الأحد ديسمبر 22, 2024

 

المقالة الرابعة زعمه (أي ابن تيمية) أن الله يتكلم بحرفٍ وصوتٍ وأنه يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء

ومن جملة افتراءات ابن تيمية على أئمة الحديث وأهل السُّنة والجماعة نقله عنهم أن الله متكلم بصوت نوعه قديم أي يحدث في ذات الله شيئا بعد شىء قال في كتابه رسالة في صفة الكلام[(519)] ما نصه: «وحينئذٍ فكلامه قديم مع أنه يتكلم بمشيئته وقدرته وإن قيل إنه ينادي ويتكلم بصوت ولا يلزم من ذلك قدم صوت معين، وإذا كان قد تكلم بالتوراة والقرءان والإنجيل بمشيئته وقدرته لم يمتنع أن يتكلم بالباء قبل السين، وإن كان نوع الباء والسين قديمًا لم يستلزم أن يكون الباء المعينة والسين المعينة قديمة لما علم من الفرق بين النوع والعين» ا هـ.

وقال في موضع[(520)] ءاخر منه: «وقال الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سمّاه الفصول في الأصول: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرءان كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فهو كافر، والقرءان حمله جبريل عليه السلام مسموعًا من الله والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) وهو الذى نتلوه نحن مقروء بألسنتنا وفي ما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومقروءًا وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ا هـ.

وقال في المنهاج[(521)] «وسابعها قول من يقول إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء بكلام يقوم به وهو متكلم بصوت يسمع وإن نوع الكلام قديم وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديمًا وهذا هو المأثور عن أئمة الحديث والسُّنة وبالجملة أهل السُّنة والجماعة أهل الحديث» اهـ.

وقال في الموافقة ما نصه[(522)]: «وإذا قال السلف والأئمة إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء فقد أثبتوا أنه لم يتجدد له كونه متكلمًا، بل نفس تكلمه بمشيئته قديم وإن كان يتكلم شيئا بعد شىء، فتعاقب الكلام لا يقتضي حدوث نوعه إلا إذا وجب تناهي المقدورات المرادات» اهـ.

ثم قال فيه ما نصه[(523)]: «فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له صف لنا كلام ربك فقال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم، قالوا: فشبهه، قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله» اهـ.

وقال في الموافقة ما نصه[(524)]: «وحينئذ فيكون الحق هو القول الآخر وهو أنه لم يزل متكلمًا بحروف متعاقبة لا مجتمعة» اهـ.

وقال في فتاويه ما نصه[(525)]: «فعلم أن قدمه عنده أنه لم يزل إذا شاء تكلم وإذا شاء سكت، لم يتجدد له وصف القدرة على الكلام التي هي صفة كمال، كما لم يتجدد له وصف القدرة على المغفرة، وإن كان الكمال هو أن يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء» اهـ.

وقال فيه أيضا ما نصّه[(526)]: «وفي الصحيح: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات كجر السلسلة على الصفوان»، فقوله: «إذا تكلم الله بالوحي سمع» يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه، وذلك ينفي كونه أزليًا، وأيضا فما يكون كجر السلسلة على الصفا، يكون شيئا بعد شىء والمسبوق بغيره لا يكون أزليًا» اهـ.

وقال أيضًا ما نصه[(527)]: «وجمهور المسلمين يقولون: إن القرءان العربي كلام الله، وقد تكلـم الله به بحرف وصوت، فقالوا: إن الحروف والأصوات قديمة الأعيان، أو الحروف بلا أصوات، وإن الباء والسين والميم مع تعاقبها في ذاتها فهي أزلية الأعيان لم تزل ولا تزال كـما بسطت الكلام على أقوال الناس في القرءان في موضع ءاخر» اهـ.

