الأحد ديسمبر 7, 2025

المقالة الثالثة : قوله بالحد في ذات الله
وأما إثباته الحد لله الذي نفاه الطحاوي في كتابه الذي سماه “ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني” صاحبيه أي وغيرهم عن الله تعالى بقوله: “تعالى عن الحدود والغايات”، فهو ما نصه أي ابن تيمية في كتابه الموافقة [1] فقال: “وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدُّوه بذلك إلا المريسي الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوا ذلك إذا أحزن الصبي شيء يرفع يده إلى ربه ويدعوه في السماء دون ما سواها وكل أحد بالله وبمكانه أعلم من الجهمية” اهـ.
والعجب من ابن تيمية في قوله المذكور الموهم أن المسلمين والكافرين اتفقوا وأجمعوا على أن الله له حد.
وقال في الموافقة عن أبي سعيد الدارمي ما نصه [2]: “والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه، ولكن يؤمن بالحد ويكل علم ذلك إلى الله، ولمكانه أيضًا حد وهو على عرشه فوق سماواته، فهذان حدان اثنان” اهـ، ووافقه على ذلك.
وأما ما نقله ابن تيمية عن بعض السلف أنه قال بالحد لله فهو لم يثبت إسنادًا ولو صحّ فهو نقل عن فرد من أتباع التابعين فليس فيه حجة وإنما الحجة بكلام الله وكلام الرسول الثابت الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم بإسناد خال عن مختلف فيه، كما شرط ذلك الحافظ ابن حجر وغيره لأحاديث الصفات. ومن أعجب العجاب قوله إن من نفى الحد عن الله من الأئمة يعني الحد المعلوم لنا، ومن أثبته يحمل كلامه على أنه أراد حدًّا يعلمه الله لا يعلمه غيره.
وأما استدلاله بما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لوالد عمران بن حصين: “يا حصين كم تعبد اليوم إلهًا؟ قال: سبعة، ستة في الارض وواحدًا في السماء، قال: “فأيّهم تُعِدّ لرغبتك ورهبتك”، قال: الذي في السماء. فهو لم يرد بإسناد يثبت به الحديث في الصفات فلا حجة في ذلك.
وكذلك استدلاله لإثبات الحد لله في السماء برفع الأيدي إليها للدعاء، فإنه لا يدل على أن الله متحيز في جهة فوق كما أن حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما استسقى وجّه يديه إلى أسفل لا يدل على أن الله في جهة تحت، فلا حجة في هذا ولا في هذا لإثبات جهة فوق ولا جهة تحت لله تعالى. ولفظ الحديث في صحيح مسلم [3] عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. وروى الحافظ نور الدين الهيثمي في موارد الظمآن [4] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء قائمًا يدعو يستسقي رافعًا يديه لا يجاوز بهما رأسه، مقبلًا بباطن كفيه إلى وجهه.

قال الكوثري في تعليقه على السيف الصقيل [5] ما نصه:

قال ابن تيمية في التأسيس في رد أساس التقديس المحفوظ في ظاهرية دمشق في ضمن المجلد رقم 25 من الكواكب الدراري وهذا الكتاب مخبأة ووكر لكتبهم في التجسيم وقد بينت ذلك فيما علقته على المَصعد الأحمد [ص31]: “فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع لم ينطق بأن الأجسام كلها محدثة وأن الله ليس بجسم ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين، فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة” اهـ.
وقال في موضع ءاخر منه: “قلتم ليس هو بجسم، ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شيء من شيء وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا يكون له قدر لا يتناهى… فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة. وفي ذلك عبر للمعتبر، وهل يتصور لمارق أن يكون أصرح من هذا بين قوم مسلمين اهـ.
هذا وقد ثبت في النقل عن أبي حنيفة وغيره حتى عمّن قبله وهو الإمام زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما في رسالته المشهورة بالصحيفة السجادية نفي الحدّ عن الله، فقد ذكر المحدث الحافظ محمد مرتضى الزبيدي شارح القاموس في شرح إحياء علوم الدين هذه الصحيفة بإسناد متصل منه إلى زين العابدين قوله: “أنت الله الذي لا تحدُّ فتكون محدودًا”. أي فكيف تكون محدودًا، وقوله: “لا يحيط به مكان”. فقوله فتكون بالنصب مرتبط بالنفي السابق ولا يجوز أن يقرأ برفع النون لأنه يلزم منه تناقض، وهذا كقوله تعالى: {لا يُقضى عليهم فيَمُوتوا} الآية [سورة فاطر/36]، فيموتوا منصوب بأن مضمرة.
وقول علي رضي الله عنه: أنت الله الذي لا تحدُّ صريح في أن الله تعالى لا يجوز عليه أن يكون محدودًا، ليس له حد في علمه ولا في علم الخلق. فأين ما ادّعاه من اتّفاق كلمة المسلمين على إثبات الحد لله، وبقية أئمة السلف على ما كانوا عليه من نفي الحد عن الله بدليل قول الطحاوي السابق، فإنه أورد ذلك على أنه مذهب السلف وهؤلاء الأربعة من أئمة السلف المشاهير وإنما خص أبا حنيفة وصاحبيه بالذكر لشهرتهم ولأنه سبك عبارة العقيدة على حسب أسلوبهم، وهو مذهب كل السلف كما أشعر بذلك قول الطحاوي: “ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة”. فقد بان تمويه ابن تيمية وانكشف وهذا دأبه، الرأي الذي يعجبه في الاعتقاد ينسبه إلى السلف ليوهم بذلك ضفعاء العقول والافهام أن مذهبه مذهب السلف، وهيهات هيهات.
الهوامش:

[1] انظر الكتاب [2/29].
[2] انظر الكتاب [2/29].
[3] انظر صحيح مسلم كتاب صلاة الاستسقاء.
[4] انظر الكتاب باب صلاة الاستسقاء.
[5] انظر السيف الصقيل [ص/40].