يقول القرضاوي في كتابه المسمّى: «الصحوة الإسلاميَّة وهموم الوطن العربي والإسلامي» ما نصّه([1]): «حزب التحرير الإسلامي الذي وقف جهده على الدعوة لإقامة الدولة الإسلامية وإعادة الخلافة الإسلامية»، ويقول عن هذا الحزب: «له أثره ومساهمته في مجال الصحوة».اهـ.
الرَّدُّ:
إنّ مؤسس هذا الحزب المشبوه هو تقيّ الدين النبهاني من فلسطين قدم إلى بيروت بعد النكبة وكان يسكن في أواخر الخمسينات في حي رأس النبع وكان يرى نفسه أنَّه أمير المؤمنين، وكان يسمي زوجته المدعوة لميعة أمّ المؤمنين، وكان له ثلاثة أولاد: تاج وأسامة وإبراهيم، وكان قد ولاهم، أسند بزعمه لكل منهم ولاية فواحد منهم: والٍ على الشام، والثاني: والٍ على العراق، والثالث: والٍ على مصر. وكانوا دون سن الخامسة عشر يومها وقد ذكر لي ذلكَ شاهد عيان ممن كانوا يسكنون في عمارتهم في رأس النبع، وقد أسس هذا الحزب على أسس من التطرف والخرافة فهم يظهرون في بلاد ويختفون في بلاد أخرى، وأفكارهم تتطابق إلى حدّ بعيد مع أفكار حزب الإخوان ولا سيما في تكفير الحاكم والمحكوم والمناداة بالخلافة مع عدم القدرة على ذلك وتعطيل كثير من الأحكام الشرعية طالما أن الخلافة غير قائمة، وأوسع نشاط لهم اليوم في بريطانيا شأنهم في ذلك شأن كل الحركات المتطرفة التي تنعم في حضن الدولة الأم.
ومن أفكارهم وضلالاتهم:
يقول زعيمهم تقي الدين النبهاني في كتابه المسمّى «الشخصية الإسلامية» ما نصُّهُ([3]): «وهذه الأفعال – أي: أفعال الإنسان – لا دخل لها بالقضاء ولا دخل للقضاء بها؛ لأنّ الإنسان الذي قام بها بإرادته واختياره وعلى ذلك فإنّ الأفعال الاختيارية لا تدخل تحت القضاء».اهـ.
ويقول في الكتاب نفسه ما نصُّه([4]): «فتعليق المثوبة أو العقوبة بالهدى والضلال يدل على أنّ الهداية والضلال هما من فعل العبد وليسا من الله».اهـ. ويذكر مثله في كتابه المسمّى: «نظام الإسلام»([5]).
الرَّدُّ:
هذا الكلام مخالفٌ للقرءان والحديث وصريح العقل فأما القرءان فقد قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [سورة الفرقان]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات]، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر].
وأمَّا مخالفته للحديث فقد روى مسلم في صحيحه والبيهقيُّ وغيرهما أنّ رسول الله ﷺ قال: «كُلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس»([6])، فالعجز: البلادة، والكيس: الذكاء.
وقال ﷺ: «إنَّ الله صانعُ كلّ صانعٍ وصنعتِه» رواه ابن حبان.
وأمَّا مخالفته لصريح العقل فهو أنَّه يلزم من قوله المذكور أن يكونَ الله مغلوبًا؛ لأنَّه يكون العبد على ذلكَ خالقًا لهذه المعاصي على رغم إرادة الله، والله لا يكون إلا غالبًا قال تعالى: {واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [سورة يوسف]، أي: لا أحد يمنع نفاذ مشيئته.
ومن أراد المزيد من الأدلّة العقلية والنقليَّة فليراجع بحثًا نفيسًا في هذا الكتاب في الردّ على القرضاوي في عقيدته الفاسدة بالقضاء والقدر حيث يعتقد نفس عقيدة المعتزلة وحزب التحرير.
الرَّدُّ:
اتفق أهلُ الحقّ على أنَّهُ يجبُ للأنبياءِ الصدقُ والأمانةُ والفطانةُ، فعُلِمَ من هذا أنَّ الله تعالى لا يختارُ لهذا المنصبِ إلا من هو سالمٌ من الرَّذالةِ والخيانةِ والسَّفاهةِ والكذبِ والبلادةِ، فمن كانت له سوابقُ من هذا القبيلِ لا يصلحُ للنبوةِ ولو تخلى منها بعد.
