الأحد يونيو 30, 2024

الماتريدية والأشعرية شأنهم نصرة الحق

الحمد لله رب العلمين وصلى الله على سيدنا محمد وسلم وبعد، ليعلم أن الأشاعرة لخصوا عقيدة الرسول والصحابة، أغلب أهل السنة والجماعة هم أشاعرة، يعني يتبعون طريقة الإمام أبي الحسن الأشعري في نصرة هذا المذهب، وأهل السنة هم جمهور الأمة المحمدية وهم الصحابة ومن تبعهم في المعتقد أي أصول الاعتقاد وهي الأمور الستة المذكورة في حديث جبريل الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) وأفضل هؤلاء أهل القرون الثلاثة المرادون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) والقرن معناه مائة سنة كما رجح ذلك الحافظ أبو القاسم بن عساكر وغيره، وهم المرادون أيضًا بحديث الترمذي وغيره (أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) وفيه قوله (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) صححه الحاكم وقال الترمذي حسن صحيح، وهم المرادون أيضًا بالجماعة الواردة فيما رواه أبو داود من حديث معاوية (وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة) والجماعة هم السواد الأعظم ليس معناه صلاة الجماعة، كما يوضح ذلك حديث زيد بن ثابت ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال (ثلاث لا يُغَل عليهن قلب المؤمن، إخلاص العمل، والنصيحة لولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من وراءَهم) قال الحافظ ابن حجر حديث حسن.

الماتريدية والأشعرية شأنهم نصرة الحق:

واعلموا أن الله تعالى يقول في القرءان الكريم (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا)، لقد كان المسلمون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على طريقة واحدة لم يكن بينهم خلاف في العقيدة ثم ظهرت في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرقة الخوارج ثم ظهرت فيما بعد القدرية وهم المعتزلة وظهرت المرجئة، وفي أيام المأمون العباسي ظهر النجارية وغيرها من الفرق الضالة ثم حَدَثَ بعد مائتين وستين سنة انتشار بدعة المعتزلة وغيرهم فقيَّضَ الله تعالى إمامين جليلين أبا الحسن الأشعري وأبا منصور الماتريدي رضي الله عنهما فقاما بإيضاح عقيدة أهل السنة التي كان عليها الصحابة ومن تبعهم بإيراد أدلة نقلية وعقلية مع رد شبه المعتزلة وهم فرق عديدة بلغ عددهم عشرين فرقة، فقاما بالرد على كل هذه الفرق أَتَم القيام برد شبههم وإبطالها فنُسب إليهما أهل السنة، فصار يقال لأهل السنة أشعريون وماتريديون، ولا زال علماء الإسلام يردون على أهل البدع ليحذرهم الناس، ومن هؤلاء العلماء أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري الذي ولد بعد النصف الثاني من القرن الثالث الهجري وتوفي قبل منتصف القرن الرابع الهجري فقام هذا الإمام بتفنيد شبه أهل الزيغ فلم يسرف في التعطيل ولم يغل في التشبيه وألهمه الله نصرة السنة بحجج المنقول والمعقول، فأثبت لله سبحانه ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات ونفى عنه ما لا يليق بجلال الله تعالى.

فهو رحمه الله لم يبدع رأيًا ولا مذهبًا وإنما هو مقرر لمذاهب السلف مناضل عما كانت عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالانتساب إليه إنما هو باعتبار أنه عقد على طريق السلف نطاقًا وتمسك به وأقام الحجج والبراهين عليه فصار المقتدي به في ذلك، السالك سبيله في الدلائل يسمى أشعريًا، فمن هنا جاءت تسمية الأشاعرة نسبة لهذا الامام، وفي زمن هذا الامام أيضًا قام بنصرة أهل الحق الإمام أبو منصور محمد بن محمد الماتريدي نسبة إلى ماتريد وهي محلة بسمرقند فيما وراء النهر، فصار له أتباع يدافعون عن عقيدة أهل السنة ويكشفون انحراف المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، وعرف المنتسبون إليه باسم الماتريدية، فصنف أتباع الماتريدي والأشعري من بعدهما المئات من المجلدات في الرد على المخالفين للإسلام بالحجج الدامغة الكثيرة والمناظرات العديدة، ورفعوا لواء مذهب الأشعري في الخافقين (المشرق والمغرب).

