المعتزلة في أثناء القرن الأوّل بَدؤها، لكن ظهورُها بعد الثلاثمائة، ظهورُها الذي انتشرت فيه أكثر في الدنيا، وفي عصر المأمون، في أواخر المائة الثانية كانت المعتزلة، المأمون ساعدهم في شىء واحد وليس في كلّ شىء، ما شاركهم في عقائدهم إلاّ في مسألةٍ واحدة وهي القولُ بخلق القرءان، عذّبَ الناس لتنفيذ مقالةِ المعتزلة الفاسدة ومن جملة الذين عذّبهم المأمون الإمام أحمد بن حنبل، لكنه أي المأمون لم يوافقهم في سائر مسائلهم، لكن هذه المقالة الفاسدة راجَت عليه، أما ظهورهم الأكبر للمعتزلة بعد الثلاثمائة، الاعتزال ظهر ظهوراً تامًّا بعد انتهاء الثلاثمائة.
اسم المعتزلة ظهر عليهم أيّام الحسن البصري وسبَبُه أن رجلاً من رءوس المعتزلة القدماء كان يَحضُر مجلِسَ الإمام الحسنِ البصري رضي الله عنه فكانَ يتكلَّم بسَقَطٍ من القول فنَبذَهُ الحسَن البِصري وقال اعتزل عنا معناه أخرج من مجلسنا فلُقِـّبُوا بعد ذلك بالمعتزلة، أي الطائفة المعتزلة أي المنبوذة، ثم قبل هذا الظهور الأكبر لهم ضِمنَ أيّام السَّلف، أيّام مالك وقبله كان الأئمة يستذلُّونهم، كانوا مستذَلّين، حتّى إن الخليفة الرّاشد عمرَ بنِ عبد العزيز استتابَ أحدَ أكابر المعتزلة وهو غيلانُ بن مروان، استتابَه فأظهَر التّوبةَ فتركَهُ من القتل، كان قتله لولا أنّه أظهرَ التوبة، ثم بعد ذلك نقضَ ما أظهر أيّامَ عمرَ بنَ عبد العزيز أيامَ هشام، فقتلَهُ هِشَام لأنّه عادَ إلى الضلالة التي كان عليها، ضلالةِ الاعتزال، والإمامُ مالكٌ رضي الله عنه قال لما سُئِل عن نكاح المعتزلة (ولأمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مُشرِكةٍ) معناه أنّهم كفّار مشركون، دخلهم الإشراك حيثُ إنّهم أثبتوا لله خلقَ الأجسام وأثبتوا للعباد خلق الأعمال الحركات والسكنات جعلوها من خلق العباد.
قالوا الله يخلُق الأجسامَ فقط أما الحركاتُ والسكناتُ فليست من خَلقِه حتّى قالوا عن البَقّةِ إنّها هي تخلق حركاتِها وسكونَها، قالوا الله يخلقُ الأجسامَ فقط لا يخلقُ الحركات والسكنات، الإنسان يخلق حركاته وسكناته والبهائم كذلك، أشركوا بالله حيثُ إنّهم أثبتوا له خلقَ الأجسام ونَفَوا عنه خلقَ الأعمال فهذا شِركُهم، لذلك مالكٌ رضيَ الله عنهُ قال (وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أعْجَبَكُمْ) (سورة البقرة ءاية 221) وسَمَهُم مالك رضي الله عنه بالشّركِ وقال أيضاً ما رواهُ عنهُ الإمام أبو بكرِ بنُ المنذر (إنّ القدريّةَ يُستتابون) القدرية هي المعتزلة، يُستتابون أي يُطلبُ منهم الرجوعُ إلى الإسلام، (فإن تابوا وإلاّ قتِلُوا) هذا نَصُّ مالك، ليس بالأمر الهيّن.
أمس الأول عثرت على مقالة في مجلة يقول قائلُها (إنّ المعتزلة لهم مقام عظيم في الإسلام) وقائل هذه المقالة هو دكتور.