وتجبُ للأنبياء العصمةُ من الكفرِ والكبائرِ وصغائِرِ الخسَّةِ والدناءةِ، وتجوزُ عليهم ما سوى ذلكَ من الصغائرِ التي ليس فيها خسَّةٌ، وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ كما نقلهُ غيرُ واحدٍ، وعليهِ الإمامُ أبو الحسَنِ الأشعريُّ.
فعلى قول النبهاني تصحُّ النبوةُ لمن كان لصًّا سرّاقًا نبَّاشًا للقبورِ ولواطيًّا إلى غير ذلكَ من الرّذالاتِ التي تحصلُ من البشرِ.
ويقولون في كتابهم المسمّى: «دستور حزب التحرير»([8])، وكتاب يسمّى: «الشخصية الإسلامية»([9]) في الأمور التي يتغير بها حال الخليفة فيخرج بها عن كونه خليفة ويجب عندئذٍ عزله في الحال بزعمهم: «الفسق فسقًا ظاهرًا».
ويقول النبهاني في كتابه المسمّى: «نظام الإسلام» ما نصُّهُ([10]): «وإن خالف الشرع أو عجز عن القيام بشؤون الدولة وجب عزله حالًا».اهـ.
الرَّدُّ:
هذا الكلام مخالف لأحاديث تؤكد أمر الخليفة، يخالف قوله ﷺ: «من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإنَّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهليَّة» رواه مسلم([11])، ويخالف الحديث الصحيح المشهور الذي يأمر بعدم الخروج على الخليفة إلا من أجل الكفر ونصّه: «وأن لا ننازع الأمر أهله إلّا أن تروا كفرًا بواحًا» رواه البخاريّ ومسلم([12])، ومعنى: «بواحًا»، أي: ظاهرًا.
قال الحافظ النووي في شرح هذا الحديث ما نصّه([13]): «ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم، ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرًا محققًا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحقّ حيث ما كنتم. وأمّا الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته وأجمع أهل السُّنَّة أنَّه لا ينعزل السلطان بالفسق».اهـ.
وهؤلاء التحريرية جعلوا الخليفة ملعبة كالكرة بين أيدي اللاعبين، فالخليفة لا يُقلع بالمعصية لكن لا يطاع فيها، ففي صحيح مسلم([14]) أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص قال له عبد الرحمٰن بن عبد ربّ الكعبة: «إنّ ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن نقتل أنفسنا ـ أي: بعضنا بعضًا ـ والله تعالى يقول: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [سورة النساء]، ويقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [سورة النساء]»، فسكت عبد الله بن عمرو ثم قال: «أطعه في طاعة الله، واعصه في معصية الله».اهـ.
فالخليفة إن كان يأمر بالخير والشر مهما فسق لا يرفع عليه سلاح لأنّ الفتنة التي تتسبب عن خلعه أعظم من معصيته.
ويذكرون في نفس الكتاب ما نصّهُ([17]): «فالمسلمون جميعًا ءاثمون إثمًا كبيرًا في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين، فإن أجمعوا على هذا القعود كان الإثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة».اهـ. ويذكرون في موضع من كتابهم المسمّى «الخلافة»([18])، وكتاب «الشخصية الإسلامية» ما نصّه([19]): «والمدة التي يمهل فيها المسلمون لإقامة خليفة هي ليلتان، فلا يحل أن يبيت ليلتين وليس في عنقه بيعة».اهـ. ويقولون في كتاب يسمّى: «الدولة الإسلامية» ما نصّه([20]): «وإذا خلا المسلمون من خليفة ثلاثة أيام أثموا جميعًا حتى يقيموا خليفة».اهـ.
ويقولون في كتاب «مذكرة حزب التحرير إلى المسلمين في لبنان» ما نصّه([21]): «والمسلمون في لبنان كما في سائر المسلمين ءاثمون عند الله إذا لم يعملوا على إعادة الإسلام للحياة ونصب خليفة واحد يجمع أمرهم».اهـ.