وقال في مجموعة تفسير ما نصه[(528)]: «وقولهم: «إن المحدَث يفتقر إلى إحداث وهلم جرا» هذا يستلزم التسلسل في الآثار مثل كونه متكلمًا بكلام بعد كلام، وكلمات الله لا نهآية لها، وأن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء، وهذا قول أئمة السنة، وهو الحق الذي يدل عليه النقل والعقل» اهـ.

أقول: فلا يغتر مطالع كتبه بنسبة هذا (الرأي الفاسد إلى أئمة أهل السنة وذلك دأبه أن ينسب رأيه الذي يراه ويهواه إلى أئمة أهل السُّنة، وليعلم الناظر في مؤلفاته أن هذا تلبيس وتمويه محض يريد أن يروجه على ضعفاء العقول الذين لا يوفقون بين العقل والنقل، وقد قال الموفقون من أهل الحديث وغيرهم إن ما يحيله العقل فلا يصح أن يكون هو شرع الله كما قال ذلك الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي: إن الشرع لا يأتي إلا بمجوزات العقول، وبهذا يردّ الخبر الصحيح الإسناد أي إذا لم يقبل التأويل كما قاله علماء المصطلح في بيان ما يعلم به كون الحديث موضوعًا، وأيّدوا ذلك بأن العقل شاهد الشرع فكيف يرد الشرع بما يكذبه شاهده.

فمن قال: إن الله يتكلم بصوت، وقال: إنه صوت أزلي أبدي ليس فيه تعاقب الحروف فلا يُكَفَّر إن كان نيته كما يقول، وإلا فهو كافر كسائر المشبهة. وأما أحاديث الصوت فليس فيها ما يحتج به في العقائد، وقد ورد حديث مختلف في بعض رواته وهو عبد الله بن محمد بن عقيل[(529)]، روى حديثه البخاري[(530)] بصيغة التمريض، قال: ويُذكر، وفيه: (فينادى بصوت فيسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ، أنا الملك أنا الديّان»، وإنما ذكره البخاري بصيغة التمريض من أجل راويه هذا، قال الحافظ ابن حجر[(531)]: «ونظر البخاري أدق من أن يعترض عليه بمثل هذا فإنه حيث ذكر الارتحال فقط جزم به لأنّ الإسناد حسن وقد اعتضد، وحيث ذكر طرفًا من المتن لم يجزم به لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طريق مختلف – فيها ولو اعتضدت» ا. هـ. أي لا يكفي ذلك في مسائل الاعتقاد وإن كان البخاري ذكر أوله في كتاب العلم[(532)] بصيغة الجزم لأنه ليس – فيه ذكر الصوت، إنما فيه ذكر رحيل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيْس من المدينة إلى مصر.

والحديث الآخر[(533)] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): «يقول الله يوم القيامة: يا ءادم، فيقول: لبيك وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار»، هذا اللفظ رواه رواة البخاري على وجهين، بعضهم رواه بكسر الدال وبعضهم رواه بفتح الدال.

قال الحافظ ابن حجر[(534)]: «ووقع فينادي مضبوطًا للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور، فإن قرينة قوله: إن الله يأمرك، تدل ظاهرًا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك» اهـ. وهذا الحديث رواه البخاري موصولاً مسندًا، لكنه ليس صريحًا في إثبات الصوت صفة لله فلا حجة فيه لذلك للصوتية. قال الحافظ ابن حجر[(535)]: «قال البيهقي: اختلف الحفاظ في الاحتجاج بروايات ابن عقيل لسوء حفظه، ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي غير حديثه، فإن كان ثابتا فإنه يرجع إلى غيره في حديث ابن مسعود[(536)] وفي حديث أبي هريرة أن الملائكة يسمعون عند حصول الوحي صوتًا، فيحتمل أن يكون الصوت للسماء أو للملك الآتي بالوحي أو لأجنحة الملائكة، وإذا احتمل ذلك لم يكن نصًّا في المسألة، وأشار – يعني البيهقي – في موضع ءاخر إلى أن الراوي أراد فينادي نداء فعبر عنه بصوت» انتهى.

