السبت أبريل 5, 2025

القسم الثالث: التحذير الشرعي من ألفاظ شنيعة شائعة على ألسنة الناس

 

قال الشعراني ما نصه [1]: “وقد حُبب لي أن أذكر لك طرفًا من ذلك هنا لتجتنب النطق به أو النظر فيه، فأقول وبالله التوفيق.

 

* مما يقع فيه كثير من الناس قولهم: “يا من يرانا ولا نراه” [2]، وقولهم: “يا ساكن هذه القبة الخضراء”، وقولهم: “سبحان من كان العلا مكانه” ونحو ذلك. ومثل ذلك لا يجوز التلفظ به لما يورث من الإيهام عند العوام وأن الله تعالى في مكان خاص.

 

وإن قال هذا القائل: أردتُ بقولي: “ولا نراه” عدم رؤيتنا له في الدنيا قلنا له: قد أطلقتَ القول والإطلاق في محل التفصيل خطأ، وقد أجمع أهل السنة على منع كل إطلاق لم ترد به الشريعة سواء كان في حق الله تعالى أو في حق أنبيائه أو في حق دينه، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري يقول: ما أطلق الشرع في حقه تعالى أو في حق أنبيائه أو في حق دينه أطلقناه وما منع منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع ألحقناه بالممنوع حتى يرد الإذن في إطلاقه انتهى.

 

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: ما لم يرد لنا فيه إذن ولا منع نظرنا فيه فإن أوهم ما يمتنع في حقه تعالى منعناه، وإن لم يوهم شيئًا من ذلك رددناه إلى البراءة الأصلية ولم يحكم فيه بمنع أو إباحة انتهى.

 

فقد انتفق الإمامان على منع كل إطلاق يوهم محظورًا في حق الله تعالى، وتبعهما العلماء على ذلك قاطبة وقد نقلوا فيه الإجماع.

 

فعُلمَ من هذه القاعدة أن كل من كان لا يُفرِّق بين ما يوهم إطلاقه محظورًا وبين غيره فلا يجوز له أن يُطلق في حق الله تعالى إلا ما ورد به التوقيف والإذن الشرعي حذرًا أن يقع فيما لا يجوز إطلاقه على الله تعالى فيأثم أو يكفر والعياذ بالله تعالى.

 

* ومما يقعون فيه أيضًا قولهم: “يا دليل الحائرين، يا دليل من ليس له دليل، يا دليل الدليل” ونحو ذلك، وكله لم يرد به شرع فلا ينبغي أن يقال.

 

* وكذلك من الخطإ قولهم: “يا من لا يُوصف ولا يُعرف” فإنه تعالى موصوف معروف من غير تكييف.

 

* ومما يقعون فيه أيضًا قولهم: “يا من هو على عرشه يرانا” لإيهامه الاستقرار، وإنما يقال: “يا من استوى على عرشه كما ينبغي لجلاله”. وقد أجمع أهل الحق على وجوب تأويل أحاديث الصفات كحديث [3]: “ينزل ربنا إلى السماء الدنيا”، وخالف في ذلك الكرامية المجسمة والحشوية والمشبهة فمنعوا تأويلها وحملوها على الوجه المستحيل في حقه تعالى من التشبيه والتكييف حتى إن بعضهم كان على المنبر فنزل درجًا منه وقال للناس: “ينزل ربكم عن كرسيه إلى سماء الدنيا كنزولي عن منبري هذا”، وهذا جهل ليس فوقه جهل، وكل هؤلاء محجوجون بالكتاب والسنة ودلائل العقول.

 

وإن تعددت وجوه الحمل لآيات الصفات وجب الأخذ بالوجه الراجح عند الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصارِ} [سورة الحشر/2]، ولقوله تعالى: {فبشِّرْ عبادِ* الذينَ يستمعونَ القولَ فيتبعونَ أحسنهُ} [سورة الزمر/17-18].

 

* ومما يمتنع شرعًا إطلاق بعضهم على الله تعالى: “الخمار والساقي وراهب الدير وصاحب الدير والقسيس وليلى ولبنى وسعدى وأسماء ودعد وهند والكنز الأكبر” ونحو ذلك.

 

* وكذلك لا يجوز إجماعًا إرادة ذاته تعالى بقول بعضهم:

 

أنا من أهوى ومن أهوى أنا *** نحن روحان حللنا بدنا

 

* وقول بعضهم:

 

تمازجت الحقائق بالمعاني *** فصرنا واحدًا روحًا ومعنى

 

فكل هذا وأمثاله لا يجوز عند أهل السنة والجماعة.

 

وقد سألت سيدي عليًّا الخواص عن التغزلات التي في كلام القوم هل مرادهم بها الله تعالى فقال: “لا إنما مرادهم بها الخلق ولكن يفهم الفاهم منها في حق الحق ما يبعثه عند سماعها على الحضور مع الحق” قال: “لأن أولياء الله تعالى أعرف الخلق بالله تعالى بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويُجلونَ الحق تعالى عن أن يجعلوه محلاً لتغزلاتهم فلذلك ضربوا الأمثال بالمحبين والمحبوبين من قيس ولبنى وغيلان ونحو ذلك”. انتهى فليُتأمل.

 

* ومما يحرم سماعه من الشعر ما يخطر في نحو قول المتنبي في محمد بن زريق:

 

لو كان ذو القرنين أعملَ رأيهُ *** لما أتى الظلمات صرن شموسا

أو كان لج البحر مثل يمينه *** ما انشق حتى جاز فيه موسى

أو كان للنيران ضوء جبينه *** عبدت فصار العالمون مجوسا

 

وقوله أيضًا:

 

أنا في أمة تداركها الله *** غريب كصالح في ثمود

 

فكل هذا وأمثاله يُفهِمُ التهاون بمعجزات الأنبياء فلا يجوز.

 

وأمثر ما يقع مثل ذلك في شعر المعري وأبي نواس بن هانئ، فليتحفظ المؤمن من سماه ذلك ويزجر من يتكلم به فإن الإجماع قد انعقد على أن سوى الأنبياء من البشر لا يبلغون مقام الأنبياء أبدًا، فكانت هذه الإشارات التي في الشعر خطأ بإجماع الأمة. وكان سبب توبة أبي العتاهية عن الشعر أنه أنشد مرة:

 

الله بيني وبين مولاتي *** أبدَت لي الصدَّ والملالات

 

فقيل له في المنام: “أما وجدت من تجعل بينك وبين امرأة في الحرام إلا الله تعالى” فاستيقظ وتاب فلم ينظم بعد ذلك بيتًا إلا في الزهد والترغيب في الطاعات.

 

* ومما ينبغي اجتنابه قولهم: “فلان حجة الله في أرضه على عباده” فإن ذلك خاص بمرتبة الرسل فلا يُطلق على غيرهم اللهم إلا أن يراد أنه كآحاد العباد من حيث إنهم كلهم حجة دالة على قدرة الله.

 

وعُلمَ من باب أولى وجوب اجتناب الألفاظ التي لا تليق إلا بالحق تبارك وتعالى كقول بعضهم في كتب المراسلات: “الأعظم، الأقرب، الأعلى” ونحو ذلك فإن معانيها لغة حيث أُطلقت خاصة بالحق تعالى، فإن قال قائلها: أردتُ الخلق قلنا له: قد تقدم أن الإطلاق في محل التفصيل خطأ وقد أوهم كلامك الإطلاق والعموم في الحق والخلق وذلك ممتنع.

 

* وكذلك مما ينبغي اجتنابه قول بعضهم: “ما في الوجود إلا الله”، وقولهم: “إن الله في قلوب العارفين” وإنما الصواب أن يقال: ما في الوجود في الأزل إلا الله، ومعرفة الله في قلوب العارفين”. انتهى كلام الشعراني.

 

ثم قال بعد أسطر منها ما نصه: “وكذلك مما ينبغي اجتنابه قولهم: “ما يسمع الله من ساكت” ويراد أنه لا يعلم الأسرار وهذا الإطلاق لا يجوز لمضادته لنحو قوله تعالى: {أمْ يحسبونَ أنَّا لا نسمعُ سِرَّهم ونجواهم بلى} [سورة الزخرف/80]، وقد قامت براهين العقول على أن الله تعالى يسمع كل موجود حتى حديث النفس في النفس [4]” اهـ.

 

* ثم قال: “وكذلك مما ينبغي اجتنابه قولهم: “قديم الأزمان” لأن الرب لا يتقيد بالزمان فهو كلام باطل”.

 

* وكذلك مما ينبغي اجتنابه قول بعضهم: “كل ما يفعله الله خير” لإيهامه نفي الشر في العالم وأن كل ما يكسبه العبد من المعاصي خير.

 

* وكذلك مما ينبغي اجتنابه قول بعضهم لأمير الجيش مثلاً: “لا تسافر حتى يطلع القمر”، فإن ذلك مثل قول بعضهم: “مُطرنا بنوء كذا” على حد سواء، وقد قال منجم مرة لعمر بن الخطاب: لا تقابل أعداءك حتى يطلع لك القمر فقال له عمر: وهو قمرهم أيضًا، أي كما يكون بطلوعه سعد [5] كذلك يكون لهم لأن طلوعه على الجيشين واحد.

 

* وكذلك مما ينبغي اجتنابه قول بعضهم إذا دخل على مريض: “الله يحمل عنك” لأنه لفظ موهم، وإنما الأدب أن يقال: “الله يدفع عنك أو يصرف”.

 

* وكذلك مما ينبغي اجتنابه قول بعضهم: “فلان يَطِّلِعُ على الغيب” لأنه يوهم باطلاً وإنما الأب أن يقال: “فلان له فراسة صادقة أو كشف أو اطلاع” فقط، لئلا يزاحم الرسل في مقام العلم والقطع فإنه ليس للأولياء إلا الظن الصادق الذي هو في اصطلاحهم عبارة عن الاعتقاد الصحيح الجازم المطابق للواقع فقط خلافًا لبعضهم، وهذا الظن هو الذي يسمونه إلهامًا وفتحًا وكشفًا.

 

* وكذلك مما ينبغي اجتنابه قول بعضهم: “باعك الله أو أقالك الله” إذا سئل في البيع أو الإقالة لأنه يوهم مذهب أهل الاتحاد وذلك كفر.

 

* وكذلك يجب اجتناب تصغير شئ من شعائر الله تعالى كقوله: “مُصيحف ومُسيجد ولويح” [6] ونحو ذلك لأنه كفر عند بعض العلماء.