الرَّدُّ:
هذه العبارات من جملة تحريفهم للكلم عن مواضعه فإنّ هذا الحديث رواه مسلم([22]) عن ابن عمر بهذا اللفظ: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، فهم يذكرون منه للناس الجملة الأخيرة فيكررون: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» مع إيهامهم أن ذلك لم يتكلم معهم في أمر الخليفة كما هم يتكلمون بألسنتهم.
ومعنى الحديث ليس كما يزعمون إنما المعنى أن من تمرد على الخليفة واستمر على ذلك إلى الممات تكون مِيتَتُهُ ميتة جاهلية، كما يدل على ذلك حديث مسلم([23]) عن ابن عباس عن النبيّ ﷺ: «من كره من أميره شيئًا فليصبر فإنّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهليَّة».
فقوله: «فمات عليه» صريح في أنّ الذي يموت ميتة جاهلية هو الذي يأتيه الموت وهو متمرّد على السلطان، ويدل عليه أيضًا حديث أبي هريرة أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليَّة»، رواه مسلم.
ويدل على ذلكَ أيضًا حديث البخاريّ ومسلم([24]) عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله ﷺ بعد وصف الدعاة إلى أبواب جهنَّم قال: «فالزموا جماعة المسلمين وإمامهم»، قال حذيفة: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلّها»، لم يقل رسول الله ﷺ فإذًا أنتم تموتون ميتة جاهليَّة.
ثمَّ ما يدَّعيه حزب التحرير فيه حرج، فالمسلمون اليوم عاجزون عن نصب خليفة والله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة]، فهم ضربوا بحديث البخاري ومسلم عُرض الحائط وتشبثوا بحديث مسلم في غير محلّه.
وقد قيل لأحدهم في ألمانيا مرة واسمه أبو كريم بعد أن ذُكر له: نحن الآن لا نستطيع إقامة الخلافة الإسلامية، فقال: بلى، فقيل له: إذن ما الذي يُقعدكم في ألمانيا لماذا لا تذهبون إلى البلاد العربية فتقيمون الخلافة الإسلامية هناك؟ فقال: إنّي أخاف على نفسي، فقيل له: هذا تناقض فسكت.
فتبيَّن بطلان قولهم وتمويههم، وغرضهم التشويش على المسلمين حتى يتبعوهم ويبايعوا زعيمهم تقيّ الدين النبهاني الذي ادّعى الخلافة وبايعه جماعته على ذلك، وقد قسم البلاد – على زعمه – بين أولاده الثلاثة، أحدهم سماه: أمير العراق، والثاني: أمير بلاد الشام، والأخير: أمير مصر، وسمّى زوجته «أمّ المؤمنين» – على زعمه – وقد ادّعى بعضهم أنّ هذا افتراء فإنَّ النبهاني ليس له أولاد([25])، نقول لهم: بيروت حكم بيننا وبينكم وهي ليست في أقصى الشرق فما هذه المكابرة. والآن بعد موته نصبوا خليفة وهو موجود في الدانمارك أقام الحدّ على من زنى منهم.
الرَّدُّ:
في هذا الكلام مخالفة للإجماع، وللحديث: «كُتب على ابن ءادم نصيبه من الزنى مدرك ذلكَ لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا» رواه البخاريّ ومسلم وغيرهما([26])، وقد ذكر النووي في شرحه على مسلم كون المشي للزنى حرامًا، واللمس حرامًا بدليل الحديث المذكور.
وفي رواية ابن حبان([27]): «واليد زناها اللمس».
فإنكار حزب التحرير حصول هذا مكابرة، نقول لهم: لما لم يكن عندكم حجة شرعية عدلتم إلى هذه المكابرة، فكم من شخص شاهد في طرابلس ذلك المنشور وخبره مشهور عند الطرابلسيين، لكن لما خفتم شدة الفضيحة عليكم أخذتم النسخ وعدتم إلى الإنكار كعادتكم.