قال الكوثري في مقالاته[(537)] ما نصه: «ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث» اهـ.

أقول: وكذا قال البيهقي في الأسماء والصفات[(538)] فليس فيها ما يصح الاحتجاج به لإثبات الصفات لأن حديث الصفات لا يقبل إلا أن يكون رواته كلهم متفقًا على توثيقهم، وهذه الروايات المذكورة في فتح الباري في كتاب التوحيد ليست على هذا الشرط الذي لا بدّ من حصوله لأحاديث الصفات كما ذكره صاحب الفتح في كتاب العلم. لكنه خالف في موضع بما أورده في كتاب التوحيد من قوله: بعد صحة الأحاديث يتعين القول بإثبات الصوت له ويؤول على أنه صوت لا يستلزم المخارج.

ثم قال الكوثري: «وقد أفاض الحافظ أبو الحسن المقدسي شيخ المنذري في رسالة خاصة في تبيين بطلان الروايات في ذلك زيادة على ما يوجبه الدليل العقلي القاضي بتنزيه الله عن حلول الحوادث فيه سبحانه، وإن أجاز ذلك الشيخ الحراني[(539)] تبعا لابن ملكا اليهودي الفيلسوف المتمسلم، حتى اجترأ على أن يزعم أن اللفظ حادث شخصًا قديم نوعًا، يعني أن اللفظ صادر منه تعالى بالحرف والصوت فيكون حادثا حتمًا، لكن ما من لفظ إلا وقبله لفظ صدر منه إلى ما لا أول له فيكون قديمًا بالنوع، ويكون قدمه بهذا الاعتبار في نظر هذا المخرف، تعالى الله عن إفك الأفّاكين، ولم يدر المسكين بطلان القول بحلول الحوادث في الله جل شأنه وأن القول بحوادث لا أوّل لها هذيان، لأن الحركة انتقال من حالة إلى حالة، فهي تقتضي بحسب ماهيتها كونها مسبوقة بالغير، والأزل ينافي كونه مسبوقا بالغير، فوجب أن يكون الجمع بينهما محالا، ولأنه لا وجود للنوع إلا في ضمن أفراده، فادعاء قدم النوع مع الاعتراف بحدوث الأفراد يكون ظاهر البطلان. وقد أجاد الرد عليه العلاّمة قاسم في كلامه على المسايرة». ا.هـ.

قلت: وقد ذكر الفقيه المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي ورجم المعتدي أثناء ترجمة الحافظ ناصر السنة أبي الحسن علي بن أبي المكارم المقدسي المالكي ما نصه[(540)]: «كان صحيح الاعتقاد مخالفا للطائفة التي تزعم أنها أثرية، صنف كتابه المعروف بكتاب الأصوات أظهر فيه تضعيف رواة أحاديث الأصوات وأوهاهم، وحكى الشيخ تقي الدين شرف الحفاظ عن والده مجد الدين قال بأنه بلغ رتبة المجتهدين»! اهـ.

فلا يصحُّ حمل ما ورد في النصّ من النداء المضافِ إلى الله تعالى في حديث «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت…» على معنى خروج الصوت من الله، فتمسُّك المشبهة بالظاهر لاعتقاد ذلك تمويه لا يروج إلا عند سُخفاء العقول الذين حُرموا منفعة العقل الذي جعل الشرع له اعتبارًا، وهل عُرِفت المعجزة أنها دليل على صحة نبوة من أتى بها من الأنبياء إلا بالعقل؟

وقال – أي الكوثري – في تعليقه على السيف الصقيل ما نصه[(541)]: «وحديث جابر المعلق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من حديث أبي سعيد ما يدل على أن المنادي غير الله حيث يقول (… فينادى بصوت إن الله يأمرك…» فيكون الإسناد مجازيًا، على أن الناظم يعني ابن زفيل وهو ابن قيم الجوزية. ساق في «حادي الأرواح «بطريق الدارقطني حديثا فيه: «يبعث الله يوم القيامة مناديًا بصوت….» وهذا نص من النبي (صلى الله عليه وسلم) على أن الإسناد في الحديث السابق مجازي، وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين، وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث الصوت فليراجع ثمة» اهـ.

