الإثنين مارس 17, 2025

الدَّرْسُ السَّابِعُ

اللَّهُ تَعَالَى لا يُوصَفُ بِالْحَدِّ

 

     الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَعْتَبِرُونَ مِنَ الْغَرِيبِ تَكْفِيرَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَهُ أَعْضَاءٌ أَوْ حَدٌّ وَهَذَا لَيْسَ شَيْئًا غَرِيبًا عَلَى عُلَمَاءِ الإِسْلامِ بَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى هَذَا أَنَّ الَّذِى يُشَبِّهُ اللَّهَ تَعَالَى بِإِثْبَاتِ أَعْضَاءٍ لَهُ أَوْ صِفَةِ جُلُوسٍ أَوِ التَّحَيُّزِ فِى جِهَةِ الْفَوْقِ أَوْ فِى غَيْرِهَا مِنَ الْجِهَاتِ لا يَكُونُ مُسْلِمًا لِأَنَّ قَوْلَهُ ضِدُّ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ [سُورَةَ الشُّورَى/11].

     اللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَنَا فِى هَذِهِ الآيَةِ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ التَّحَيُّزِ فِى الْمَكَانِ أَوْ فِى جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ أَوْ فِى جَمِيعِ الأَمَاكِنِ أَوْ فِى جَمِيعِ الْجِهَاتِ أَوْ فِى مَكَانٍ وَاحِدٍ أَوْ فِى جَمِيعِ الأَمْكِنَةِ. لَوْ كَانَ فِى جِهَةٍ خَاصَّةٍ كَالْعَرْشِ أَوْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ أَوْ فِى مَكَانٍ وَاحِدٍ أَوْ فِى جَمِيعِ الأَمَاكِنِ أَوْ كَانَ مُتَحَرِّكًا مَرَّةً وَسَاكِنًا مَرَّةً كَالإِنْسَانِ وَالْبَهَائِمِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْجِنِّ لَكَانَ لَهُ أَمْثَالٌ لا تُحْصَى. إِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ يُقَالُ لَهُ فِى الْمَخْلُوقِ شَىْءٌ لا يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ مَعَ أَنَّهُ شَىْءٌ وُجِدَ وَيَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [سُورَةَ الأَنْعَامِ/1] مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِى الأَزَلِ نُورٌ وَلا ظُلُمَاتٌ بَلْ خَلَقَ اللَّهُ بَعْضَ خَلْقِهِ ثُمَّ خَلَقَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. عَقْلُ الإِنْسَانِ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَصَوَّرَ كَيْفَ يَكُونُ وَقْتٌ لَيْسَ فِيهِ نُورٌ وَلا ظَلامٌ إِنَّمَا يَتَصَوَّرُ عَقْلُ الإِنْسَانِ وُجُودَ النُّورِ وَحْدَهُ أَوِ انْتِفَاءَهُ مَعَ وُجُودِ الظَّلامِ وَيَتَصَوَّرُ وُجُودَ الظَّلامِ وَحْدَهُ أَوِ انْتِفَاءَهُ مَعَ وُجُودِ النُّورِ، وُجُودُهُ فِى وَقْتٍ وَانْتِفَاءُهُ فِى وَقْتٍ هَذَا يَتَصَوَّرُهُ أَمَّا أَنْ يَتَصَوَّرَ انْتِفَاءَ النُّورِ وَالظَّلامِ فِى ءَانٍ فَلا يَسْتَطِيعُ عَقْلُ الإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا الإِيمَانُ بِهِ فَنَقُولُ لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ كَيْفَ يَصِحُّ وُجُودُ اللَّهِ بِلا حَرَكَةٍ وَلا سُكُونٍ وَلا جِهَةٍ نَقُولُ لَهُمْ كَمَا صَحَّ وُجُودُ وَقْتٍ لَيْسَ فِيهِ نُورٌ وَلا ظَلامٌ وَنَحْنُ عَاجِزُونَ عَنْ تَصَوُّرِهِ يَصِحُّ وُجُودُ اللَّهِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَلا حَرَكَةٍ وَلا سُكُونٍ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِىَّ وَالدَّلِيلَ النَّقْلِىَّ يَدُلَّانِ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كُنَّا لا نَسْتَطِيعُ تَصَوُّرَهُ.