الجواب: قد فهم من مجموع الأجوبة المذكورة أن القبلة بشهوة مباحة وليست حرامًا لذلك نصارح الناس بأن التقبيل من حيث هو تقبيل ليس بحرام؛ لأنّه مباح لدخوله تحت عمومات الأدلة المبيحة لأفعال الإنسان العادية، فالمشي والغمز والمص وتحريك الأنف والتقبيل وزم الشفتين إلى غير ذلك من الأفعال التي تدخل تحت عمومات الأدلة فالصورة العادية ليست حرامًا؛ بل هي من المباحات، ولكن الدولة تمنع تداولها وتقبيل رجل لامرأة في الشارع سواء كان بشهوة أم بغير شهوة، فإن الدولة تمنعه في الحياة العامة.
فالدولة في الحياة العامة قد تمنع المباحات.. فمن الرجال من يلمس ثوب المرأة بشهوة، ومنهم: من ينظر إلى حذائها بشهوة، ويسمع صوتها من الراديو بشهوة، وتتحرك فيه غريزة الجنس على وجه يحرك ذكره من سماع صوتها مباشرة، أو من الغناء، أو من قراءة إعلانات الدعاية أو من وصول رسالة منها، أو نقل له منها مع غيرها فهذه أفعال بشهوة كلها تتعلق بالمرأة، وهي مباحة لدخولها تحت أدلة الإباحة».اهـ.
ويذكرون في منشور ءاخر ما نصُّه([28]): «ومن قبَّل قادمًا من سفر رجلًا كان أو امرأة، أو صافح ءاخر رجلًا كان أو امرأة، ولم يقم بهذا العمل من أجل الوصول إلى الزنى أو اللواط فإنَّ هذا التقبيل ليس حرامًا، ولذلكَ كانا حلالين».اهـ.
وقالوا أيضًا بجواز مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية زاعمين أن الرسول صافح بدليل حديث أم عطية في المبايعة المروي في البخاري: «قالت: فقبضت امرأة منا يدها» فإن غيرها لم تقبض يدها، وقالوا([29]): «البيعة تكون مصافحة باليد أو كتابة ولا فرق بين الرجال والنساء فإنّ لهن أن يصافحن الخليفة بالبيعة كما يصافحه الرجال».
وقالوا في منشور لهم عنوانه: «حكم الإسلام في مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية» بعد كلام طويل ما نصُّه([30]): «وإذا أمعنا النظر في الأحاديث التي فهم منها بعض الفقهاء تحريم المصافحة نجد أنّها لا تتضمن تحريمًا أو نهيًا».اهـ.
وختموا هذا المنشور بقولهم: «وما يصدق على المصافحة يصدق على القبلة».اهـ.
الرَّدُّ:
روى ابن حبان([31]) عن أُميمة بنت رُقَيقَة وإسحاق بن راهويه بسند جيّد عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا أنّ النبيّ ﷺ قال: «إنّي لا أصافح النّساء» قال الحافظ ابن حجر بعد إيراده للحديث ما نصّه([32]): «وفي الحديث أنّ كلام الأجنبية مباح سماعه، وأن صوتها ليس بعورة، ومنع لمس بشرة الأجنبية بلا ضرورة».اهـ.
أمَّا حديث أم عطية الذي ورد في البخاري فليس نصًّا في مس الجلد للجلد، وإنما معناه كُنَّ يُشرنَ بأيديهن عند المبايعة بلا مماسَّة فتعين تأويله توفيقًا بين الحديثين الثابتين؛ ولأنَّه يتعيَّن الجمع بين الحديثين إذا كان كل واحد منهما ثابتًا.
ثمَّ إنَّه قد ورد في «صحيح البخاري» قبل الباب الذي ورد فيه حديث أمّ عطية حديثٌ عن عائشة رضي الله عنها قالت: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله ﷺ: «قد بايعتُك كلامًا»، ولا والله ما مسَّت يدُه يَدَ امرأةٍ قطُّ في المبايعةِ، ما يُبَايعُهُنّ إلا بقوله: «قد بايعتُك على ذلك». فلو كان معنى المبايعة المصافحة كما زعموا لكان في كلامها تناقض.