وهناك حديث ءاخر[(542)]: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئًا»، ورواه أبو داود[(543)] بلفظ: «سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفوان»، وهذا قد يحتج به المشبهة، وليس لهم فيه حجة لأن الصوت خارجٌ من السماء، فالحديث فسر الحديث بأن الصوت للسماء، فتبين أن قول الحافظ ابن حجر في موضع من الشرح: إن إسناد الصوت إلى الله ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة فيه نظر فليُتأمل.

قال الشيباني في شرح الطحاوية[(544)] ما نصه: «والحرف والصوت مخلوق، خلق الله تعالى ليحصل به التفاهم والتخاطب لحاجة العباد إلى ذلك أي الحروف والأصوات، والبارئ سبحانه وتعالى وكلامه مستغن عن ذلك أي عن الحروف والأصوات، وهو معنى قوله: «ومن وصف الله تعالى بمعنى من معاني البشر فقد كفر» اهـ.

فإذا قال قائل إن بعض اللغويين قال: النداء الصوت، قلنا ليس مراد من قال ذلك أن النداء لا يكون في لغة العرب في جميع الموارد إلا بالصوت، وإنما المراد أنه في غالب الاستعمال يكون بالصوت، وقد قال ءاخرون من اللغويين: النداء طلب الإقبالِ، فليعلم المغفلون الآن ما جهلوه من أن قول السلف عند ذكر هذه الآيات والأحاديث المتشابهة بلا كيف معناه ليس على ما المعنى الظاهر المتبادر من صفات المخلوقين، ولو كان يصح أن يكون المجيء وفي قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ… *} [سورة الفجر] ، المجيء المعهود من الخلق، فقال الإمام أحمد في هذه الآية: {وَجَاءَ رَبُّكَ… *} إنما جاءت قدرته.

قال القرطبي في التذكرة ما نصه[(545)]: فصل: قوله في الحديث: «فيناديهم بصوت»: استدل به من قال بالحرف والصوت وأن الله يتكلم بذلك، تعالى عما يقول المجسمون والجاحدون علوًا كبيرًا، إنما يُحمل النداء المضاف إلى الله تعالى على نداء بعض الملائكة المقربين بإذن الله تعالى وأمره، ومثل ذلك سائغ في الكلام غير مستنكر أن يقول القائل: نادى الأمير، وبلغني نداء الأمير، كما قال تعالى: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ… *} [سورة الزخرف] ، وإنما المراد نادى المنادي عن أمره، وأصدر نداءه عن إذنه، وهو كقولهم أيضًا قتل الأمير فلانًا، وضرب فلانًا، وليس المراد توليَه لهذه الأفعال وتصديَهُ لهذه الأعمال، ولكن المقصود صدورها عن أمره. وقد ورد في صحيح الأحاديث أن الملائكة ينادون على رؤوس الأشهاد فيخاطبون أهل التقى والرشاد: ألا إن فلان ابن فلان كما تقدم.

ومثله ما جاء في حديث النزول مفسرًا في ما أخرجه النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأبي سعيد قالا: قال رسول الله: «إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا. يقول: هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى صححه أبو محمد عبد الحق، وكل حديث اشتمل على ذكر الصوت أو النداء فهذا التأويل فيه، وأن ذلك من باب حذف المضاف، والدليل على ذلك ما ثبت من قِدَم كلام الله تعالى على ما هو مذكور في كتب الديانات.