القاضي عبدُ الجباّر المعتزلي هو أنحَسُهم وأنجَسُهم، المعتزلة قبلَهُ ما كانوا يقولون العبد يخلُق كانوا يقولون العبدُ يجعَلُ، كانوا يُخفُونَ كلمةَ يخلُقُ إِنّما أظهَرَها هذا الزِنديق القاضي عبد الجبار هذا أخبَثُ المعتزلة، عمرُ بن عبد العزيز الخليفة الراشد استتاب زعيمهم الذي كان في أيّامه وهو غيلان بن مروان الدّمشقي معنى يستتيبُه معناه تب وإلاّ نقتلُكَ، تب إرجع إلى الإسلام، إرجع عن مقالتك هذه وادخل في الإسلام وإلا نقتُلك، فتظاهر بالرجوع فتركه، وإلا قتله الخليفة الراشد ثم الإمام الحسن البصري وهو كان بعد عمر بن عبد العزيز لكن المعتزلة في تلك القرون ما كانوا يصرّحون بلفظ يخلُق لكن يُفهَم من كلامهم، ما كانوا يصرّحون بلفظ يخلقُ العبدُ أعمالَه، كانوا يقولون العبدُ يَجعَلُ أعمالَه، يوجِد ويَجعل هكذا كانوا يقولون لكنّهم يُضمِرُونَ يخلُق، فاحذروا من مثل تلك المقالة التي فيها مدحٌ للمعتزلة فإنّها سمومٌ قَتّالة، هذه المقالة من السموم القَتّالة، تُخرِج الرجلَ من دينِه، هذا معنى كلام الإمام مالك، قال (وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ) (سورة البقرة ءاية 221) معناه حرام التزوّج من المعتزلة لأنّهم مشركون، الإمام مالك يصفُهم بأنهم مشركون ويحرّم زواجهم، ثم هذا الدكتور وأشباهُه يقولون هؤلاءِ رجال الإسلام خدموا الإسلام، ما هذا الكلام، بأيّ شىء خدموا الإسلام؟ بإشراكهم بالله؟ بجعلهم العبد خالقَ أعماله ولا تصرّف لله في أعمال العبد؟
بل جعلوا الله تعالى كما قال المثل أدخلتُه داري فأخرجني منها، المعنى أنهم قالوا الله تعالى كان قادراً على أن يخلُقَ حركاتِ العبد وسكونَه قبلَ أن يعطِيَ العَبدَ القُدرَة فلمّا أعطى العبدَ القُدرة صارَ عاجزاً عن خلق حركات العبد وسكونِه، هؤلاء يقال عنهم خدموا الإسلام؟ العياذ بالله يحرّفون، أيّ تأويل صحيح يتأتّى لهم؟ يحرّفون ولا يبالون، كما حرّفوا قولَه تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إلى رَبِـّهَا نَاظِرَةٌ) (سورة القيامة ءاية 22 – 23) قالوا إلى ربّها ناظرة أي تنتظر نِعمَة ربّها، حرّفوا ناظرة إلى الانتظار، وهي صريحةٌ في اللغة أنه إذا قيل نظَرَ فلانٌ إلى كذا معناه رآه، هذه الكلمة صريحة في اللغة، إلى ربّها ناظرة أي يرونَ ربَّهُم، الآيةُ صريحة لكن من خُبثِهم وفسَادِهم وضلالِهم حَرّفوا فقالوا ناظِرةٌ أي منتظرة.
وفي اللغة فرقٌ بين نظَرَ وبينَ أنظَرَ، يقال أنظَرَهُ إلى كذا، إلى سنة إلى سنتين إلى أكثر أو إلى أقل، أَنظَرَ إذا كان متعدِّياً، إذا كان رُبَاعيًّا، أمّا نَظَرَ إلى كذا فلا يأتي في لغةِ العربِ إلاّ للرّؤية.
س: فإن قيل إذا كان باستطاعتنا أن ننظر إلى الله جهرة يوم القيامة فمعنى ذلك أن الله يقع تحت حواسِـّنا فما الردّ على ذلك؟
الجواب: ردُّ أهلِ السّنةِ عليهم متين قالوا كما هو يرانا من غير أن يكونَ في جِهَةٍ ومَسَافَةٍ مِنّا كذلك يعطينا قدرةً على رؤيته من غير أن تَكون بيننا وبينه مسافة ومُقَابَلَة.
نقول لهم الله تعالى يُري عبادَهُ يعطيهم القُدرة على أن يَروا ذاتَهُ المقدَّس عن المكان والحَيِـّز والهيئةِ والشّكل بدون ذلك، من دون أن يكون له شكلٌ وهيئةٌ ومكان، يريهم بقدرته، يعطيهم القدرة، كما أنَّه تباركَ وتعالى يرَانَا من دونِ أن نكون منه في جهةٍ، من دون مقابلةٍ بيننا وبينه، يرانا من غير أن يكون بيننا وبينه مقابلة ولا مُدَابَرة ولا مكان ولا مسافة، كذلك هو يُرِينا يعطينا القدرة على رؤية ذاتِه المقدّس عن المكانِ والهيئةِ والشَّكل واللّون.