قال ابن منظور في لسان العرب([33]): «وبايعه عليه مبايعة: عاهده»، وفي الحديث: «ألا تبايعوني على الإسلام»، هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة». انتهى كلام ابن منظور. فليست المبايعة من شرطها لغة ولا شرعًا مسُّ الجلد للجلد، فالمبايعة تصدق على المبايعة بلا مسّ ولكن للتأكيد بايع الصحابة النبي ﷺ في بيعة الرضوان بالأخذ باليد، وقد تكون المبايعة بالكتابة.
ومما يرد كذبهم بأن غير أمّ عطية مدت يدها للرسول فصافحته في المبايعة حديث البخاري أيضًا من قول عائشة: لا والله ما مسّت يدُه يَدَ امرأةٍ قطّ في المبايعةِ، ما يبايعهنّ إلا بقوله: «قد بايعتك على ذلك»، وأيضًا يقال لهم: أينَ في حديث أمّ عطية النصّ على أنّ غيرها قد صافح النبيّ؟! فهذا وهم منهم وافتراء.
ويدل أيضًا على تحريم المصافحة ومس الأجنبية بلا حائل حديث: «لأن يُطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمسّ امرأة لا تحلُّ له»، رواه الطبرانيّ في المعجم الكبير من حديث معقل بن يسار([34])، وحسّنه الحافظ ابن حجر ونور الدين الهيثميّ والمنذريّ وغيرهم.
ثمّ المسّ في الحديث معناه: الجسّ باليد ونحوها ليس الجماع كما زعمت التحريرية، وراوي الحديث معقل بن يَسار فهم من الحديث خلاف ما تدّعيه التحريرية كما نقل ذلكَ عنه ابن أبي شيبة في مصنّفه.
فتبيّن أنّ التحريرية افتروا على رسول الله ﷺ، وكذّبوا عائشة رضي الله عنها، وحرّفوا اللغة العربية، وأباحوا ما حرّمه رسول الله ﷺ.
ومما يدل على جهلهم أنّهم ادعوا أنّ حديث الطبراني في تحريم مصافحة الأجنبية من قبيل خبر الآحاد ولا يعمل به في الأحكام، فنرد عليهم بما قرره الأصوليون من أنه حجة في سائر أمور الدين كالشيخ الإمام الأصولي المتبحر أبي إسحاق الشيرازي حيث قال في كتابه «التبصرة» ما نصّه: «مسألة: يجب العمل بخبر الواحد من جهة المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول، ثم أبطل قول القدرية الذين لم يوجبوا العمل به، ثم يقول النووي: والشرع قد جاء بوجوب العمل بخبر الواحد».اهـ. ولم يخالف في ذلك باشتراط التواتر إمام من الأئمة إلا الآمدي وكلامه لا حجّة فيه. فظهر بلا خفاء مكابرة حزب التحرير للحقيقة.
ثمَّ ما يروى من أنّ النبيّ كانت تقوده أمة سوداء في أحياء المدينة ويقولون في هذا الحديث حجّة على جواز مصافحة المرأة بلا حائل.
يقال لهم: هذا الحديث ليس فيه النصّ على أنها كانت تأخذ بيده مصافحة بلا حائل، وليس هناك دليل على أنها كانت في حد مشتهاة، ومع هذا لا يجوز إلغاء الحديث الصريح الذي في مسلم: «واليد زناها البطش» من أجل ذلك الحديث الذي يدخله الاحتمال وهذا خلاف قاعدة الأصوليين والمحدثين أنه إن تعارض حديثان ثابتان إسنادًا في الظاهر يجب الجمع يبنهما ما أمكن، فإن لم يُمكن فإن عُرف المتأخر كان ناسخًا والمتقدم منسوخًا، وإلا ذُهب إلى الترجيح، فلو ذهبنا إلى الترجيح كان هذا الحديث أي حديث مسلم هو المعمول به؛ لأن عليه إجماع الأئمة، فإن المذاهب الأربعة يحرمون المس بلا حائل بشهوة وبدون شهوة، فالحديث الذي يوافق عمل الأكثر عند المحدثين والأصوليين يكون راجحًا على الذي يخالفه، فكيف بالذي يجمع عمل الجميع؟!