فإن قال بعض الأغبياء: لا وجه لحمل الحديث على ما ذكرتموه فإن فيه: «أنا الديّان»، وليس يصدر هذا الكلام حقًّا وصدقًا إلا من رب العالمين؟ قيل له: إن الملَكَ إذا كان يقول عن الله تعالى ويُنْبِىءُ عنه فالحكم يرجع إلى الله رب العالمين، والدليل عليه أن الواحد منا إذا تلا قول الله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ… *} [سورة طه] ، فليس يرجع إلى القارئ وإنما القارئ ذاكر لكلام الله تعالى ودالُّ عليه بأصواته وهذا بَيّنٌ)» اهـ.

قلت: وهذا له أيضًا دليل قوي في الصحيح[(546)] في حديث المعراج الذي ذكر فيه تخفيف الخمسين صلاة إلى خمس قوله (صلى الله عليه وسلم): «فلما جاوزت ناداني منادٍ: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي»، فما أراد رسول الله بقوله: «ناداني» إلا المَلَك. فإذا ثبت هذا النداء من المَلَك مبلغًا عن الله فلا يمتنع أن ينادي المَلَك بتلك الجمل الثلاث: (هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى»، فبطل استنكار أن يكون هذا اللفظ من المَلَك في حديث النزول، فأين تذهب المشبهة.

قال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح لمع الأدلة للجويني ما نصه[(547)]: «وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني زورت في نفسي كلاما».

الطرف الثالث: إذا أطلق الكلام على المعنى القائم بالنفس وعلى الألفاظ الدالة عليه فهل هو حقيقة فيهما معًا أو حقيقة في اللفظ مجاز في القائم بالنفس أو بالعكس اختلفوا في ذلك، فنقل عن الشيخ أبي الحسن قولان أحدهما: إنه حقيقة في المعنى القائم بالنفس مجاز في العبارات من مجاز إطلاق الدليل على المدلول، والقول الثاني: إنه حقيقة فيهما لاستعماله فيهما جميعًا. والأصل في الإطلاق الحقيقة وصار غيره إلى أنه حقيقة في العبارات لتبادرها إلى الفهم عند الإطلاق وعدم القرائن، ومجاز في المعنى القائم بالنفس لخفائه ولا يبعد أن يكون حقيقة لغوية في المعنى القائم بالنفس، ومجازا في الألفاظ» اهـ.

ثم قال أيضا ما نصه[(548)]: «الفرقة الثانية: وهم الكرّامية زعموا أن البارئ تعالى تقوم به الأقوال المركبة من الحروف والأصوات، قالوا: ولا يكون قائلاً بها وإنما هو قابل للقابلية، وفسروا القائلية بالقدرة على القول، وكذلك أثبتوا له مشيئة قديمةً وإراداتٍ حادثة تقوم به، قالوا: وإذا أراد الله تعالى إحداث محدَثٍ في الوجود خلق بذاته كافًا ونونًا وإرادة يوجِب بها ما هو خارج عن ذاته أخذًا من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [سورة يس] ، وما ذكروه من قيام الحوادث بذاته يلزم منه حدوثه، فإن كل ما قبل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث حادث، وأما الآية فهي إشارة إلى سرعة وقوع المراد فعبر عن القصد إلى الإيقاع بالأمر، وعن الوقوع بصورة الامتثال» اهـ.

وتبع ابن تيمية الكرامية في ذلك في قوله إن الله تقوم به كلمات تحدث في ذاته من وقت بعده وقت وهكذا على الاستمرار، يقول: فكلامه تعالى قديم النوع حادث الأفراد كما قالت الكرامية، وينسب هذا المذهب الردىء الذي أخذه من الكرامية إلى أئمة أهل الحديث، وأئمة أهل الحديث على خلاف ما يدعيه وما يقول، فإن معتقدهم أن ذات الله تعالى لا تحدث فيه صفة تتجدد من وقت إلى وقت، تتجدد في مرور الأوقات، ويكفي في ذلك ما ذكره الحافظ الطحاوي الشهير بقوله «ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر»، ناسبًا ذلك إلى معتقد أبي حنيفة وصاحبيه ومن كان في تلك العصور من الأئمة، لأنه ألف عقيدته هذه المشهورة لبيان ما عليه أهل السنة وليس لبيان ما هو معتقده الخاص.