وأبرزهم في نشره ثلاثة الأستاذ أبو بكر بن فورك وأبو اسحق الإسفراييني والقاضي الإمام أبو بكر الباقلاني فالأولان نشراه في المشرق والقاضي نشره في المشرق والمغرب، فما جاءت المائة الخامسة إلا والأمة الإسلامية أشعرية وماتريدية لم يشذ عنهما سوى نزر من المعتزلة وشرذمة من المشبهة وطائفة من الخوارج، فلا تجد عالمًا محققا أو فقيهًا مدققًا إلا وهو أشعري أو ماتريدي، وعقيدة الأشاعرة والماتريدية واحدة وهي الإيمان بأن الله عز وجل واحد لا شريك له موجود لا يشبه الموجودات لا يحويه المكان ولا يجري عليه زمان ولا يشبهه شىء، لا يحل في شىء ولا ينحل منه شىء، منزه عن الجلوس والجهة والجوارح والأعضاء ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.

ومن هؤلاء أمير المسلمين وكما لقب أمير دولة المرابطين القائد البطل الفطن المحارب الزاهد المقدام الذي وحد المسلمين وأخمد الفتن وبنى إمبراطورية المغرب الإسلامي الأندلسي قاهر الصليبيين عندما خان الصليب المسلمين وهجموا عليهم أذلهم القائد يوسف بن تاشفين في معركة الزلاقة التي لم ينساها الصليبيين الجبناء حتى هذه اللحظة، وقد عُرفَ كذلك بأمير المُلَثَّمين.
قالَ ابنُ خلكان في وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان (كان أميرُ المسلمين يوسف بن تاشفين حازمًا، سائسًا للأمور، ضابطًا لمصالح مملكته، مُؤْثِرًا لأهلِ العلمِ والدينِ، كثيرَ المشورةِ لهم، ومن أشهرِ العلماءِ المقرَّبين من السلطان يوسف بن تاشفين أبو بكر بن العربيّ المالكيّ الأشعريّ رحمه الله تعالى الذي نصّ في شرحه على سنن الترمذي على أنَّ الله موجود بلا مكان، فقال (نسبةُ البارِئ من الجهاتِ إلى فوق كنسبته إلى تحت، إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته) أي أنَّ اللهَ مُنَزَّهٌ عن الجهةِ فلا يسكنُ فوقَ العرشِ كما تقولُ المجسمة، ولا هو بجهةِ أسفل، لأنَّ اللهَ تعالى كانَ قبلَ الجهاتِ السِّت، ومَنْ استحالَ عليهِ الجهةُ استحالَ عليهِ المكانُ، فاللهُ تعالى لا يحُلُّ في شىءٍ ولا يشبهُ شيئًا، سبحانه وتعالى عما يقول الظّالمون علوًّا كبيرًا.

ومن هؤلاء اسم أدخل الرعب في قلوب ملوك أوروبا الصليبية حتي أتته نساء ملوكهم وأبناءهم يطلبن العفو والأمان، هو السلطان الكبير أبو يوسف يعقوب المنصور بن أبي يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي القيسي الكومي (ت 595 هـ) من أعظم وأبرز ملوك المغرب قاطبة وكان يعيد بشغفه بالجهاد وكثرة تعداد أفراد جيوشه وأهبته الحربية ذكرى أسلافه العظام من أمثال يوسف بن تاشفين وجده عبد المؤمن وأبوه يوسف المنصور وخلفه على عرش المغرب ولده الأمير أبو يعقوب وكان مثل أبيه معنياً بشئون الأندلس خبيراً بها، وكان السلطان يعقوب أحد أبرز سلاطين دولة الموحدين التي تأسست على يد ابن تومرت الأشعري صاحب كتاب العقيدة المرشدة (1) التي اشتهرت باسم عقيدة ابن عساكر، وجاء في هذه العقيدة قوله في حق الله تعالى (موجود قبل الخَلق ليس له قبلٌ ولا بعدٌ، ولا فوقٌ ولا تحتٌ، ولا يمينٌ ولا شمالٌ، ولا أمامٌ ولا خلفٌ، ولا كلٌ ولا بعضٌ، ولا يقال متى كان ولا أين كان ولا كيف كان، كان ولا مكان كوّن المكان ودبّر الزمان، لا يتقيّد بالزمان، ولا يتخصص بالمكان) وقد رفع السلطان يعقوب راية الجهاد، ومن أشهر معاركه معركة الأرك التي جرت بينه وبين الفرنجة بقيادة ملكهم الأذفونش وتؤكد المصادر التاريخية انتصار السلطان يعقوب انتصارا باهرا.