 

* وكذلك ينبغي اجتناب تسمية الكتب المؤلفة أسماء تضاهي القرءان أو الوحي فإن ذلك غير جائز شرعًا كقول بعضهم عن مؤلفه “كتاب الإسراء والمعاريج” أو “مفاتيح الغيب” أو “الآيات البينات” لإيهامه مزاحمة النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء أو العروج إلى السماء، أو مشاركة الحق تعالى في علم الغيب” انتهى كلام الشعراني.

 

* ومما يجب التحذير منه ما شاع في بعض البلاد من تسمية أبنائهم بنحو هذا اللفظ “عثمان العبد الله” و”سعيد العبد الله” فإن هذا اللفظ فيه نسبة العبودية لله والله لا يوصف بالعبودية بل يوصف بالألوهية.

 

فإن قال هؤلاء الذين يسمون بهذه الألفاظ: “نحن لا نفهم منه أن فيه وصف الله بالعبودية أي العبدية إنما نفهم منه إضافة هذا العبد إلى الله ملكًا وخلقًا” قيل لهم: لكن اللفظ يعطي وصف الله بالعبدية بدخول أل في كلمة العبد ولفظ الجلالة فيه لفظ “أل” فيكون المعنى العبد الذي هو الله، وهذا لم يكن معروفًا في العرب القدماء لا بين المسلمين ولا بين الجاهلية، الجاهلية كانوا يسمون “عبد يغوث” و”عبد العزى” –ويغوث اسم صنم من أصنامهم والعزى اسم صنم أيضًا وهي مؤنثة لأنها جنية كانت تأوي إلى شجرة فيأتي الجاهليون ويقدسونها فقطعها الخالد بن الوليد وقتل الجنية التي كانت تأوي إليها- لأنهم كانوا عباد الأوثان فكانوا يضيفون العبد إلى صنم ولا يُعرف منهم اسم يسمون به العبد مضافًا إلى كلمة العبد مقرونًا بأل متبعًا بلفظ الجلالة.

 

وليس هذا مثل كلمة “فلان العابدُ الله” لأن أل هنا اسم موصول صلتها صفة صريح فهو لفظ العابد ثم أُتبع بلفظ الجلالة فيكون معناه فلان الذي يعبد الله، فلو سمى هؤلاء أولادهم “سعيدُ العابدُ الله” لم يكن به بأس لأن معناه هذا المولود الذي اسمه سعيد العابد الله يعبد الله.

 

أما كلمة “العبد” فليست في حكم “العابد” فلا تكون صلى لأل لأن صلة أل شرطها أن تكون صفة صريحة [7] قال ابن مالك في الألفية:

 

وصفةٌ صريحةٌ صلة أل *** وكونها بمُعَربِ الأفعالِ قَلْ

 

فلو سموا “سعيد عبدِ الله” لكان من باب الإضافة فلا محظور في ذلك لأنه ليس فيه وصف الله بالعبودية إنما فيه أن سعيدًا مضاف إلى عبد الله.

 

* ومما يجب التحذير منه ما شاع عند دندراوية بيروت، والدندراوية فرقة نسبوا إلى شيخ الطريقة وهو الشيخ أبو العباس الدندراوي، أما صاحب الطريقة الأصلية فلا نتكلم عليه إما على ما شاهدناه من دندراوية بيروت فإنهم يقولون كلمة صريحة في الكفر وهي: “اللهم صل على كل المخلوقات ومخلوقاتها وكل الكائنات وكائناتها إكرامًا لمن كان السبب في وجودها” فهؤلاء جعلوا للعباد مخلوقين وجعلوا للكائنات كائنات وهذا خلاف التوحيد لأن التوحيد هو أنه لا خالق إلا الله وما سوى الله مخلوق والله هو الخالق قال الله تعالى: {اللهُ خالقُ كل شئ} [سورة الرعد/16]، وقال: {هل من خالقٍ غيرُ الله} [سورة فاطر/3] ولعل هذه الكلمة الخبيثة من بعض أهل بيروت المنتسبين للطريقة الدندراوية.

 

* ومما يجب التحذير منه فرقة تنتسب إلى الطريقة الشاذلية يسمون “الشاذلية اليشرطية” نسبة إلى الشيخ علي نور الدين اليشرطي المغربي الأصل نزيل عكا في فلسطين، أما الشيخ علي نور الدين اليشرطي فقد أثنى عليه خليفته الشيخ العالم التقي الزاهد مفتى لبنان الشيخ مصطفى نجا الذي توفي سنة 1932ر في كتابه “كشف الأسرار لتنوير الأفكار”، وأثنى عليه غيره أيضًا.

 

فهذه الفرقة انحرفت عن طريقة الشيخ علي نور الدين وصاروا يعتقدون الحلول أي أن الله حال في الأشخاص الرجال والنساء وهذه من أبشع الكفر.

 

قال خليفته الشيخ مصطفى نجا ما نصه [8]: “ولقد قال غيرَ مرة: إني بريء في الدنيا وفي الآخرة من كل من يخالف الكتاب والسنة، ولما كنت في حضرته سأله بعض الحاضرين هل يجوز الإنكار على أحد من المريدين؟ فقال: نعم إذا تعدى حدود الشرع” اهـ.

 

وقال في موضع ءاخر ما نصه [9]: “وكتب إلى بعض إخواننا من أهل العلم والفضل خارج بيروت: بلغني أن فلانًا فسدت أحواله وخرج عن الميزان الشرعي فاعلموا وأعلِموا الجميع أنه مطرود من طريقتنا الشريفة هو وكل من وافقه على فساده وأفعاله المخلة بالشرع الشريف، وأوصيكم أن تزِنوا أحوال الفقراء على الكتاب والسنة وكل من رأيتم منه مخالفة فأنتم مأذونون بطرده، ولا تعطوا الطريقة إلا لمن وجدتم فيه الأهلية ورأيتموه متمسكًا بالشريعة الطاهرة المرضية. وكتب لي يقول: كل طريقة تخالف الكتاب والسنة فهي زندقة وباطلة” اهـ.

 

وقال الشيخ يوسف النبهاني في كتابه “جامع كرامات الأولياء” ما نصه [10]: “انتفع به قوم وتضرر ءاخرون ممن حادوا عن طريق السداد وجانبوا طريق الرشاد وغلب عليهم الجهل حتى تركوا الصلاة والصيام وصاروا لا يفرقون بين الحلال والحرام، وهؤلاء يوجد منهم في عدة بلاد من بلاد الشام كصفد من بلاد عكا وطوباس وأم الفحم من بلاد نابلس. وكان الشيخ رضي الله عنه لما بلغه شأنهم وقبح سيرتهم في أيام حياته كتب إلى سائر الجهات التي فيها مريدون ومناسبات ينهاهم عن مخالفة أولئك الجهلاء المارقين، ويصرح بأنه بريء منهم ومن أعمالهم، وبطردهم من الطريقة، ولم يزل كذلك إلى أن مات وهو عليهم غضبان، وما زال بعد موته يوجد منهم جماعة في البلاد المذكورة إلى الآن” اهـ.

 

وهؤلاء وصلت بهم هذه العقيدة إلى استحلال الأمهات والبنات كما ذكر ذلك الشيخ راغب الطباخ الحلبي في تاريخ حلب فقال ما نصه [11]: “وإن الحق يقال ما علمنا عليه –يعني الشيخ عليًّا- سوى ما يوجب الكمال غير أن بعضًا من جماعته قد خرجوا عن دائرة الأدب وتكلموا بما هو لكل ملام سبب، وتركوا في الظاهر كل مأمور وارتكبوا أقبح الأمور” اهـ.

 

ثم ذكر أنه لم يزل بعض أهل هذه الطريقة يفتخرون بمخالفة الشريعة الغراء، وبترك كل مأمور به فلاطوا بالأبناء وزنوا بالأمهات، وأكلوا الحرام، وانهمكوا في المنكرات، واعتقدوا بأنفسهم أنهم صوفية الزمان وأن من سواهم قد ألبس ثياب الحرمان.

 

وذكر لي الحاج شفيق العرجا رحمه الله أنه كان معهم يحضر مجالسهم فقال: إنهم يقولون في الله: “ليس كمثله شئ وهو عين كل شئ”، وقال أيضًا: “إنهم يقولون: بُدئت بعلي وخُتمت بعلي” يعنون بهذا أن القطبية بدئت بعلي بن أبي طالب وختمت بعلي نور الدين، يفتخرون به وهم قد جابنوا سبيله وخرجوا من الإسلام إلى أبشع الكفر، لا حول ولا قوة إلا بالله.

 

وكنتُ سمعتُ شخصًا مشهورًا فيهم يقال له “محمد عساف” من أهل بيروت يقول تأييدًا لعقيدة الحلول: “قال الشيخ محي الدين بن عربي:

 

الربُّ عبد والعبدُ رب *** يا ليت شعري من المكلف

 

فقلت له: في أي نسخة رأيتَ هذا الكلام فلم يحر جوابًا.

 

وهذا البيت مذكور أيضًا في كتاب يسمى “فيض الوهاب في بيان أهل الحق ومن ضل عن الصواب” لعبد ربه الشهير بالقليوبي [12] ونسبه مؤلفه لابن عربي مستحسنًا هذه العبارة وحاول الدفاع بتأويل لا معنى له، فليحذر مما في هذا الكتاب.

 

ثم قال محمد عساف: “قال الشيخ محي الدين بن عربي: من يرى الفاعل عينَ المفعول به سقط عنه غُسل الجنابة” وكذب في المقالتين على الشيخ محي الدين فإن في نسخة الفتوحات المدسوس فيها هذا البيت بلفظ:

 

العبدُ حق والرب حق *** يا ليت شعري من المكلف

 

ولا شك أن هذا أيضًا لا تصح نسبته إليه.

 

وأما المقالة الثانية فلا وجود لها في شئ من كتبه المدسوسة وغيرها وهي قول محمد عساف الذي نسبه إليه: “من يرى الفاعل عين المفعول به سقط عنه غسل الجنابة” يريد بذلك أن الفاعل والمفعول به شئ واحد. وهؤلاء أحيانًا يتكلمون بلفظ الاتحاد وأحيانًا يتكلمون بلفظ الحلول.

 

وقد قالت امرأة منهم وهي تحرك يدها: “هذه اليد كيف تتحرك هو فيها” تعني الله، فقلت لها: “أليس الله قادرًا على أن يحركها من غير أن يدخل فيها” قالت: “بلى” ثم عادت فقالت: “هو فيها” وأصرّت على هذه الكلمة الكفرية.

 

وقالت الحاجة شفيقة وهي من النساء الطيبات ممن يمارسن علم الدين: إن امرأة من هؤلاء النساء اليشرطيات جاءت إلي زائرة فقالت لي: السلام عليكَ يا حبيب وكان زوجي الشيخ أنيس الجندي حاضرًا فقال لها: كيف تقولين السلام عليك يا حبيبي فقالت المرأة: أنا لا أريدها أريد الذي فيها تعني أنها تخاطب الله والله تعالى على زعمها حالٌّ فيها، نعوذ بالله من الكفر.