وانظر أيها القارئ إلى فساد قولهم: إنه لا يحرم المشي للزنى ولا تحرم قبلة الرجل للمرأة الأجنبية وبالعكس، وكذا الغمز والمص ولمس ثوب المرأة بشهوة، وعدّوا كل ذلك من المباحات، أليس هذا الكلام مخالفًا لحديث الطبراني المذكور؟ ومخالفًا لحديث مسلم([35]): «كُتب على ابن ءادم نصيبه من الزنى مدرك ذلكَ لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى ويُصدّق ذلك الفرج ويكذبه»، وفي رواية لأبي داود([36]): «واليدان تزنيان فزناهما البطش، والرجلان تزنيان فزناهما المشي، والفم يزني فزناها القُبَل»؟ وفي رواية ابن حبان([37]): «واليد زناها اللمس».
وما فعلوه يكفي كفرًا لأن ردّ النصوص كفر كما قال النسفي وغيره. فكيف يصح لهم دعوى الإسلام مع معارضته؟ بينما المسلم من سلَّم الله ورسوله ولم يردَّ نصَّ القرءان ولا نصَّ الحديث.
نقول لهم بِينُوا عن دعوى الإسلام – أي: ابتعدوا – لأنكم لستم من أهله فقد رددتم النصوص.
وقد قال أحد أعضاء هذا الحزب من سكان طرابلس الشام بعد أن قيل له: كيف تقولون بجواز تقبيل الرجل للمرأة الأجنبية، بشهوة أو بغير شهوة، قال: نعم يقبلها وهو مغمض العينين، وهذا يدل على سخافة فهمه حيث أحلّ التقبيل وحرم النظر، والحقيقة التي يعرفها علماء المسلمين أن القبلة أشدّ من النظر. والمعلوم عند علماء الدين أن الوسائل أخف إثمًا من مقاصدها وكذلكَ وسائل الطاعات أقلّ ثوابًا من مقاصدها، والنظر وسيلة إلى القبلة ونحو ذلك، والوضوء وسيلة للصلاة والصلاة أعظم أجرًا من الوضوء. فهؤلاء عكسوا ما يعرفه علماء المسلمين وهذا يدل على أن غايتهم التشويش على المسلمين لإيقاع التنافر بينهم.
تنبيه: تحليل حزب التحرير تقبيل المرأة الأجنبية ومصافحتها بشهوة وبدون شهوة ردّ للنصّ الشرعيّ؛ كالحديث المذكور الذي فيه: «وزنى اليد البطش»، والإجماع، وهو متضمن إنكار ما عُلم من الدّين بالضرورة وذلك ردّة، وكذا من اعتقد أنّ العبد يخلق فعل نفسه.
فمن كان من المنتسبين إلى هذا الحزب أو لم يكن وحصل منه ذلكَ فهو كافر خارج من الإسلام يجري عليه حكم المرتد من عدم جواز تزويجه بمسلمة، وعدم دفنه في مقابر المسلمين والصلاة عليه والترحم عليه بعد موته والاستغفار له، وعدم توريثه من قريبه ونحو ذلك من أحكام المرتدين، وهذا أمر مهم يجب نشره لئلا يتورط الناس بمعاملتهم معاملة المسلمين.
ومن أعجب الكفر والضلال الذي ظهر من بعضهم مما نشأ من فساد تعاليمهم فيما يبنهم أنهم يعلقون وجوب الصلوات الخمس بقيام الخليفة فما لم يقم لا تجب عندهم، وهذا إن لم يكن في جميع الأفراد المنتسبين إليهم لكنه حاصل من بعضهم. وقد شوهد من بعض جماعتهم في طرابلس الشام أنَّه قام من المجلس لما حانت صلاة المغرب فقيل له: صلّ، فقال: لما تقوم الخلافة.
الرَّدُّ:
في هذا الكلام فتح لباب الفتوى بغير علم، ألم يعلموا أنّ المجتهد هو من علم ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسُّنَّة، وعرف الخاص والعامّ والمطلق والمقيّد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، وعرف من السُّنَّة المتواتر والآحاد والمرسل والمتصل وعدالة الرواة وجرحهم، وعرف أقاويل الصحابة فمن بعدهم من المجتهدين إجماعًا وغيره، وعرف القياس جليه وخفيه وصحيحه وفاسده، وعرف لسان العرب الذي نزل به القرءان، وعرف أصول الاعتقاد، ويشترط أن يكون عدلًا قويّ القريحة، حافظًا لآيات الأحكام وأحاديث الأحكام؟
ثم إن المجتهد يشهد له أهل العلم بذلك، ولم يشهد أحد من العلماء المعتبرين لتقي الدين النبهاني بذلك ولا بأقل من ذلك مرتبة، وأنّى يكون مثلُ هذا الرجل مجتهدًا.