رؤيتُنا حادثة أما رؤية الله أزليّة، الله تعالى يرى كل هذه الموجودات برؤيةٍ أزلية أبديّة، أما نحن رؤيتُنا له بعد استقرارنا في الجنة رؤيةٌ حادثة، بهذه الجارحةِ نرى ذاتَهُ لكن بلا كيف ولا مكان، نراهُ بأَعيُننا لا كما نرى المخلوقين، نرى المخلوقين إما مُقَابَلَةً أي مُوَاجَهَةً وجهًا لوجه أو مُدابَرةً أي التفَاتًا إلى خلف نرى الشىء، أو التفاتًا إلى فوق أو التفاتًا إلى أسفل أو التفاتًا إلى اليمين أو التفاتًا إلى اليسار، هكذا نرى المخلوقَ، أمّا الله تعالى لا نراه هكذا، نراه بدون هذه الكيفِيّات ومن دون أن يكون في مكان، ومن دون مسافة بيننا وبينه نراه، أي نراه لا كما يُرى المخلوقون، هذه العبارة الموجزة، نراه لا كما نرى المخلوقين في الدّنيا والآخرة.
هو إنّما هلَكَ من هلَكَ بقياس الخالق على المخلوق، المعتزلة قاسوا الخالِقَ على المخلوق فقالوا لا يُرَى لأنّ الذي يُرَى لا بدَّ أن يكونَ في جهةٍ من الرّائي إمّا جهة فوق وإمّا جهة أَسفَل وإمّا جهة اليمين وإمّا جهة الشِـّمال وإمّا جهة الأمام وإما جهة الخلف، رؤية المخلوق هكذا تكون، فقالوا الله تعالى مُنَزَّهٌ عن المكان والهيئة والشّكل والمسَافة والجهات السّت، فكيفَ يُرَى، كيف نقول يُرى، لا يُرَى، قاسوا الخالقَ على المخلوق، ما عرفوا أنَّ الخالق ليس كالمخلوقين، فإذا أرَى عبادَه المؤمنين ذاتَهُ يُرِيهم من دونِ أن تكونَ رؤيَتهم لذاتِه كرؤيتهم للمخلوقين.
غاب عنهم هذا فهلَكُوا، قاسوا الخالق على المخلوق فهلكوا، كما أنّ الذين اعتقدوا في الله أنّ له مكاناً أن للّه مكاناً وشكلاً وهيئةً وحَيّزاً كذلك قاسُوا الخالقَ على المخلوق، اعتقدوا أنّه تعالى لا يَخلو من الجهة والمكان لأنّه موجود كما أنَّنا موجودون، نحن موجودون لا بدَّ لنَا من المكان والحيّز والشّكل والهيئة وكذلك هو موجود إذاً هو لا بد له من شكلٍ ومكان وحيّز، قاسوا الخالق على المخلوق فهَلَكُوا، هؤلاء يقال لهم المشبّهة، وأولئك المعتزلة ينزّهون الله عن المكان، ليسوا كهؤلاء، ينّزهون الله عن المكان والهيئة والشّكل واللون والحركة والسكون، عن كل صفاتِ البشر ينزِّهونهُ إلاّ أنّهم أَغفَلُوا هذا التنزيهَ في مسألتين، مسألة رؤية المؤمنين لربّهم يومَ القيامة، قالوا كيف يُرى، لو كان يُرى لكان له مكان وجهة ولذلك ننزِّهُه عن أن يُرَى في الآخرة وقالوا في مسألة خلق أفعال العباد، قالوا إنّه لا يستطيع أن يَخلق أفعال العباد بعد أن أعطاهم القدرة عليها، هنا نَسبوا إليه العجز وهناك نسَبوا إلى القول بإثبات رؤيته أنه يؤدّي إلى إثبات المكان له، هَلَكُوا في المسألتين.
س: إذاً فماذا يكون معنى قول الله تعالى (والتَفّت السَّاقُ بالسَّاق) (سورة القيامة ءاية 29)؟
ج: هذه الآية ما فيها إشكال، (والتفّت السّاقُ بالساق) ساقُ العباد بعضِهم ببعض، ساقُ العباد التفّت بعضُها ببعض هذا معناه، والتفّتِ الساقُ أي ساقُ المخلوقين بالسَّاق أي بسَاقِ الآخرينَ منهم من الزحمة.
س: سياق الآيات يدل على معناها أليس كذلك؟
الجواب: بلى، (إلى رَبِـّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ) (سورة القيامة ءاية 30).