 

وحكى لي شاب من أهل قرية كفرسوسه السورية واسمه عبد الرحمن أنه كان أخذ الطريقة اليشرطية من شيخ تلك القرية ثم اجتمع به في مجلس فقال ذاك الشيخ لهذا الشاب: أنت الله وهذا الجدار الله قال الشاب: فخرج من قلبي، ثم جمعنا مجلس فقال لي: اقرأ لنا عَشْرَ قرءان فقرأت: {ومِنَ الناسِ مَن يُعجِبُكَ قولُهُ في الحياةِ الدنيا ويُشهدُ اللهَ على ما في قلبهِ وهوَ ألدُّ الخِصامِ} [سورة البقرة/204] فلما أنهيت العشر قال لي: لأي مناسبة قرأتَ هذا العشر؟ فقلت له: كيف تعترض علي وأنت قلتَ إني الله، فلم يُحر جوابًا.

 

وكذلك ذكر لي الشيخ مصطفى البيطار الحلبي أنه اجتمع بامرأة يشرطية من هؤلاء لها ثمانون مريدة قال الشيخ مصطفى: إنها قالت لي: أنت الله وهذا الجدار الله فقلت له: أين تكون هذه المرأة؟ فقال: إنها في الجبل للاصطياف وتنزل لكل ليلة جمعة إلى بيروت لتعمل حضرة لمريداتها فقلت له: أكتبُ لها ورقة فقال: أنا أوصلها إليها، فكتبتُ لها ورقة قلتُ فيها: إن كنتِ قلتِ هذا الكلام الذي بلغني عنك فارجعي إلى الإسلام، وإن لم تكوني قلتِ فبرئي نفسك وإلا فلا يسعنا السكوت على ذلك، فجاءني على لسان الشيخ مصطفى أنها قالت: “أعوذ بالله أنا عبدة الله” اهـ.

 

وهذه الفرقة تستحل مصافحة الرجال النساء الأجنبيات ويُقبل النساء أيدي الرجال وبالعكس إذا تلاقوا، نعوذ بالله من الفتن.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس “الله أكبار” في الأذان وغيره وهذا حرام بل من عرف معناه وتعمد فإنه يكفر لأن الأكبار الطبول الكبيرة.

 

* وكذلك مما يجب التحذير منه قول بعضهم: “اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد وءاله” فقولهم: اللهم صلي بالياء خطاب للمؤنث فمن قاله وهو يعلم أن معناه خطاب المؤنث متعمدًا كفر كما قال أحد العلماء الحضارمة من أهل القرن الحادي عشر، وذلك لأن الله تبارك وتعالى لا يُخاطَب بألفاظ التأنيث إنما يقال: “اللهم صل” بلا ياء، وهذا كثير في الحبشة فليحترزوا من ذلك فإنه لا ثواب لهم في ذلك بل عليهم إثم، ولا يقبل الله الذكر والصلاة والصيام وكل أعمال الدين إلا على الوجه الموافق للشريعة، وليس العبرة بقصد الشخص بل العبرة بموافقة العمل للشريعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [13]: “كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد” أي كل عمل لا يوافق الشريعة فهو مردود عند الله غير مقبول.

 

* ومما يجب التحذير منه قراءة الصالحين بالسين في القرءان وفي الذكر، وهذا لحن يغير المعنى لأن الصالح بالصاد هو المؤمن التقي، وأما السالح بالسين فهو المتغوط، ويقال سالح لمن له سلاح وللمتغوط، والصلاح بالصاد هو التقوى وأما السلاح بفتح السين فهو الغائط والسلاح بكسر السين فهو ءالة القتال، فمن قرأ الصالحين في القرءان بالسين فقد أثم وليس له ثواب بالمرة.

 

ولا عذر لأحد يريد قراءة القرءان إذا غيَّر حرفًا من حروفه أو زاد حرفًا أو نقص حرفًا أو قطع الكلمة بعضها عن بعض إلا السكتة فإنها أقل من القطع فهي واردة في بعض الموارد، وأما ترك الغنة والترقيق والتفخيم ونحو ذلك فلا يأثم تاركه لأن أكثر المسلمين لا يُحسنون مراعاة هذه الأشياء. وأما مراعاة أمور التجويد كلها فليست واجبة يأثم من أخلّ بها، وأما قول صاحب الجزرية:

 

والأخذ بالتجويد حتم لازم *** من لم يُجَوّد القرءان ءاثم

 

فخلاف الصواب لأنه يلزم منه تأثيم أغلب المسلمين في قراءتهم للقرءان فيكون ذلك حرجًا ولا حرج في الدين.

 

* وكذلك مما يجب التحذير منه قراءة “اللهم صل على محمد” بالسين، أما معناه بالصاد الرحمة المقرونة بالتعظيم، وأما “سلي” بالسين فمعناها التسلية، فمن قرأها بالسين فكلامه لا معنى له ولا يليق بالرسول لأن التسلية فيها تخفيف الحزن على الشخص بأن يقال له اصبر وهذا لا معنى له. وقد قال العلماء من السلف: “لا يُقبل قول ولا نية ولا عمل إلا بموافقة السنة” أي الشريعة، فتصحيح اللفظ أمر مهم، فكما تتميز الصاد على السين كتابة كذلك تتميز عنها نطقًا، فكثير من الناس يجعلون الصاد سينًا نطقًا.

 

وروي أن سيدنا عمر رضي الله عنه مر باثنين يتباريان في الرمي فقال أحدهما للآخر: “أَسَبتَ” بالسين بدل أن يقول: “أصبتَ” بالصاد فقال له سيدنا عمر: “خطؤك باللفظ أشد من خطئك بالرماية” أي أن خطأك في رماية الهدف أمر هين بالنسبة لتغييرك حرف الصاد.

 

فائدة: السنة إذا وردت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فمعناها الشريعة، فالفرض والمندوب كلٌّ يسمى سنة وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم [14]: “المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد” فالسنة في هذا الحديث معناها شريعة الرسول: العقيدة والأحكام. ثم اصطلح بعض الفقهاء على أن يُعبروا بالسنة عن المندوب الذي هو غير واجب، وعن الواجب بالفرض والواجب.

 

وأما ما يدور على ألسنة بعض الناس من قولهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ترك سنتي فليس من أمتي” فمرادهم النقل، وكذلك قولهم: “من ترك سنتي لم تنله شفاعتي” يريدون به ترك بعض النوافل، وقولهم: “من لم يُصل السنة يواجه رسول الله يوم القيامة وليس في وجهه لحم”، وهذه الأقوال كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجود لها في أحاديث رسول الله، وألفاظها كذب على الرسول ومعانيها فاسدة، فليُحذر منها تحذيرًا مؤكدًا.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض المنشدين: “ربي خلق طه من نور” فنقول: أما جسده فهو خلق من نطفة أبويه لقول الله تعالى: {قُلْ إنَّما أناْ بشرٌ مثلكم} [سورة الكهف/110]، وأما روحه فلم يرد في ذلك أنه خلق من كذا لا في القرءان ولا في الحديث الصحيح، فليس لنا أن نقول إنه خلق من نور لأنه قول بلا علم وقد نُهينا عن ذلك، قال تعالى: {ولا تقفُ ما ليسَ لكَ بهِ علمٌ} [سورة الإسراء/36]، والصواب في ذلك أن يقال: إنه خلق من الماء إما بغير واسطة أو بواسطة بينه وبين الماء، والله أعلم ما تلك الواسطة.

 

فالحذر الحذر من هذه الكلمة: “ربي خلق طه من نور” وأمثالها لأنها خطر على الجاهل أن يظن أن الله جسم ينبث منه ضوء كالشمس لأن الشمس جسم كثيف ينبث منه نور، وهذه العقيدة كفر لأن فيها جعل الله تعالى كالشمس، ومن اعتقد أن الله جسم يتصل به ضوء فقد شبّه الله بالشمس وغيرها من الأجسام النيرة.

 

وأما العبارة التي في الصلاة التي تسمى “العظيمية” وهي: “نور وجه الله العظيم الذي ملأ أركان عرش الله العظيم” فمؤلف هذه الصيغة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يعني بنور وجه الله أي نور طاعة الله الذي ملأ أركان العرش، وهذا لا يضر العقيدةت لكن التوقف عنه خير لأنه ما ورد في حديث صحيح ولا عن أحد من السلف وهي خطر على من لم يتعلم أنّ الله ذاته ليس حجمًا ولا جسمًا فيتوهم أن الله جسم منير ملأ العرش.

 

* ومما يحذر منه أيضًا من كلام الجهال قولهم في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج: “دنا فتدلى كقُرب الحاجب من الحاجب” وهذا كلام فاسد فيه إثبات الجهة والمكان لله تعالى، وعقيدة أهل السنة أن الله موجود بلا مكان ولا جهة لأنه كان قبل المكان والجهة، قبل أن تخلق الأماكن الست والجهات كلها كان موجودًا بلا مكان ولا جهة.

 

وعقيدة أهل السنة والجماعة أن الرسول عليه السلام رأى الله ليلة المعراج لا كما يُرى المخلوق، المخلوقُ يُرى في جهة ومكان من الرائي إما في جهة فوق أو جهة تحت أو من يمين أو من الشمال أو الأمام أو الخلف، إما بمسافة قريبة أو بمسافة بعيدة بين الرائي والمرئي، والله تعالى لا يُرى كما يُرى المخلوق، يُرى بلا مكان ولا مسافة لا قريبة ولا بعيدة.

 

* ومما يجب التحذير منه ما أشاعه بعض الناس كسيد سابق وبعضٍ غيره عن أبي حنيفة من أنه إذا كان في المسئلة تسعة وتسعون وجهًا بالتكفير ووجهٌ واحدٌ بترك التكفير فينبغي للمفتي ترك التكفير، وكذلك قول بعضهم إذا صار خلاف فقال بتكفيره تسعة وتسعون وقال بعدم تكفيره واحد يؤخذ بقول الواحد، وهذا الكلام ليس له مستند، في بعض كتب الحنفية أن ذلك من اختلاف الروايات أي عن الإمام أو عن صاحبيه لأن في الاصطلاح الفقهي أن الرواية هي ما كان عن صاحب المذهب.

 

فمن قال بتلك العبارة المنسوبة إلى أبي حنيفة فقد افترى على دين الله وخرج من الإجماع.