ومن هؤلاء السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي توفي في (سنة 589 هــ) وكان من الذين حملوا لواء الدين بصدق وهمة وكان رجلاً مجاهدًا تقيًا صالحًا علم الناس التوحيد مقتديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وعاملاً بقوله كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فأحسن التوجيه والتعليم متوكلاً على ربه عز وجل فأعزه الله ونصره، فلقد لقد كان السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله وجزاه عن المسلمين خيرًا، عالمًا من علماء أهل السنة يحفظ كتاب التنبيه وكتاب الحماسة في الفقه الشافعي وكان حافظًا للقرءان الكريم وكان زاهدًا يقوم الليل يصلي لله عز وجل ولم يكن منشغلاً بالشهوات والأموال وكان قد بنى المدارس لتعليم الناس علم التوحيد لتعليمهم تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق في ذاته وصفاته وأفعاله فإن ذلك هو أهم أمور الدين ولا يستهين بذلك إلا ذو قلب معكوس وفهم منحوس، ولقد كان في أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي عالم جليل يقال له محمد بن هبة المكي ألف عقيدة باسم صلاح الدين فأهداها إليه وفيها هذا الكلام الذي نحن نقرره أن الله تعالى سمعه ليس بجارحة وبصره ليس بجارحة وأن كلامه الذاتي ليس بحرف وصوتٍ، بل في هذا الكتاب تحذير من هؤلاء الذين يشبّهون الله بخلقه فيصفون كلامه بالحرف والصوت كما نحن نتكلم، وكان سيدنا صلاح الدين قرر تدريس هذه العقيدة في المدارس حتى للصبيان، ليس للكبار فقط، بل قرّر أيضًا أن تقرأ على المآذن بعد صلاة الصبح لينتفع الناس بها.

ومن الأشاعرة أيضًا السلطان محمدٌ الفاتح الماتريدي الذي كان ينزه الله تبارك وتعالى عن المكان والجهة والكيفية والكمية والحد ويعتقد جواز زيارة قبور الأنبياء والصالحين والتبرك بآثارهم والتوسل إلى الله بذواتهم الفاضلة شأنه في ذلك شأن الكثيرين من الملوك والأمراء كالسلطان صلاح الدين الأيوبي الذي أمر بتدريس العقيدة الأشعرية للأطفال في المدارس ليحصنهم من الزيغ والضلال وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السلطان حين قال (لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) رواه أحمد والحاكم.
وفتحت القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح وما امتداح النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه لفاتح القسطنطينية ولجيشه إلا بشرى عظيمة للأشاعرة الذي كان الفاتح منهم ويعتقد معتقدهم ويناضل عنه فالنبي مدح جيش الأشاعرة وأميره والنبي عليه الصلاة والسلام لا يمدح كافرًا أبدًا، فيجب الاعتناء بمعرفة عقيدة الفرقة الناجية الذين هم السواد الأعظم، وأفضل العلوم علم العقيدة لأنه يبين أصل العقيدة التي هي أصل الدين، وهذا العلم سماه أبو حنيفة الفقه الأكبر.

فيا طلاب الحق لا يُهَوِّلَنَّكُم قدح المشبهة المجسمة في هذا العلم بقولهم إنه علم الكلام المذموم لدى السلف، ولم يدروا أن علم الكلام المذموم هو ما ألفه المعتزلة على اختلاف فرقهم والمشبهة على اختلاف فرقهم من كرَّامِيَّةٍ وغيرها فإنهم قد افترقوا إلى عدة فرق بيّنها من ألفوا في بيان الفرق كالإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي.

(1) قول الإمام المهدي في تنزيه الله عن المكان والزمان، يقول إبن عرفة وهو من كبار علماء المغرب العربي وما أحسن قول الإمام المهدي أي ابن تومرت في عقيدته حيث قال (ولا يقال متى كان ولا أين كان ولا كيف كان، كان ولا مكان كوّن المكان ودبّر الزمان، لا يتقيّد بالزمان، ولا يتخصص بالمكان).