونصيحة للمسلمين” اهـ.
فلينظر العقلاء إلى تخبط ابن تيمية حيث يقول مرة إنه جالس على العرش ومرة إنه جالس على الكرسي، وقد ثبت في الحديث أن الكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في أرض فلاة فكيف ساغ لعقله.
ويبطل ذلك كلام علي بن الحسين زين العابدين: “سبحانك لا تُحسُّ ولا تُمسُّ ولا تُجسُّ” [6].
وأما ما هو مذكور في نسخ الإبانة الموجودة اليوم مع نسبتها إلى أبي الحسن الأشعري من هذه العبارة وهذه هي بحروفها: “ومن دعاء أهل الإسلام جميعًا إذا هم رغبوا إلى الله تعالى بالامر النازل بهم يقولون: يا ساكن العرش، ومن حلفهم جميعًا قولهم: لا والذي احتجب بسبع سموات”، فهو كذب ظاهر تعمّد مفتريه على الأشعري نسبة ذلك إليه، لأن الوافع يكذب ذلك فإن هاتين العبارتين لم ينقلا عن إمام ولا من عالم أنه قال ذلك في دعائه أو حلفه بل ولا عن عوام المسلمين.
فما أوقح هذا الذي نسب إليه هذا الكلام لا يستحي من الله ولا من المسلمين، فهذا الكتاب لا يجوز الاعتماد عليه لأن كل نسخة فيها هذا الكلام وما أشبهه فهي مدسوسة على الإمام أبي الحسن، والإمام أبو الحسن من أشهر من عُلم بنفي التحيز عن الله، وقد صرح بمنع قول إن الله بمكان كذا، وإن الله بمكان واحد أو في جميع الأمكنة، وهذا الذي توارد عليه أصحابنا الذين تلقوا عنه عقيدة أهل السنة والذين تلقوا عنهم وهلم جرًا.
ونذكر في ختام هذه المقالة نص الفقهاء الحنفيين من الفتاوى الهندية في تكفير مثبت المكان لله عز وجل قالوا [7]: يكفر بإثبات المكان لله تعالى فلو قال: لا محل خال من الله يكفر ولو قال: الله تعالى في السماء فإن قصد به حكاية ما جاء فيه ظاهر الاخبار لا يكفر، وإن أراد به المكان يكفر، وإن لم تكن له نية يكفر عند الأكثر وهو الاصح وعليه الفتوى، ويكفر بقوله الله تعالى جلس للإنصاف اهـ.
الهوامش:
[1] انظر المنهاج [1/262].
[2] انظر شرح حديث النزول [ص/66].
[3] انظر فتاويه [4/374].
[4] انظر النهر الماد، تفسير ءاية الكرسي.
[5] انظر السيف الصقيل [ص/85].
[6] انظر إتحاف السادة المتقين لمرتضى الزبيدي [4/380].
[7] انظر الفتاوى الهندية [2/259].