 

والمقرر عند أهل الفقه من المذاهب الأربعة واتفق عليه الفقهاء والأصوليون وغيرهم أن من نطق بكلمة الكفر لا يقبل فيها التأويل البعيد، قال ذلك إمام الحرمين ونص عبارته: “اتفق الأصوليون على أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كُفِّر ظاهرًا وباطنًا” ويعني بهذا التورية البعيدة. فإذا كان اللفظ صريحًا بمعنى الكفر فلا تأويل لقائلها بترك حكم المرتد عليه بل يحكم بكفره ويعامل معاملة المرتد لا معاملة المسلمين.

 

وقال ذلك أيضًا الإمام الشافعي، والإمام حبيب بن الربيع أحد أكابر المالكية، والإمام محمد بن الحسن أحد أكابر الحنفية نُقل ذلك عنه في الفتاوى الهندية أنه قال فيمن قيل له: ألا تخاف الله؟ فقال: “لا”، وكان على معصية ظاهرة بأنه لا يُؤول قوله “لا” بل يُحكم بكفره، وذكر في الفتاوى الهندية أنه لو قال هذه المقالة في أمر ليس فيه معصية أي “لا” جوابًا لمن قال له: ألا تخاف الله؟ لا يكفر وذلك لأن الأول صريح في معنى الكفر والثاني ليس صريحًا لأن معناه لا أخاف أن يعاقبني لأني ما عصيته بهذا الأمر، أما من قال قولاً صريحًا في الكفر ثم ادعى التأويل فلا يُقبل منه بل يحكم بكفره كمن قال: “أنا الله” أو “أنا رسول الله” أو قال: “يوحى إلي وحي تشريع”.

 

فعلم من ذلك أن الألفاظ قسمان: صريح ليس له إلا وجه واحد، وظاهر يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر أو هما متساويان، فمن نطق بالكفر الصريح وهو عامد أي بغير سبق اللسان وغير مكره وعالمٌ بمعنى اللفظ فهذا يكفر، ولا يدخله التأويل لأنه لو كان يدخله التأويل لتعطل تطبيق أحكام الردة وتلفظ مَن شاء بما يشاء من الصريح ثم يقول: “كلامي له تأويل” كأن يقول قائل: أنا الله ثم قيل له: كيف تقول هذا دعوى الأولوهية فيقول: أردتُ أنا محب الله أو أنا فقير الله فهذا باب من الفوضى كبير، فلا ينظر بعد كون اللفظ صريحًا إلى قصد الشخص ولا إلى معرفته بحكم تلك الكلمة أنها تخرج من الإسلام، قال ملا علي القاري الحنفي في شرح الفقه الأكبر ما نصه [15]: “قال القونوي: ولو تلفظ بكلمة الكفر طائعًا غير معتقد له يكفر لأنه راض بمباشرته وإن لم يرض بحكمه كالهازل به فإنه يكفر وإن لم يرض بحكمه ولا يُعذر بالجهل” اهـ.

 

فالقول بالتكفير هو القول الصحيح الذي عليه الجمهور الموافق للنصوص الشرعية، وأما من خالف هذا فليس من أصحاب الوجوه أهل التخريج وليس في درجة أهل الترجيح، واعتبار أيّ قول ممن ينسب إلى العلم إن خالف الصواب يؤدي إلى الفوضى، ودين الله يُنزه عن الفوضى، فمن قال بتلك المقالة فقوله غير معتبر فاسد لأن العبرة بالدليل.

 

وقد حصل أن رجلاً ذُكر عنده الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:  فعل الله برسول الله كذا وكذا، فلما أخذ ادعى التأويل قال: أنا أردت برسول الله العقرب فلم يُقبل تأويله هذا وأجري عليه حكم الردة، حصل هذا في الأندلس قبل ثمانمائة سنة.

 

تنبيه: أفرط بعض الناس بترك تكفير المسلم الذي ثبت عليه موجب الردة بدعوى الاحتياط وهذا غلط، والاعتدال التوسط فإذا تحقق كون الشخص الذي حصل منه موجب الردة بأن كان الشخص تكلم بكلمة كفرية لا تقبل التأويل ولم يكن هناك سبب يمنع عنه التكفير من سبق لسان أو غيبوبة عقل أو إكراه وكان يفهم معنى اللفظ الذي تلفظ به الذي هو كفر وجب إجراء أحكام المرتد عليه من منعه من الميراث من قريبه ومنعه من نكاح المسلمة ونحو ذلك، وإذا لم يتحقق ذلك امتنع التكفير.

 

ثم التأويل منه ما هو قريب ومنه ما هو بعيد، فالتأويل البعيد لا يكون عذرًا في ترك التكفير وهكذا التورية إن كانت قريبة فهي من التأويل المقبول، وإن كانت بعيدة فهي من التأويل البعيد، وقد نقل إمام الحرمين الجويني اتفاق الأصوليين على أن من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كُفّر ظاهرًا وباطنًا اهـ، يعني فيما يحتملها اللفظ لبعدها كما قال شمس الدين الرملي في شرح منهاج الطالبين وهذا هو الاحتياط لأن إخراج مسلم من الدين خطر وإدخال كافر في الدين كذلك خطر، فوجب الأخذ بالحال الوسط.

 

وممن صرح بعدم اعتبار التأويل البعيد الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي من الشافعية وحبيب بن الربيع من أكابر المالكية.

 

وما أكثر المائلين في هذا العصر إلى ترك التكفير بدعوى تأويلات بعيدة ويقولون لتأييد كلامهم هذا إن أبا حنيفة قال: إذا كان قول يدفع التكفير وكان تسعة وتسعون بالتكفير يُعدل إلى القول بترك التكفير، وينسبون مثل هذا إلى الإمام مالك رضي الله عنهما، وهذا لا وجود له عن الإمامين ولا عن غيرهما من الأئمة ولم يثبت عنهما بإسناد صحيح، وإنما المذكور في بعض كتب الحنفية أنه إذا كان للكلمة وجوهٌ كثيرةٌ تقتضي التكفير ووجهٌ واحدٌ يقتضي تركه أُخذ بهذا الوجه الواحد، ومرادهم بالوجه معنى اللفظ فإن اللفظ قد يكون له معانٍ فاسدة ويكون له معنى واحد صحيح ومرادهم أنه إذا كان اللفظ له معان عديدة أكثرها كفر والأقل غير كفر فلو كان المعنى الذي لا يقتضي الكفر واحدًا من بين سبعين معنى أو تسعة وتسعين معنى يُعدل إلى هذا المعنى الواحد الذي لا يقتضي التكفير إلا إذا كان الشخص الناطق به أراد المعنى الذي هو كفر عندئذ وجب الحكم عليه بمقتضى هذا المعنى الذي هو كفر، وقد ذكر صاحب الفتاوى الهندية الحنفي عن الإمام محمد بن الحسن ما يؤيد ذلك، وقد قدمنا ذلك.

 

* ومن الأقوال الشنيعة التي ينبغي التحذير منها وجوبًا مؤكدًا قول بعض العامة: “لا قدّر الله” أو “لا سمح الله” فإنها توهم أن مشيئة الله حادثة فمشيئة الله أزلية ليس بحادثة، وعقيدة أهل السنة أن الله تعالى لا يوصف بصفة حادثة على أنها قائمة بذات الله وهذا باتفاق الاشعرية والماتريدية في صفات الذات، وقال الإمام أبو حنيفة: من اعتقد حدوث صفة لله أو شك أو توقف فهو كافر اهـ، أما صفات الأفعال فهي عند الماتريدية أزلية أبدية كالإسعاد والإشقاء، ومع كون كثير من القائلين بهاتين العبارتين لا يفهمون مؤداهما فيجب اجتنابهما.

 

* ومما ينبغي تركه قول بعض الناس: “حضرة الحق، وحضرة الله، وجناب الحق، وجناب الله” فقد منع منها العلماء كما ذكر ذلك الشيخ شهاب الدين الرملي صاحب حاشية كتاب “أسنى المطالب شرح روض الطالب للشيخ زكريا الأنصاري” قال ما نصه [16]: “قال العراقي: سئلت عمن حلف بالجناب الرفيع وأراد به الله تعالى هل تنعقد يمينه وتلزمه الكفارة إذا حنث فأجبت: بأنها لا تنعقد لأن مدلول جناب الإنسان فِناء داره ولا يجوز أن يُطلق ذلك على الله عز وجل، وإطلاقه على الله تعالى إلحاد في أسمائه” اهـ، وذلك لأن الحضرة المكان القريب، والجناب ما حول الشخص وهذا من صفات الأجسام، تعالى الله عز وجل عن ذلك.

 

وقال عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق: إن أهل السنة يقولون إن مأخذ أسماء الله تعالى التوقيف عليها إما بالقرءان وإما بالسنة الصحيحة وإما بإجماع الأمة عليه فلا يجوز إطلاق اسم عليه من طريق القياس.

 

ولا ذكر لهاتين العبارتين في كتب السادة الصوفية المتقدمين إنما يستعملهما بعض من ينتسب إلى التصوف من المتأخرين وتبعهم على ذلك غيرهم بدون تحقيق.

 

* ومما يحذر منه قول بعض الناس: “إبليس معلم الملائكة” وقولهم: “إنه طاوس الملائكة” فإن في هذا مدحًا وخفضًا للملائكة، وهاتان العبارتان ظاهرتا الفساد.

 

* ومما يجب الحذر منه قول بعض الناس “كله شغل الله” أو “كله شغله” أي كل شئ شغله تعالى والله تعالى لا يوصف بالشغل إنما الشغل صفة المخلوق، والصواب أن يقال في الله “لا يشغله شأن عن شأن”.

 

* ومما يجب النهي عنه قول بعض الجهال: “الذي لا يصلي في الدنيا يصلي في الآخرة على بلاط جهنم” فإنه من أشنع الكذب.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس: “اخلق لي كذا كما خلقك ربك”، وهذا كفر صريح لا تأويل له ومخالف للشرع، قال الله تعالى: {اللهُ خالقُ كل شئ} [سورة الزمر/62].

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض جهلة المتصوفة: “إن الطريقة واجبة”، وهذا الكلام يردده بالخصوص رجل ينتسب انتسابًا إلى الطريقة النقشبندية يقال له “محمد الخزنوي” وهو ابن الشيخ العالم الجليل عز الدين ابن الشيخ الولي الكبير أحمد الخزنوي رحمهما الله تعالى. فقيل له: “إن أباك قال: ليس واجبة” فأصر على كلامه ولم يرجع، ويشهد عليه بهذا ثلاثة من طلبة العلم وهم: جمال صقر، وجميل حليم، ويوسف داود، وكثير من جماعته يذكرون هذه العبارة.