     الْوَهَّابِيَّةُ يُهَوِّلُونَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَقُولُونَ كَيْفَ يَصِحُّ وُجُودُ اللَّهِ بِلا مَكَانٍ وَلا جِهَةٍ وَلا يَكُونُ مُتَحَرِّكًا مَرَّةً وَلا سَاكِنًا مَرَّةً فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّخْصُ الَّذِى يُخَاطِبُونَهُ بِهَذَا الْكَلامِ مُتَمَكِّنًا فِى الْعَقِيدَةِ يَنْقَلِبُ إِلَيْهِمْ فَيَقُولُ هَذَا لا يَصِحُّ بَلْ لَهُ مَكَانٌ وَهَذَا الْمَكَانُ هُوَ الْعَرْشُ فَيَكُونُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ قَدْ كَذَّبَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَخَالَفَ السَّلَفَ وَالْخَلَفَ. السَّلَفُ نَفَوْا عَنِ اللَّهِ الْحَدَّ، الشَّىْءُ الَّذِى لا حَدَّ لَهُ مَعْنَاهُ لَيْسَ مُتَحَيِّزًا فِى مَكَانٍ. الشَّىْءُ الَّذِى لا كَمِّيَّةَ لَهُ لا يَصِحُّ أَنْ يَتَحَيَّزَ فِى الْمَكَانِ. الْكَمِّيَّةُ الْقَلِيلَةُ وَالْكَمِّيَّةُ الْكَبِيرَةُ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ. الذَّرَّةُ وَحَبَّةُ الْخَرْدَلِ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُمَا عَلَى هَذِهِ الْكَمِّيَّةِ وَكَذَلِكَ الْعَرْشُ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ عَلَى تِلْكَ الْكَمِّيَّةِ، عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ الَّذِى هُوَ عَلَيْهِ، وَالإِنْسَانُ اللَّهُ خَلَقَهُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ طُولًا وَذِرَاعٍ عَرْضًا. الْعَرْشُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْجَدَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ لَيْسَ الْعَرْشُ أَوْجَدَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ فَالَّذِى خَلَقَ هَذِهِ الأَشْيَاءَ عَلَى تِلْكَ الْحُدُودِ لا يَكُونُ لَهُ حَدٌّ وَلا كَمِّيَّةٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حَدٌّ وَكَمِّيَّةٌ لَاحْتَاجَ لِمَنْ جَعَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ وَتِلْكَ الْكَمِّيَّةِ.

     نَحْنُ الْبَشَرُ جَائِزٌ عَقْلًا أَنْ نَكُونَ عَلَى حَدٍّ ءَاخَرَ كَالذَّرَّةِ لَكِنْ نَحْنُ وُجِدْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ لَيْسَ نَحْنُ أَوْجَدْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى ذَلِكَ الْحَدِّ بَلِ اللَّهُ جَعَلَنَا عَلَى هَذَا الْحَدِّ وَلَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ حَدٌّ لَكَانَ مُحْتَاجًا لِمَنْ جَعَلَهُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ.

     ثُمَّ مِنْ شَأْنِ الْعَالَمِ اخْتِلافُ الأَحْوَالِ عَلَيْهِ، هَذِهِ الأَرْضُ حَالُهَا فِى الصَّيْفِ غَيْرُ حَالِهَا فِى الشِّتَاءِ، وَالإِنْسَانُ وُجِدَ طِفْلًا صَغِيرًا لا يَمْشِى وَلا يَتَكَلَّمُ ثُمَّ وَصَلَ إِلَى حَدٍّ أَنَّهُ صَارَ يَمْشِى وَيَتَكَلَّمُ وَيُفَكِّرُ فَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ يَقْضِى بِأَنَّ كُلَّ شَىْءٍ يَتَحَوَّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ لَهُ مُحَوِّلٌ يُحَوِّلُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالَّذِى يُحَوِّلُهُ لا يَكُونُ مُتَحَوِّلًا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.

     عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُونَ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِمَحْدُودٍ قَالَ سَيِّدُنَا عَلِىٌّ ذَلِكَ وَقَالَ حَفِيدُهُ عَلِىٌّ زَيْنُ الْعَابِدِينَ الَّذِى كَانَ يُقَالُ لَهُ السَّجَّادُ لِكَثْرَةِ صَلاتِهِ، رُوِىَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّى فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ وَكَانَ بَهِىَّ الْمَنْظَرِ مَهِيبًا مِنَ التَّقْوَى لَيْسَ مِنْ أُبَّهَةِ الْمُلْكِ هُوَ أَيْضًا قَالَ عَنِ اللَّهِ لَيْسَ بِمَحْدُودٍ.

     لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مِسَاحَةٌ لا يَنْتَهِى إِلَيْهَا نَظَرُ النَّاسِ بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَمِّيَّةُ مَهْمَا صَغُرَتْ وَمَهْمَا كَبُرَتْ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ. لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ لَهُ حَدًّا لا يَنْتَهِى إِلَيْهِ فِكْرُ الإِنْسَانِ بَلِ الْمَعْنَى نَفْىُ الْكَمِّيَّةِ عَنْهُ بِالْمَرَّةِ. وَقَوْلُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ حَجْمَهُ كَبِيرٌ أَنَّهُ أَوْسَعُ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ إِنَّمَا مَعْنَاهُ هُوَ أَقْدَرُ مِنْ كُلِّ قَادِرٍ وَأَعْلَمُ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ. هَذَا مَعْنَى اللَّهُ أَكْبَرُ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَاسِعُ الْحَجْمِ. الْحَجْمُ لا يَكُونُ إِلَّا لِلْحَادِثِ أَىْ إِلَّا لِشَىْءٍ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ثُمَّ صَارَ مَوْجُودًا، هَذَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَمَّا الْمَوْجُودُ الَّذِى لَيْسَ لِوُجُودِهِ ابْتِدَاءٌ لَمْ يَسْبِقْهُ عَدَمٌ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ حَدٌّ لَكَانَ حَادِثًا أَحْدَثَهُ غَيْرُهُ أَىْ خَلَقَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مُحَالٌ بَاطِلٌ.