وأما ما احتج به ابن تيمية موهمًا أن أئمة الحديث على ذلك فإنما هو قول بعض المشبهة من الحنابلة وغيرهم، وليس هؤلاء الذين يعتمد عليهم من أصحاب المنزلة العالية في الحديث لأنه يعتمد على مثل أبي إسماعيل الهروي السجزي وعثمان بن سعيد الدارمي، وأما ما يذكره عن ابن المبارك فهو- غير ثابت إسنادًا، وقد نص أبو حنيفة رضي الله عنه على أن الله تعالى متكلم بكلام ليس حرفًا ولا صوتًا، وكل الحفاظ المنتسبين إلى مذهبه على هذا، وكذا الحفاظ المشاهير المنتسبون إلى الشافعي على هذا، وكذلك حفاظ المالكية ومتقدمو الحنابلة، فكيف يتجرأ ابن تيمية على نسبة هذا إلى أئمة الحديث موهمًا أن هذا مما أجمعوا عليه، وكثيرًا ما ينقل اتفاق العلماء على أشياء انفرد هو بها.

ويكفي أهل السنة دليلاً على أن الله تعالى لا يتكلم بالحرف والصوت قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *} [سورة التكوير] ، يعني أن القرءان الذي هو اللفظ المنزل مقروء جبريل ليس مقروء الله ولو كان اللفظ المنزل هو الصفة القائمة بذات الله لكان جبريل متصفا بصفة الله وهذا محال لأن صفات الخالق لا يجوز أن تقوم بالمخلوق، والى هذا أشار الطحاوي في عقيدته بقوله: «وأن القرءان كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا»، والمراد بقوله: «بلا كيفية قولا، نفي أن يكون الله تعالى يتكلم بالحرف والصوت كما يتكلم العباد لأنه هو الذي نفاه بقوله «بلا كيفية»، وإلا فلو كان الله قرأ القرءان على جبريل بالحرف والصوت لم يقل «بلا كيفية» لأن الحروف كيفيات، سبحان الله الذي يقفل قلوب من شاء من عباده عن فهم الحق.

وأما قول الطحاوي: «منه بدا»، فليس معناه أن الله أحدثه في ذاته بعد أن لم يكن يتكلم به، إنما معناه منزل من عنده، أي نزل به جبريل بأمر الله.

وأما قول الله تعالى: {…مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ… *} [سورة لقمان] ، فالجمع ليس لأن كلام الله حروف متعاقبة، إنما ذكر بالجمع في الآية للتعظيم أي لتعظيم كلامه كما قال البيهقي في الأسماء والصفات[(549)] مع كونه في الحقيقة واحدًا لا تعدد فيه، شامل لكل متعلقاته من الواجب والجائز والمستحيل، لأن الكلام معناه الإخبار والذِّكر، ولا يُقاس صفة من صفات الله بصفات غيره، فمن قاس كلام الله الأزلي على كلام العباد فقد شبهه بخلقه. ومنشأ ضلالة المشبهة أنهم قاسوا ذاته الذي ليس حجمًا وجسمًا بذوات الخلق فأثبتوا له الحيز والشكل، وقاسوا صفاته بصفات خلقه فجعلوها حادثة وهذا يشهد عليهم بأنهم لم يفهموا قول الله: {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} .

فائدة جليلة: الدليل على أن كلام الله ليس حرفا ولا صوتا ولا لغة ما ثبت أن الله تعالى يكلم كل فرد من أفراد العباد يوم القيامة ويفرغ من حسابهم في وقت قصير، فلو كان الله تبارك وتعالى يكلمهم بصوت وحرف لم يكن حسابه لعباده سريعًا، والله تبارك وتعالى وصف نفسه بأنه سريع الحساب.