 

فقوله: “إن الطريقة واجبة” أي فرض ردة لأن من أوجب ما ليس بواجب عند المسلمين مما هو معلوم بالضرورة أنه ليس جانبًا ارتد كما قال الفقهاء في كتبهم في باب الردة.

 

وهذا الرجل قال أيضًا: إن رجلاً زنا بامرأة ميتة فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد التوبة فقال له رسول الله: اذهب عني يا فاسق ليس لك عندي شئ كي لا تحرقني بنارك، ويشهد عليه بهذا جمال صقر، ويوسف داود، وجميل حليم، وإسماعيل سرحان، ومحمد اسطنبولي، وهذا فيه نسبة شئ لا يليق بالرسول لأن الرسول لا يرد من جاءه يطلب التوبة كائنًا من كان، لا يرد الكافر إذا جاءه ليُسلم، ولا قاتل النفس ظلمًا، فكيف يقول هذا الرجل إن الرسول قال لهذا الذي قال إني زنيت بامرأة ميتة ليرشده للخلاص من تلك المعصية: اذهب عني يا فاسق ليس لك عندي شئ كي لا تحرقني بنارك، ونسبة مثل هذا إلى الرسول كفر، وهذه الحادثة لم تحصل.

 

وهذا الرجل أي محمد الخزنوي لم يتلق العلم ولم يحصّل القدر الواجب لا من أبيه ولا من غيره لذلك ظهر منه ما يخالف عقيدة أهل السنة، فقد قال في حياة أبيه: “إن ابن تيمية لا يكفر بقوله إن الله جالس على العرش” فاعترضه رجل يسمى الحاج أسعد صوفي فقال محمد: اسأل أبي، فسأل الحاج أسعد الشيخ عز الدين رحمه الله فقال: “من اعتقد أن الله قاعد على العرش كافر”، وكلام الشيخ عز الدين هو عين الصواب لأن القعود وصف يشترك فيه الإنسان والبهائم والجن والملائكة والحشرات.

 

ثم من غول جماعته أي جماعة محمد الخزنوي أنهم فضّلوه على الأقطاب كلهم على أبيه وجده وغيرهما، ثم قالوا عنه: “عمر بن الخطاب الثاني”، نسأل الله تعالى السلامة.

 

* ومما يجب الحذر منه قول بعضهم للظالم: “مَن شابهَ أباه ما ظلم” فإن فيه مدح الظالم لمن صار ظالمًا وكان أبوه ظالمًا.

 

* ومما يحذر منه ما ينسبه بعض الناس من أن أبا يزيد البسطامي قال: “سبحاني ما أعظم شأني”، وأنه قال: “أنا الحق” أي الله، وأنه قال: “الجنة لعبة الصبيان” وهذه الأقوال مكذوبة عليه لم يقلها أبو يزيد وجهلة المتصوفة يرددونها في مجالسهم يتفكهون بها مستحسنين لها، وقد نفاها عنه أهل بلده إنما قال هذه الحلاج الحسين بن منصور فنفى الحلاج في عصره أكثرُ الصوفية أن يكون منهم مع كثرتهم في ذلك العصر، لذلك قتله الخليفة بالحكم الشرعي فأجرى عليه حكم المرتد.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعضهم: “يلعن جنس حواء” لأن هذا الكلام فيه إطلاق لعن كل ذرية حواء من النساء، وفي النساء من مدحهن القرءان الكريم كمريم وءاسية.

 

* ومما يجب الحذر منه ما شاع بين العوام في مصر وفي بعض البلاد غيرها من قولهم: “كل شئ بأمره” أي بأمر الله، وقول بعض المصريين: “كل حاجة بأمر ربنا”، فهؤلاء لا يفهمون منها المعنى الفاسد بل يظنون من هذه العبارات أن كل شئ بقضاء الله وتقديره وعلمه، ولا يفهمون فساد معناها الذي هو أن كل شئ الله تعالى أمر به عباده، وهذا اللفظ بمثابة قول إن الله أمر بالخير وبالشر وهذا مخالف لقوله تعالى: {إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتائِ ذي القربى وينهى عن الفحشاءِ والمُنكر والبغي} [سورة النحل/90].

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعضهم: “إن المني فيه روح” أو “حيوان منوي” فمن قال فيه روح إنسان كفر، أما إن قال: فيه دود ثم هذا الدود يموت ثم من النطفة الميتة يُخلق الإنسان لا يكفر، أما إن أراد أن تلك الديدان الحية تتحول إنسانًا وأن روحها يُخلق منها الإنسان يكفر.

 

فمن اعتقد أن المني فيه روح إنسان فكلامه فاسد وكذا إن اعتقد أنه يبقى الروح فيتحول إنسانًا كفر لأن معناه أن الدود انقلب إنسانًا مع التحول إلى شكل بشر وهذا تكذيب للقرءان ومخالف لما كان عليه الناس المسلمون أتباع الأنبياء من ءادم إلى عيسى إلى محمد عليهم الصلاة والسلام، ومخالف لما كان عليه الحكماء وفقهاء الإسلام.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعضهم: “يسلَم لي ربك” لأن معناه الدعاء لله بالسلامة والله هو السلام أزلاً وأبدًا، ومعناه أن الله منزه عن كل عيب ونقص كالعجز والجهل والتغير وكل ما هو من صفات الخلق، فالله لا يُدعى له بل يُدعى أي عبادُهُ يدعونه، فالله تعالى منزه عن التغير والزيادة والنقصان في العلم والقدرة، لا تحدثُ في ذاته صفة جديدة حادثة.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس: “كلُّ الناس خير وبركة” فإن إطلاق هذا القول على وجه التعميم بمعنى أن المؤمنين والكافرين كل خير وبركة أو أن الصالحين والطيبين والفجار والغششة والمتجبرين خير وبركة أي أنهم على حالٍ حسنٍ فهو كفر، قال الله تعالى: {أفَمَن كانَ مؤمنًا كمَن كانَ فاسِقًا لا يستَوُن} [سورة السجدة/18]، وقال: {قُل لا يستوي الخبيثُ والطيبُ ولوْ أعجبكَ كثرةُ الخبيثِ} [سورة المائدة/100]، وقال: {لا يستوي أصحابُ النارِ وأصحابُ الجنةِ} [سورة الحشر/20].

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس: “يلعن دين ربك” ومعناه عندهم سب دين الله، وهو صريح لا يخفى على أحد، فمن قال هذه الكلمة فهو كافر.

 

* ومما يحذر منه قول بعض الناس: “الغلاء كفر” فمن كان يفهم منه أن الغلاء قد يؤدي ببعض الناس إلى الكفر فلا يكفر قائله، أما من يعني أن ذلك كفر على الإطلاق أي خروج من الدين فقائله كافر.

 

* ومما يجب الحذر منه قول كثير من الناس لمن يرفع السعر في البيع والشراء: “حرامي” أي سارق، فإن كان الرفع إلى حد قريب لا يستغربه الناس فتسمية البائع بهذا كفر لأنه تحريم ما أحل الله لأن رفع السعر جوازه معلوم من الدين بالضرورة عند العلماء والعامة، إنما ينكر الناس الرفع المجاوز للعادة. ثم رفع السعر إلى حد قليل أو كثير ليس حرامًا في شرع الله، والدليل على ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم [17]: “إنما البيع عن تراض” وذلك قاله لما طُلب منه أن يُسعر لغلاء حصل بالمدينة، ومعنى الحديث أن الإنسان له أن يرفع السعر كما يشاء، فرفع البائع السعر إلى الحد الذي يريده لو كان مجاوزًا لسعر البلد أضعاف المرات ليس حرامًا إن لم يكذب ويوهم المشتري بما هو خداع، فأما إن دخل الكذب والخداع فالبائع ءاثم ولو كان رفعه إلى حد قليل.

 

لذلك مهما رفع الشخص السعر لا يقال عنه “حرامي” أو “هذا حرام”، فمن شاء يشتري ومن شاء يترك، إنما الحرام أن يغش البائع ويكذب فيقول: “هذا رأس ماله كذا” وهو ليس كذلك، هذا لو قيل فيه “حرامي” لا يكون كفرًا لأن هذا من باب التشبيه بالسارق، والبيع صح مع المعصية، كذلك الذي يقول: “هذا من الصنف الجيد” وهو ليس من الصنف الجيد هذا حرام فلو قيل عنه “حرامي” لا يكون كفرًا.

 

* وليحذر قول بعض السفهاء: “أنا لا أموت” أما لو قال قائل لمّا خوّفه بعض الناس أن يموت من مرضه هذا فقال: “أنا لا أموت” أي لا أموت من مرضي هذا لا يكفر، أما من يقول بلا قيد “أنا لا أموت” كفر لأنه كذب قول الله تعالى: {كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ} [سورة ءال عمران/185].

 

* وليحذر أيضًا قول بعض: “يَنساك الموت” وهذا اللفظ من فهم منه عدم الموت يكفر، أما من قال: “أنا بقولي: ينساك الموت مرادي يتأخر موتك” فهذا بعيد لأن اللفظ صريح في الإطلاق ولو كان مراده التقييد.

 

* ومما يجب التحذير منه ما شاع في نواحي بلاد ماردين من قول بعض الناس: “الله بفمه الحلو قال: يا عبدي قم أقوم معك” وقولهم: “قال الله بفمه الحلو: لا تسبوا الهوى لَكُون أنا الهوى” ومعناه عندهم بلغتهم “أكون أنا ذلك الريح” وذلك يقولونه في الشتاء عندما يصير برق ورعد ورياح شديدة، وهذا كفر صريح وفيه كفران، الأول: نسبة الفم لله، تعالى الله عن ذلك، والثاني: جعل الله ريحًا، فهذان كفران من اعتقد واحدًا منهما فهو كافر لا يُعدُّ مسلمًا ولو ظن هو أنه مسلم. وهذه العبارة لا تأويل لها ولو كان لا يعتقد في الله أن له فمًا وتحوّلاً إلى الهواء لأن اللفظ صريح في الكفر لا تأويل له، فمن اعتقد المعنى والذي لا يعتقد المعنى كلاهما كافر، قال الفقهاء: “التأويل البعيد لا يُقبل”. كما قالوا: “كلام الكفر يكون كفرًا لو لم يعتقد قائله معناه”.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس: “يا عبدي قم أقوم معك” وقولهم: “يا عبدي اسعى أسعى معك” فإن كانوا لا يفهمون منه الحركة بل يفهمون أنت اعمل في الأسباب أساعدك في الحصول على الرزق فلا يكفرون.