إنما هناك الخلافُ بيننا وبين المشبّهة في تفسير قول الله تعالى (يَوْمَ يُكشَفُ عَنْ سَاقٍ ويُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ) (سورة القلم ءاية 42) هنا نحن نقول عن ساق أي عن أمرٍ شَدِيد، عن شِدّةٍ شديدة، يوم يُكشَفُ عن ساق أي عن أمرٍ شديد بالِغٍ في الصّعوبة، أي عن هَولٍ شديدٍ، أما هم هؤلاء المشبّهةُ يقولون عن ساق أي الله تعالى يكشِفُ عن ساقِه، هذا قول المشبّهة في هذه الآية، حرَّفوا هذه الآية إلى التشبيه، إلى عقيدَتِهم عقيدَةِ التّشبيه، أولئك الضالون جعلوا للّه صورةً هي ذاتُه.
س: قوله صلى الله عليه وسلم (إن الله خلق ءادم على صورته).
الضمير هنا إلى من يعود؟
ج: (على صورته) أي الصورة التي خلقها وجعلَها مُشرَّفَة مُكرَّمَة، إضافةُ المِلكِ والتّشريف لا إضافة الجُزئيّة.
الشىءُ يُضَافُ إلى الله إمّا بمعنى أنّه خَلقٌ له هو خلَقَهُ وكوَّنَه ويُضَافُ إلى الله تعالى على أنّه صِفتُه، إذا قلنا قُدرَة الله، عِلمُ الله، هذه الإضافة إضافة الصّفَةِ إلى الموصوف، أما إذا قُلنَا ناقةَ الله، بيتَ الله، هذه إضافَةُ المِلك والتشريف، الكَعبة نسمّيها بيتَ الله وكلّ مسجد نسميه بيتَ الله.
كل مسجد بُني لعبادة الله وحدَهُ نسمّيه بيتَ الله، فهذه الإضافة ليست إضافة الملابَسَة أي هو لا يسكن هذا البيت ويتصل به فهذه الإضافة إضافة المِلك والتشريف.
كذلك هذا الحديث (إنّ الله خلق ءادم على صورته) أي أن الله خلق تلك الصورة التي هي خَلقُه وتكوينُه ومشرّفة عنده مكرّمة، أي الصورة التي شرفّها وكرَّمَها وهو خالِقُها هذا معناه، هذا أحَدُ ما قيلَ في تفسير هذا الحديث، وهناك حديثٌ (إنّ الله خلَقَ ءادمَ على صورَةِ الرّحمن) على صورة الرّحمن معناه أي الصورة التي خلقها وشرّفها، إضافة المِلكِ والتّشريف يقال، كذلك إذا قيل عن عيسى (روحُ الله) معناهُ الروح التي خلقها الله وشرَّفها، وكذلك هذه الإضافة التي وردَت في القرءان بقوله (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (سورة الأنبياء ءاية 91) هذه الإضافة إضافَةُ المِلك والتّشريف، وكذلك قولُه تعالى في ءادم (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجدِينَ) (سورة الحجر ءاية 29) من روحي أي الرّوحِ التي خلقتُها وشرَّفتُها، روح ءادم ملك لله، خَلقٌ لله، مكرّمة مشرّفة، كذلك روح عيسى ملك لله خلقٌ لله مشرفة مكرمة، إضافةُ الملك والتّشريف.
الآن لا يوجد معتزلي يدين بعقيدة الاعتزال بكمالها، لكن بعض الناس أخذوا منهم بعضَ مقالاتهم، بعض الناس إلى الآن يقولون بمقالةٍ هي مقالَةٌ للمعتزلة وهي أنّ العبدَ يخلُق أفعالَ نفسِه الاختيارية ليسَ الاضطراريّة هذا ما كان يقولُه أحدٌ من السّلف من أصحاب رسول الله ولا التّابعين الذين اتبعوهم بإحسان، بل لما ظهرت المعتزلة بهذه المقالة استنكروها، هذا زعيمُ المعتزلةِ في عهد الأُمويّين غيلان بنُ مروان، هو من أهل دمشق كان، هذا لما ظهرت منه هذه الكلمة استُدعي إلى الخليفة الرّاشد عمرَ بنِ عبد العزيز فقال له ارجع عن مقالتك فأظهَر الرّجوع ثم في عهد هشام بن عبد الملك أظهر مقالتَه فقتلَه.