ولو كان كلام الله تعالى بحرف وأصوات لكان أبطأ الحاسبين، وهذا ضد الآية: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *} [سورة الانعام] ، فـلا يتحقق معنى أسرع الحاسبين إلا على مذهب أهل السنة أن الله متكلم بكلام أزلي بغير حرف ولا صوت.

وذلك لأن عدد الجن والإنس كثير لا يحصيهم إلا الله، ومن الجن من يعيش ءالافًا من السنين، ومن الإنس من عاش ألف سنة فأكثر، فقد عاش ذو القرنين في ملكه ألفي عام كما قال الشاعر العربي:

 

الصّعبُ ذو القرنين أمسى ملكُه ألفيـن عامًـا ثـم صار رميـما

ومن الإنس أيضًا يأجوج ومأجوج كما ورد في الحديث أنهم من ولد ءادم، وورد أنهم أكثر أهل النار كما روى البخاري، وورد أنه لا يموت أحدهم حتى يلد ألفًا لصلبه كما رواه ابن حبان والنسائي[(550)]، وهؤلاء يحاسبهم الله على أقوالهم وأفعالهم واعتقاداتهم مع كثرتهم الكثيرة ويكلم كل فرد منهم تكليمًا بلا ترجمان، ويحاسبهم على عقائدهم ونواياهم وأفعالهم، فلا بد أن يأخذ حسابهم على موجب قول المشبهة الذين يقولون كلام الله حرف وصوت يتكلم من وقت إلى وقت ثم من وقت إلى وقت مدة واسعة جدًّا، فعلى موجب كلامهم يستغرق ذلك جملة مدة القيامة التي هي خمسون ألف سنة، وعلى قولهم هذا لم يكن الله أسرع الحاسبين وهو وصف نفسه بأنه أسرع الحاسبين كما تقدم، فقول المشبهة يؤدي إلى خلاف القرءان وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال.

وأما أهل السنة فإنهم يقولون إن كلام الله ليس متجزئًا فيسمع الناس يوم القيامة كلامه الذي ليس بحرف وصوت وغير متجزئ في ساعة واحدة ويفهم كل واحد منهم ما شاء الله له أن يفهمه[(551)]، فيتحقق على ذلك أنه أسرع الحاسبين.

فائدة أخرى: قال الشيخ الإمام المتكلم ابن المعلم القرشي في كتابه نجم المهتدي[(552)] ما نصه: «قال الشيخ الإمام أبو علي الحسن بن عطاء في أثناء جواب عن سؤال وجه إليه سنة إحدى وثمانين وأربعمائة: الحروف مسبوق بعضها ببعض، والمسبوق لا يتقرر في العقول أنه قديم، فإن القديم لا ابتداء لوجوده وما من حرف وصوت إلا وله ابتداء، وصفات البارئ جلّ جلاله قديمة لا ابتداء لوجودها، ومن تكلم بالحروف يترتب كلامه ومن ترتب كلامه يشغله كلام عن كلام، والله تبارك وتعالى لا يشغله كلام عن كلام، وهو سبحانه يحاسب الخلق يوم القيامة في ساعة واحدة، فدفعة واحدة يسمع كل واحد من كلامه خطابه إياه، ولو كان كلامه بحرف ما لم يتفرغ عن يا إبراهيم ولا يقدر أن يقول يا محمد فيكون الخلق محبوسين ينتظرون فراغه من واحد إلى واحد وهذا محال» اهـ.

قال الإمام الإسفراييني ذاكرًا عقيدة أهل السنة والجماعة ما نصه[(553)]: «وأن تعلم أن كلام الله تعالى ليس بحرف ولا صوت لأن الحرف والصوت يتضمنان جواز التقدم والتأخر، وذلك مستحيل على القديم سبحانه» اهـ.

وقال ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر ما نصه[(554)]: «ومبتدعة الحنابلة قالوا: كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته وهو قديم، وبالغ بعضهم جهلاً حتى قال: الجلد والقرطاس قديمان فضلاً عن الصحف، وهذا قول باطل بالضرورة ومكابرة للإحساس بتقدم الباء على السين في بسم الله ونحوه» اهـ.