 

* ومن الألفاظ القبيحة التي يحذر منها كلمة شائعة بين كثير من الناس لا معنى صحيح لها يحكم به على قائلها وهي قولهم: “لا حَولِ الله من أمر الله” بكسر اللام من كلمة “حول”، وهذه تعد من اللغو الذي تركه خير. ولو فهم قائلها نفي القوة عن الله لكفر.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض المؤلفين العصريين وتبعهم على ذلك بعض الناس: “إن الإسلام جاء لقطع الاسترقاق بالتدريج”، وهذا كذب، وحكم الاسترقاق بالوجه الشرعي لا ينقطع، ولم يرد في القرءان ناسخ لحكمه، فمن قال ذلك فقد افترى على دين الله وخالف سلف الأمة وخلفها، ولو فهم أبو بكر ما يفهم هؤلاء ما استرق نساء المرتدين وصبيانهم حين حاربهم فكسرهم فأسلم من أسلم من الكبار وضرب الرق في نسائهم وأطفالهم فوافقه علي فمن ذلك السبي خولة الحنفية التي استولدها عليّ وولد منها ابنها محمدًا. فهؤلاء لا يعلمون ما يأتون وما يذرون، إذا تكلموا في أمور الدين يحرفون دين الله ويزعمون أنهم يرشدون الناس إلى دين الله، ألم يعلموا أن سيدنا عليًّا رضي الله عنه عندما توفي كان تحته من الإماء تسع عشرة سُريّة منهن من ولدن منه ومنهن من كنّ حُبالى منه ومنهن من كن حوائل وكان من أورع الناس وأزهدهم في الدنيا لم يفعل ذلك إلا وهو يرى أن ذلك موافق لدين الله ليس فيه أدنى مخالفة، فلتُحذر تآليف هؤلاء.

 

والعجب من فيصل مولوي زعيم حزب الإخوان في لبنان حين قال هذه المقالة “إن الإسلام جاء ليقطع الرق بالتدرج” فيقال له: هؤلاء الصحابة أفهم بدين الله من كل من جاء بعدهم ما قطعوا الاسترقاق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولا قللوا، وكذلك التابعون كان منهم من له أكثر من اثني عشر ألف رقيق طلب منه سيدنا عمر أن يبيعهم ليستعين بهم في الجهاد فتبرع الرجل فأعدهم عمر رضي الله عنه للجهاد في سبيل الله.

 

وكذلك قال محمد قطب أخو سيد قطب الذي هو صار ينشر كتابه الذي يأخذ منه أتباع سيد قطب فكرته أن الحاكم المسلم إذا حكم بشئ من القانون ولو بمسئلة واحدة كفر، فمن هنا يُكفّرون الرعية فيستحلون دماء الحكماء والرعية، ومحمد هذا هو الذي قوى ونشر هذه الفكرة لأنه طبع هذا الكتاب أكثر من تسع مرات، فالمنتسبون إليه وغير المنتسبين إليه يطالعون هذا الكتاب فيستحسنون هذه الفكرة فيلتحقون بهم ويفعلون أفعالهم من القتل بأناس، وهؤلاء الذين في الجزائر أخذوا بهذه الفكرة التي ذكرها زعيمهم سيد قطب في الكتاب الذي سماه “في ظلال القرءان”، وهذا التفسير جدير بأن يسمى “في تحريف القرءان”.

 

* ومما يجب الحذر منه قول بعض الكفرة “إن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم كان نسونجيًّا” وهذا القول باطل وكذب وكفر فوق كفرهم فإن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يتزوج قبل النبوة إلا خديجة ثم بعد أن صار عمره ثلاثًا وخمسين تزوج بغيرها وقد كانت خديجة توفيت وهو بمكة، فعدَّد الزواج في خلال العشر سنوات التي قضاها بالمدينة حتى اجتمع عنده تسعٌ، وكان غرضه صلى الله عليه وسلم أن تنتشر أحكام شريعة من طريق النساء لأن تعلم النساء من النساء أسرع للنساء وأقرب إلى نفوسهن لأنه قد يمنعهن الاستحياء من تعلم أمور الدين من الرجال، والدليل على أن الرسول لم يكن متعلق القلب بالنساء أن عائشة رضي الله عنها وهي أجمل نسائه وأحدثهن سنًّا قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليلة التي هي قَسْمي –أي حصتي- يذهب ليلاً إلى الجبانة ليدعوَ لأهل القبور” رواه مسلم [18] وكان دور عائشة ليلة من تسع ليال حين بلغ عدد زوجاته تسعًا وكان أقل من ذلك فيما قبل ذلك، وكان لا يلزم الفراش تلك الليلة معها بل كان يتهجد فيتركها على الفراش ويقوم فيصلي ما شاء الله. وكان يقوم مرتين من النوم يتهجد وفي خلال ذلك يذهب إلى الجبانة فيدعو لأهل القبور ثم يعود.

 

وكان صلى الله عليه وسلم أشد ما تَقَرُّ به عينه وتفرح به نفسه الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم [19]: “حُبِّب إلي من دنياكم: الطيب والنساء وجُعِلت قرة عيني في الصلاة” أي أن الله تعالى جعل فيه حبًّا أي ميلاً طبيعيًا إلى الطيب والنساء وليس حبًّا تعلقيًّا وإنما الحب التعلقي بقلبه والراحة القلبية واللذة للصلاة.

 

ولو كانت فيه همة التعلق بالنساء كان عدّد قبل أن يبلغ عمره ثلاثًا وخمسين، وقد كان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس كان ينطبق عليه قول أبي كبير الهُذَلي:

 

كما يبدو في الدَّاجِ البهيمِ جبينُهُ *** يَلُحْ مثلَ مِصباحِ الدُّجى المُتَوقد

 

وكان كما وصفته أم مَعبد الكعبية لما نزل هو وأبو بكر وعامر بن فُهيرة عندها ليستريحوا حصة من الوقت في أثناء سيرهم إلى المدينة وبهرها من الخير والبركة، ثم جاء زوجها أكثم بن الجون فحدثته بأنه نزل عندها شخص فمدحته لزوجها وأثنت عليه وكان من جملة ما قالت لزوجها: “أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب”، ومعناه أنه من فرط جماله يبهر الناظر إليه من بعيد ومن قريب.

 

وكان كما وصفته ظعينة أي امرأة جاءت في قافلة إلى المدينة للتجارة فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بهم فذهب ليشتري جملاً فساومهم في جمل فاشتراه وذهب به فتلاوموا فيما بينهم فقالوا: كيف أعطينا الجمل لرجل لا نعرفه ولم نقبض الثمن؟ فقالت هذه الظعينة التي معهم: “لا تتلاوموا فإني ما رأيت رجلاً وجهه أشبه بالقمر ليلة البدر منه”، ثم أرسل إليهم الثمن مع زيادة، وهو عليه الصلاة والسلام ما عرَّفهم بنفسه مع كونهم ممن أسلموا في بلادهم فلعله إنما فعل ذلك لئلا يحابوه بالثمن أو يعطوه هبة بلا بيع، فهذا من كمال زهده في الدنيا عليه الصلاة والسلام.

 

وهذا سيدنا علي رضي الله عنه الذي هو من أزهد خلق الله تعالى في الدنيا كان له عند موته تسع عشرة من الإماء إنما فعل ذلك لتكثير الأمة وهذا غرض الصالحين الذين أكثروا من الزواج، وإلا فالولي من أولياء الله لا يبقى فيه تعلق بالدنيا، وهذا نبي الله سليمان عليه السلام كان له ثلاثمائة زوجة من الحرائر وسبعمائة أمة مملوكة حيث لم يكن في شريعته تحديد لعدد الزوجات ومع ذلك لم قلبه متعلقًا بالنساء ولم يكن همه إشباع الشهوة وإنما كان غرضه أن يخرج من ظهره ذرية يقاتلون في سبيل الله، روى البخاري [20] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “حلف سليمان بن داود: لأطوفنَّ الليلة على مائة امرأة كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فلم تأت واحدة منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ إنسان، والذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لرزق في سبيل الله فرسانًا أجمعون”، ومن هذا الحديث يعلم أن أنبياء الله عندما يُكثرون الزوجات تكون نيتهم ما فيه مصلحة الدين، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عدَّد الزوجات لحِكَمٍ عظيمةٍ تعود لمصلحة الدين ولنشر الإسلام.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس في مؤلفاتهم من أن الكافر إذا أراد أن يُسلم يغتسل ثم يتشهد، وهذا باطل بل الواجب عليه أن يشهد الشهادتين ثم يغتسل إن كان أجنب في حال كفره وجوبًا وندبًا إن كان لم يجنب، وهكذا المرأة التي كانت تحيض ثم لا تغتسل فهذه تتشهد ثم تغتسل وجوبًا، ولا يجوز تأخير الإسلام لأجل الغسل لحظة، ولا يجوز أن يقال له: “اذهب فاغتسل ثم نلقنك الشهادة”، ومن قال ذلك كفر، قال الفقهاء: “انتظر إلى وقت” كفر”. وكثير ممن يدعون الإرشاد إلى الدين يؤخرون من طلب منهم الدخول في الإسلام من أن يدخل فيه بقوله: “فكر مدة ثم تسلم”، وقد حصل هذا من بعض من ينتسب إلى حزب الإخوان القطبيين، وهذا دليل على شدة الجهل لأنهم لا يتعلمون الفقه وذلك لأن زعيمهم سيد قطب قال في تفسيره: “الاشتغال بالفقه في هذا الزمن مضيعة للعمر” يريد بذلك أن يتركوا التعلم ويصرفوا أوقاتهم في قتل الناس واغتيالهم.

 

* ومما يجب التحذير منه ما شاع عند بعض الناس وهو قولهم: “الكلام في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب” وهذا نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذب ومخالف للإجماع وقد روى البخاري [21] أن رجلين من الصحابة كان لأحدهما دَيْنٌ على الآخر فاختصما في ذلك حتى ارتفعت أصواتهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للدائن أن يسقط النصف ففعل ذلك ولم ينكر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامهما في المسجد ولا وبّخهما.

 

ومخالف أيضًا لما رواه مسلم [22] أن الصحابة كانوا يذكرون أمور الجاهلية فيضحكون والرسول يبتسم وكان ذلك في المسجد، ولا يوجد في كتب المذاهب الأربعة تكريه الكلام في المسجد. فإذًا هذا الكلام فيه تحريم لما علم من الدين ضرورة أنه جائز وهذا نوع من الردة، وقد قال الفقهاء قاعدة متفقًا عليها: إن مَن أوجب ما ليس بواجب في الشرع وكان ظاهرًا عند المسلمين أنه غير واجب كفر، وكذلك من حرم ما هو معروف عند المسلمين أنه جائز.