الإمام مالك قال عن المعتزلة يُستتابون فإن تابوا وإلاّ قُتِلُوا، مقالة المعتزلة مقالَةٌ منبُوذة ليس لها صِلةٌ بدين الله، دينُ الله هو أن الله تعالى خالقُ كلِّ شىء كما قال تعالى (هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (سورة فاطر ءاية 3) هذا دينُ الله أنه لا أحَد يخلُق عَيناً أي جِرمًا من الأجرام ولا حركةً ولا سكونًا إلا الله إنّما الحركات والسّكنات منها اختيارية ومنها اضطرارية فالاختيارية العَبدُ يكتَسِبُها اكتسابًا لا يخلُقُها بل الله يخلُقُها، أنا الآن إذا رفَعتُ يدِي أكون باختياري رفعتها، ما أنا خلقتُها لهذه الحركة، الله خلَقَها، إنّما أنا اكتسَبتُها اكتسابًا الله خلقها فيَّ، وهكذا كلامُنا الذي نتكلَّمُه بإرادةٍ وكذلك اللَّمحُ الذي نَلمَحُه والطَّرفُ الذي نَطرِفُه والخَطوَةُ التي نخطُوها وكذلك الحركاتُ الباطِنيَّة، الخواطر والنّوايا والإدرَاكات والعُلوم كلُّ ذلك الله خالقُه فينا نحن لا نخلقُه، هذا عقيدَةُ أهل الإسلام من الصّحابة إلى التّابعين وأتباَع التّابعين ومن تبعَهُم بإحسانٍ إلى عصرنا هذا، فهؤلاء المعتزلة خالفوا، قاموا ببدعةٍ مخالِفَةٍ منابِذةٍ لما كان عليه الصحابَةُ ومن اتبَعَهُم فاستنكر أهلُ العلم لمّا ظهَر أفرادٌ من هؤلاء، استنكروا أمرَهُم هذا، حتّى قال الإمام مالك لما سئِل هل يجوز نكاح القدريّة قال (وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أعْجَبَتْكُمْ ولَعَبدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أعْجَبكُمْ) (سورة البقرة ءاية 221) معناه هؤلاء مشركون أشركوا بالله لأنّهم جَعَلُوا الخَلقَ أي الاحداث من العدم مُشتَركاً بين الله وبينَ عبادِه، قالوا ما كانَ من الأجرام فهو خلقُ الله لا شريكَ له في ذلك أما ما كان من الحركات والسّكون والإدراكات والنّوايا الباطنيّة هذا من خلقِنَا نحن، الله تعالى ليس له تصَرُّفٌ في ذلك.
قال أحدهم: هل يكفر من ينسب للعبد خلق الأعمال جهلاً منه وهو لا يقصد بذلك جعل شريك لله؟
الجواب: نعم، لأنّ هذا أمرٌ يُدرَكُ بأدنى دليلٍ عقليٍّ، وذلك أن الإحداثَ من العدم إلى الوجود من خواصِّ الألوهيّة، من خواصِّ الربُوبيّة، العِلمُ بكلّ شىء من خواصّ الربوبيّة، لا أحدَ يعلم كلَّ شىء إلاّ الله، كذلك نفاذُ المشيئة في كل شىء من خواصِّ الألوهيّة، من خواصّ الربوبيّة، لا أحدَ سوى الله إرادتُه نافذَةٌ في كل شىء ولا أحد قادرٌ على كلّ شىء إلا الله ولا أحَدَ أزليٌّ أي لا ابتداء لوجوده إلاّ الله، هذه خواصُ الألوهيّة، العقلُ يدرِكُ ذلك بسهولة، فهذا العبدُ الذي نزلَ عن هذا المُستَوى فاعتقد في العباد أنّهم يخلُقُون أعمالَهُم فلا يَلُومَنَّ إلاّ نفسَه، يتشهد فيكون دخلَ في الإسلام.
مسألة الفرق بين العلم والمشيئة مهمة جدّاً، من أصول العقيدة هذا، الدلائل العقلية على أن العبدَ لا يخلق شيئاً حتّى من أعماله الاختيارية كثيرة، فالنفسُ التي انحطَّت إلى هذا الحَضِيض أي اعتقاد أن العبد يخلق هي أهلكَت نفسَها، هي ظلمت نفسها هي ضَرَّت نفسَها، أحدُنا يعلم أنه إذا شقَّ التفاحة لا يستطيع أن يُعِيدَها إلى ما كانت عليه، هذا دليلٌ على أنّ الشّقَّ ليسَ بخلقِه بل بخلق الله حصَل، هذا الشَّقُّ الذي هو حركةُ العبدِ خلقٌ لله ليس خلقًا للعبد، لو كان خلقًا للعبدِ لاستطاع أن يعيدها مُلتئِمةً كما كانت، ويقاس على ذلك أشياءُ كثيرة لا تُحصَى، هو الكفر بعضُه أشَدُّ من بَعضٍ لكن كلُّه مُنَافٍ للإسلام.