وقال أيضا ما نصه[(555)]: «وقد ذكر المشايخ رحمهم الله تعالى أنه يقال: القرءان كلام الله غير مخلوق، ولا يقال القرءان غير مخلوق لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه بعض جهلة الحنابلة». انتهى كلام الإمام الهرري.

ـ[519]       انظر الكتاب (ص/ 51).

ـ[520]       انظر الكتاب (ص/ 54).

ـ[521]       انظر المنهاج (1/ 221).

ـ[522]   انظر الموافقة (2/ 143).

ـ[523]   انظر الموافقة (2/ 151).

ـ[524]   انظر الموافقة (4/ 107).

ـ[525]   مجموع فتاوى (6/ 160).

ـ[526]   مجموع فتاوى (6/ 234).

ـ[527]   مجموع فتاوى (5/ 556- 557).

ـ[528]   مجموعة تفسير ست سور (ص/ 311).

ـ[529]   راجع ترجمته في: الضعفاء الكبير (2/ 298)، الكامل (4/ 1446)، المجروحين (2/ 3)، سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني (ص/ 88)، أحرال الرّجال (ص/ 138)، الضعفاء والمتروكين لابن الجوزي (2/ 140)، الجرح والتعديل (5/ 153)،0 المغني (1/ 354)، تهذيب التهذيب (6/ 13)، الكاشف (2/113)، ميزان الاعتدال (3/ 484)، التاريخ الكبير (5/ 183).

ـ[530]   أخرجه عن ابن عقيل البخاري في الأدب المفرد: باب المعانقة، وأخرجه البخاري بي صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} الآية ذكره تعليقًا بغير إسناد.

ـ[531]   فتح الباري بثرح صحيح البخاري (1/ 174 – 175).

ـ[532]   أخرجه البخاري في صحيحه تعليقًا: كتاب العلم: باب الخروج في طلب العلم.

ـ[533]   أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: « « الآية.

ـ[534]   فتح الباري (13/ 460).

ـ[535]   أنظر فتح الباري (458/13).

ـ[536]   يعني به قوله: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السمـوات شيئا، فإذا فُزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحقّ، ونادوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق» – رواه البخاري – وفي حديث أبي هريرة عن النبي(صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كانه سلسلة على صفوان، قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحقّ وهو العلي الكبير» – رواه البخاري -.

ـ[537]   أنظر المقالات (ص/33).

ـ[538]   الأسماء والصفات (ص/273).

ـ[539]   يعني ابن تبمية، نسبة إلى حرّان.

ـ[540]   نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص/ 249)، مخطوط.

ـ[541]   أنظر الكتاب (ص/52).

ـ[542]   أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب قول الله تعالى: {وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، الآية.

ـ[543]   أخرجه أبو داود في سننه: كتاب السنة: باب في القرءان.

ـ[544]   شرح الطحاوية (ص/ 14)، مخطوط.

ـ[545]   التذكرة في أحوال الموتى وأمرر الاخرة (ص/ 338- 339).

ـ[546]   أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج.

ـ[547]   شرح لمع الأدلة (ص/ 71)، مخطوط.

ـ[548]   شرح لمع الأدلة (ص/ 64- 65)، مخطوط.

ـ[549]   الأسماء والصفات (ص/313).

ـ[550]   أنظر الإحسان (1/ 292)، والسنن الكبرى: كتاب التفسير: تفسير سورة الأنبياء.

ـ[551]   والمراد بها جزء قليل لا الساعة الزمنية المعتادة في محاورات الناس اليوم.

ـ[552]   نجم المهتدي ورجم المعتدي (ص/ 559)، مخطوط.

ـ[553]   التبصير في الدين (ص/ 102).

ـ[554]   شرح الفقه الأكبر (ص/29- 35).

ـ[555]   شرح الفقه الأكبر (ص/ 41).