 

وإنما المذموم شرعًا قصد الجلوس في المسجد للحديث الدنيوي الذي لا خير فيه ولا مصلحة شرعية هذا الذي ورد في الحديث الصحيح ذمه.

 

* ومما يجب التحذير منه من المقالات قول بعض الناس: “لعن الله الشارب قبل الطالب” وذلك يقولونه فيما إذا طلب شخص ماء للشرب ثم أُتي به إلى غيره فأخذه الغير فشربه، وهذا تحريم لِما لم يحرمه الله تعالى، فما ذنب الذي أُعطي الشراب ولم يعط الطالب. ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قال [23]: “لعن المؤمن كقتله” وهو حديث صحيح، وهذا الكلام لعن للمسلم مع تحريم ما أحل الله فهو ردة تجب التوبة منه.

 

* ومما يجب التحذير منه قول كثير من الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الخَلق كلهم عيال الله” فهذا لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عيال الشخص مَن يَمُونهم أي من ينفق عليهم، وليس معنى العيال الأولاد لأن إطلاق العيال بمعنى الأولاد ليس من لغة العرب الذين كانوا يفهمونه إنما كانوا يقولون “عيال فلان” أي الذين يمونهم أي يكفيهم نفقتهم ومسكنهم وما يحتاجونه، فالشخص يمون شخصًا واحدًا أو شخصين أو أكثر أما الله تعالى يَمُون الكل لأن كل الخلق فقراء إليه هو الذي يرزقهم ويعطيهم كفايتهم، ولا يوجد في كتب اللغة تفسير العيال بالأولاد.

 

وقد فسر بعض العلماء هذا الحديث بقوله: “عيال الله” أي فقراؤه، ذكر ذلك المناوي في شرح الجامع الصغير [24].

 

* ومما يجب إنكاره ما اعتاده بعض أصحاب الطرق لا سيما بعض المنتسبين للقادرية من قولهم عند قراءتهم الورد بين المغرب والعشاء وبعد صلاة الصبح جماعة: “اللهم أجرنا وأجر والدينا وجميع المسلمين من النار” قلنا: هذا فيه رد للنصوص القرءانية والحديثية، وقد جزم ابن عبد السلام في الأمالي والغزالي بتحريم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات بمغفرة جميع الذنوب وبعدم دخول النار لأنا نقطع بخبر الله تعالى وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيهم من يدخل النار، وهذا بخلاف قول: “اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات” فإن هذا لا يقتضي الدعاء بعدم دخول أحد من المسلمين جهنم بل معناه يا رب اغفر لبعضهم كل ذنوبهم ولبعض بعض ذنوبهم. وقد نقل قولَ ابن عبد السلام الغزالي والرملي في شرح المنهاج والشوبري في تجريده حاشية الرملي الكبير [25].

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس: “السارق من السارق كالوارث من أبيه”، ومثلها ما أورده فيصل مولوي اللبناني في مقال له وزعم أنه قاعدة شرعية فقال لعد كلام ما نصه [26]: “وذلك لأن القاعدة الشرعية: أن الحرام لا ينتقل إلى ذمتين” أفتى بذلك لشاب يعلم أن مال أخيه حرام، فبزعمه أن المال الحرام إن انتقل إلى شخص ثانٍ فأكثر صار حلالاً ولو مع علم الأشخاص بمصدره الحرام وهذا ظاهر البطلان، وهذه فتوى لم يسبقه إليها أحد، أحل فيها ما حرم الله تعالى وأباح أكل المال الحرام، وقد نقل ابن عابدين الحنفي عن ابن نجيم الحنفي في كتابه الأشباه قوله [27]: “الحرمة تنتقل مع العلم إلا للوارث إلا إذا علم ربه أي رب المال” اهـ، وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتاب المنن: “وما نقل عن بعض الحنفية من أن الحرام لا يتعدى إلى ذمتين سألت عنه الشهاب بن الشلبي فقال: هو محمول على ما إذا لم يعلم بذلك، أما من رأى المكّاس يأخذ من أحد شيئًا من المكس ثم يعطيه ءاخر ثم يأخذه من ذلك ءاخر فهو حرام”، ويقول ابن عابدين عند قول الشارح [28]: “الحرام ينتقل” ما نصه: “أي تنتقل حرمته وإن تداولته الأيدي وتبدلت الأملاك” اهـ.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض جهلة المتصوفة إذا نوقشوا بمسئلة شرعية غلطوا فيها: “هذا صح كشفًا”، ونحو هذا ذكر في كتاب ” الفتح الرباني والفيض الرحماني” والمسمى أيضًا بأسرار الشريعة للشيخ عبد الغني النابلسي ونصه [29]: “أما ما ذهب إليه الشيخ محي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات المكية وغيره من أن عذاب الكفار في النار ينقلب عذوبة فيتلذذون به بعد انقضاء مدة الآلام فهو أمر مبني على الكشف عن أسرار الحقائق الأخروية، وقيل: ليس في هذا مخالفة لما ذكرناه من مذهب الجمهور أن عذاب الكفار في النار دائم أبدي، وقيل: إن الله يتجلى لأهل النار بصفة الجلال” اهـ، وهذا الكلام باطل فإن إلهام الولي ليس من أسباب العلم القطعي فهو ليس بحجة كما ذكر ذلك النسفي، والمنام أقل شأنًا، قال الإمام الجنيد سيد الطائفة الصوفية رضي الله عنه: “ربما تخطر لي النكتة من نُكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة”، والنكتة: هي الوارد أي الإلهام، واللائق بمقام الشيخ عبد الغني النابلسي أن يكون هذا الكلام ونحوه مما دُسَّ عليه.

 

وكيف لا يكون هذا الكلام باطلاً وهو يخالف صريح القرءان والسنة الصحيحة وإجماع المسلمين.

 

والقول بفناء جهنم قال به ابن تيمية وأيّده تلميذه ابن قيم الجوزية بعده وأكثر الكلام في تأييده، والقائل بهذا كافر. وهذه من أكبر ضلالات ابن تيمية الحراني.

 

أما مخالفته للآيات القرءانية الدالة على بقاء النار واستمرار عذاب الكفار بلا انقطاع إلى ما لا نهاية له كثيرة جدًا منها قوله تعالى: {وما هُم بخارجينَ منَ النار} [سورة البقرة/167]، وقوله تعالى: {ولا يُخَفَّفُ عنهم من عذابها} [سورة فاطر/36]، وقوله تعالى: {كُلَّما خَبَتْ زِدناهم سعيرًا} [سورة الإسراء/97].

 

وأما مخالفته للحديث الصحيح الثابت: فحديث: “يقال لأهل الجنة: يا أهل الجنة خلود فلا موتَ، ولأهل النار: يا أهل النار خلود فلا موتَ” رواه البخاري [30].

 

وأما الإجماع فهو منعقد على بقاء النار ودوام عذاب الكفار فيها، نقله الحافظ المجتهد تقي الدين السبكي في رسالته “الاعتبار ببقاء الجنة والنار” وذكر أن من رد ذلك فهو كافر.

 

ومثل هذا الاعتقاد مركوز في فطرة المسلمين معلوم من الدين بالضرورة فلا يليق بالشيخ محي الدين بن عربي ولا بالشيخ عبد الغني النابلسي فهو مما دُسّ عليهما رحمهما الله تعالى.

 

* ومما يجب التحذير منه أيضًا ما شاع عند بعض جهلة المتصوفة أن الأولياء والخواص لا حاجة لهم إلى علم الدين ولا إلى النصوص الشرعية بل يكفيهم الإلهام والفيوضات، فالجواب ما ذكره الشيخ الفقيه يوسف الأردبيلي في كتابه أنوار أعمال الأبرار ونصه [31]: “ولو قال: الله يلهمني ما أحتاج إليه من أمر الدين فلا أحتاج إلى العلم والعلماء فمبتدع كذاب يلعب به الشيطان” اهـ.

 

وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه [32]: “ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار، فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور [33]: “استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك”.

 

قال القرطبي: “وهذا القول زندقة وكفر لأنه إنكار لما عُلم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تُعلم بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه وأحكامه كما قال تعالى: {اللهُ يصطفي منَ الملائكةِ رُسُلاً ومنَ الناس} [سورة الحج/75]، وقال: {اللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رِسالته} [سورة الأنعام/124]، وأمر بطاعتهم في كل ما جاؤا به وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه الهدى، وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقًا أخرى يُعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسل فهو كافر يُقتل ولا يُستتاب، وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا لأنه من قال إنه يأخذ عن قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله وإنما يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: “إن روح القدس نفث في روعي” [34].

 

قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا ءاخذ عن الموتى وإنما ءاخذ عن الحي الذي لا يموت، وكذا قال ءاخر: أنا ءاخذ عن قلبي من ربي، وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، نسأل الله الهداية والتوفيق.

 

وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحًا فإن الذي فعله الخضر ليس في شئ منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعًا وعقلاً، ولكن مبادرة موسى للإنكار بحسب الظاهر، وقد وقع ذلك واضحًا في رواية أبي إسحاق التي أخرجها مسلم ولفظه [35]: “فإذا جاء الذي يُسَخِّرها فوجدها منخرقة فتجاوزها فأصلحوها بخشبة” يستفاد منه وجوب التأني عن الإنكار في المحتملات، وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة، وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان” اهـ.

 

ويكفي في إبطال قول هؤلاء حديث مسلم [36]: “كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد”.

 

* ومما يجب التحذير منه ما شاع بين بعض الناس في بعض البلاد وهو قولهم: “لا كلام على طعام” مع أن الشرع يأمر بالكلام القليل على الأكل على وجه الاستحباب لما في ذلك من مخالفة المجوس، وقد نص الفقهاء على أنه يستحب قليل الكلام على الطعام.

 

* ومن الكلمات التي يجب التحذير منها قولهم: “شاءت الأقدار” أو: “شاء القدر” وذلك لأن القدر لا يوصف بالمشيئة إنما الله يوصف بالمشيئة فهو الذي له المشيئة الأزلية التي بها يخصص الحادثات على حسب علمه من حيث وجودها وكيفياتها وما يلحقها من التغير.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس: “الجنة بدون ناس لا تُداس” وهذه عبارة بشعة لأن هذا ينافي أنها دار فرح وسرور دائم لا يدخله ملل ولا انقطاع ولا استيحاش، ولو انفرد واحد فيها لا يستوحش لأن من دخلها لا يحصل له وحشة ولا هم ولا غم ولا بؤس إلى الأبد، أليس هي الآن مسكونة للحور العين والولدان وهما ليسا من الناس، وأقل أحوال هذه الكلمة الحرمة.

 

* ومما يجب التحذير منه ما نُسب للغزالي من قوله: “ليس في الإمكان أبدع مما كان” وقد حصل رد شديد في المغرب أولاً فقد حذر من كتاب إحياء علوم الدين علماء المغاربة لأجل هذه الكلمة أول ما ظهر. أما الذين أوَّلوها فقالوا: إن الله تعالى شاء أن يكون هذا العالم هكذا وخلافه لا يمكن لأن مشيئة الله تعلقت بهذا القدر الذي وُجد، لكن بعض الجهلة يفهمون منها معنًى خبيثًا يفهمون أن الله لا يستطيع أن يخلق أحسن مما خلقه وهذا فيه نسبة العجز إلى الله تعالى، فهذه العبارة قبيحة وإن كان بعضٌ لا يفهمون منها ذلك بل يفهمون منها معنى لا بأس به.

 

* ومما يجب التحذير منه التحذير الأوكد قول بعض الناس “لا يجوز للمعتدة بالوفاة أن تكلم بشرًا وأن يراها بشر” وهذا كفر لأن هذا ليس مما فرض الله على المعتدة بل انعقد الإجماع على جواز أن تكلم القريب والأجنبي وأن يراها وترى غير المحارم، فإطلاق هؤلاء هذه الكلمة كفر، وقد ثبت بإسناد صحيح [37] أنه قد حصل من بعض الصحابيات أن تكلمت مع بعض الصحابة وكانت معتدة عدة وفاة فلم ينكر عليها أحد من الصحابة حديثه معها وكان يريد زواجها.

 

* ومما يجب التحذير منه تلقين بعض الناس الطفل الذي لم يفصح بالكلام كلمة الكفر بنية تعليمه الكلام، يقول أحدهم للطفل الذي بدأ يفصح بالكلام كابن سنتين مثلاً: “سب له –أي لشخص كبير- ربه” أي سب رب هذا الشخص، وهذا كفر والعياذ بالله تعالى، ومن شك في كفره يكفر لأن تلقين الغير الكفر كفر إن كان يفهم المخاطَب معنى كلمة الكفر أو لا يفهم، وهذا يحصل في لبنان وسوريا.

 

* ومما يجب التحذير منه قول بعض الناس: “أبوس ربك” وهذا صريح في الكفر لأن البوس لا معنى له إلا التقبيل، قال صاحب القاموس [38]: “البوس: التقبيل” اهـ، ولا يُنظر إلى قصدهم لأن اللفظ الصريح لا يؤول، فالذي يؤول مثل هذا يكون داعيًا للناس إلى الكفر. وقد اتفق العلماء على أن اللفظ الصُراح لا يقبل التأويل، فمن يفهم معنى اللفظ الذي هو تشبيه لله تعالى بخلقه أو استخفاف به وليس له معنى ءاخر لغة ليس به بأس ولم يقصد هذا المعنى إنما أراد المزح كُفِّر لا محالة، ولا ينظر إلى أنه لم يقصد هذا المعنى، وعلى هذا اتفق الفقهاء، قال الحبيب بن الربيع أحد أكابر المالكية: “ادعاء التأويل في لفظ صُراح لا يُقبل”، وقال الحافظ تقي الدين السبكي في فتاويه: “لا يقبل التأويل البعيد”، وهذا معنى قول إمام الحرمين ناسبًا له إلى اتفاق الأصوليين “من نطق بكلمة الردة وزعم أنه أضمر تورية كُفّر ظاهرًا وباطنًا”.

 

وهذا بخلاف ما لو تلفظ شخص بلفظ صُراح بالكفر لكن اللافظ به لا يفهم هذا المعنى بل يظن أن معناه غير ذلك مما لا بأس به فإنه لا يُكفر لكن يُنهى فيقال له: هذا اللفظ معناه كذا وكذا وهو كفر ليس الذي أنت تظن، هذا المعنى كفر لا تعد إلى هذا اللفظ، وذلك كما يقول بعض الناس: “ما في الوجود إلا الله” أو “لا موجود إلا الله” أو “هو الكل” أو “يا كُل الكل” فإن هذه الكلمات وضعها أناس من ملاحدة المتصوفة يعتقدون أن الله هو جملة العالم وأن كل جزء من جزئيات العالم تعيُّنات لله، وهذه في الأصل عقيدة لبعض فلاسفة اليونان ثم انتقلت إلى بعض من يدعي التصوف الإسلامي ثم صار العوام يسمعونها من هؤلاء من غير أن يفهموا معناها الذي يريدونه فحسّنوا بهم الظن لأنهم يتظاهرون بالتصوف الإسلامي فصاروا ينطقون بها وهم يظنون أن لها معنى غير المعنى الذي وضعها له أولئك بل ظنوا معناها أن الله هو مدبر كل شئ وخالق كل شئ فهؤلاء العوام لا يُكفّرون لأنهم لا يفهمون من هذا اللفظ ذلك المعنى الكفري إنما يفهمون هذا المعنى الحسن الذي هو عقيدة المسلمين أن الله خالق العالم ومدبره، لكن هؤلاء يُنهون عن هذا اللفظ فيقال لهم: هذا اللفظ معناه الأصلي الذي و ضعه أولئك الفلاسفة ومن قلدهم من ملاحدة المتصوفة كفر وهو أن كل شئ هو الله كما قال بعض أولئك المتصوفة الملحدين في هذا العصر في مجالسهم لشخص: “أنت الله وهذا الجدار الله”، وقال بعضهم: “أنا الله”، وقال بعضهم وقد نقر باب شخص فقيل له: من؟ فقال: “الله” وحصل من رجل يلبس زي أهل العلم ويخطب في بلدة دوما أنه قال: أنا جزء من الله.

 

* ومما يجب التحذير منه حذف الهاء من لفظ الجلالة أو حذف الألف اللينة بين اللام والهاء فيقول: “اللا” و”واللا” بلا هاء، ويقول: “الله” بحذف الألف اللينة، وهذا حرام بالإجماع لم يرد في قراءة من القراءات، قال الله تعالى: {وللهِ الأسماءُ الحُسنى فادعوهُ بها وذروا الذينَ يُلحِدونَ في أسمائهِ سيُجزَونَ ما كانوا يعملون} [سورة الأعراف/180]. وقد ذكر العلماء التحذير من تحريف شئ من لفظ الجلالة عند الذكر، ولا عبرة بإيراد بعض الشعراء للفظ الجلالة مع حذف الألف التي بين اللام والهاء، ولا التفات أيضًا إلى استعمال بعض الشاذلية للفظ الجلالة مع حذف اللام والاقتصار على الألف والهاء، قال الشيخ محمد ظافر المدني شيخ الشاذلية بالمدينة المنورة: “هذا تحريف من شاذلية فاس هم أحدثوه ليس من الشيخ أبي الحسن الشاذلي” اهـ.

 

* ومما يجب التذير منه ورقة مذكور فيها أن من وقعت بيده هذه الورقة فعليه أن يكتبها ثلاث عشرة مرة وأن يوزعها ومن لم يفعل ذلك يحصل له كذا وكذا من المصائب، وهذه الورقة منتشرة في كثير من بلاد الشام وتركيا وأصلها من بعض كفار بلاد الشام مكيدة للمسلمين في إدخال الفساد عليهم من إدخال ما ليس من دينهم عليه بدعوى أن خادم حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام الرسول فقال له الرسول: بلّغ أمتي هذا. وهذا يكررونه منذ نحو ثمانين عامًا لكل عام، إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

 

 

 

 

 

الهوامش:

 

[1] لطائف المنن والأخلاق [ص/391].

[2] ترك التقييد يوهم نفي رؤية الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة على الإطلاق لذلك حذر من ذلك العبارة.

[3] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الصلاة: باب الدعاء والصلاة من ءاخر الليل، ومسلم في صحيحه: كتاب صلاة المسافرين وقصرها: باب الترغيب في الدعاء والذكر في ءاخر الليل والإجابة فيه.

[4] هذا أحد قولي المتكلمين من أهل السنة، والقول الآخر يسمع المسموعات أي الأصواب ليس كل الموجودات. فإن قيل: يَعْكِرُ على هذا المذهب قوله تعالى: {نسمعُ سرهم ونجواهم} [سورة الزخرف/80] فالجواب: أن السر هو الكلام المقابل للجهر ليس معناه ما ليس بصوت.

[5] كأنه أراد بالسعد ظفر العدو بعدوه.

[6] قوله: “ولويح” يعني به تصغير لوح الذي كان في الماضي يكتب فيه التلاميذ في الكُتّاب درس القرءان، هذا أيضًا له حرمة كبيرة لأنه هُيِّءَ للقرءان.

[7] العابد اسم فاعل وهو واسم المفعول والصفة المشبهة هؤلاء صفة صريحة، أما عبد ليس من الصفات الصريحة.

[8] كشف الأستار [ص/35].

[9] كشف الأستار [ص/36].

[10] جامع كرامات الأولياء [2/201-202].

[11] إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء [7/340].

[12] انظر الكتاب [2/81].

[13] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور.

[14] رواه الطبراني في الأوسط، عزاه له الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [1/172].

[15] شرح الفقه الأكبر [ص/163].

[16] حاشية أسنى المطالب [4/243].

[17] أخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب التجارات: باب بيع الخيار.

[18] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الجنائز: باب ما يقال عند دخول القبور.

[19] أخرجه النسائي في سننه: كتاب عشرة النساء: باب حب النساء.

[20] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد: باب من طلب الولد للجهاد.

[21] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الخصومات: باب كلام الخصوم بعضهم في بعض.

[22] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح وفضل المساجد.

[23] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأدب: باب ما ينهى عن السباب واللعن.

[24] فيض القدير [3/505].

[25] نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج [2/304]، هامش روض الطالب [1/256].

[26] مجلة الشهاب: العدد الثاني: السنة السابعة 1973، [ص/16]، والعدد الثالث عشر: السنة السابعة 1973 [ص/16].

[27] رد المحتار على الدر المختار [5/247].

[28] رد المحتار على الدر المختار [4/130].

[29] انظر الكتاب [ص/189-190].

[30] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب.

[31] أنوار أعمال الأبرار [2/489].

[32] فتح الباري [1/221].

[33] رواه أحمد في مسنده [4/227-228]، والدارمي في سننه [2/245-246].

[34] أخرجه الحاكم في المستدرك [2/4]، والقضاعي في مسنده [2/185].

[35] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الفضائل: باب من فضائل الخضر عليه السلام.

[36] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور.

[37] أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المغازي: بعد باب: فضل من شهد بدرًا.

[38] القاموس [ص/687، مادة: ب و س].