ويكفي في ردّ مقالتهم هذه الحديث المتفق على تصحيحه؛ بل هو من المتواتر: «نضَّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرُبّ حامل فقه ليس بفقيه، ورُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، فقوله u: «فربّ حامل فقه ليس بفقيه»، معناه: أن منكم من ليس له حظّ من الحديث الذي يسمعه مني أن يفهم ما فيه من الأحكام، إنما حظه أن يبلغه لغيره، فلذلك الغير قد يكون ممن له حظّ في الاستنباط والاجتهاد، فقد قسم الرسول أصحابه إلى قسمين جعل قسمًا لا حظّ لهم في الاستنباط والاجتهاد وهم مجرد رواة يُسمعون الغير ما سمعوه منه ﷺ، فجعل هذا الصنف الأكثر.
الرَّدُّ:
هذا الكلام منابذ لأقوال فقهاء الإسلام المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب التي انقرضت بانقراض أتباعها كمذهب سفيان الثوري وابن جرير والأوزاعي، فعند جمهور الفقهاء البلاد التي كان المسلمون مستولين عليها ثم تغير الحال فاستولى عليها الكفار تبقى دار إسلام، ويقول أبو حنيفة في البلاد التي كان المسلمون مستولين عليها ثم استولى عليها الكفار: إنها تصير دار كفر بشروط ثلاثة قرروها، ومن شاء فليراجع.
أما قول هذا الكاتب التحريري فهو غلط محض لا اعتبار له في الفقه الإسلامي وذلك لبُعد هذه الفرقة عن علم الدين، فإنها لا تمارس علم الدين بالطريقة التي درج عليها السلف والخلف، إنما هي تعكف على منشوراتها ورسائل زعيمها تقي الدين النبهاني وما تفرع منها.
فمن نظر بعين التأمل إلى تصرفات هذه الفرقة علم أنها تدعو المسلمين إلى الفوضى والتهور.
وما ذهبت إليه هذه الفرقة التحريرية هو دعوة إلى الفوضى في أمور الدين، فكيف تصلح الفوضى في أمور الدين وهي لا تصلح في أمور الدنيا، قال الأفوهُ الأوديُّ:
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سراة لهم |
| ولا سراة إذا جهالهم سادوا |
ثم لا يستغرب قبل هذا الذي ذكرنا عنهم فلقد قيل لمؤسس حزبهم تقي الدين النبهاني لماذا لا تحفظ تلاميذك القرءان؟ فقال: ما أريد أن يخرجوا دراويش…
([2]) راجع: بحث (القرضاوي يعتقد في القضاء والقدر عقيدة المعتزلة).
([3]) انظر: الكتاب الجزء الأول – القسم الأول (ص17 – 27).
([6]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب: كل شيء بقدر، مسند أحمد (2/110)، الاعتقاد، للبيهقي (ص86).
([7]) انظر: الكتاب الجزء الأول – القسم الأول (ص120).
([9]) انظر: الكتاب الجزء الثاني – القسم الثالث (ص107، 108).
([11]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.
([12]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب: قول النبي r: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها»، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية.
([13]) شرح صحيح مسلم (12/229).
([14]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول.
([15]) انظر: الكتاب – الجزء الثاني – القسم الثالث (ص31 و92).
([19]) انظر: الكتاب الجزء الثاني – القسم الثالث (ص51).
([22]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.
([24]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب: كيف الأمر إن لم تكن جماعة، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن.
([25]) راجع: مقدمة هذا البحث وفيها تفاصيل أسماء الأولاد والزوجة.
([26]) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاستئذان، باب: زنا الجوارح دون الفرج، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب: قدّر على ابن ءادم حظه من الزنى وغيره.
([27]) انظر: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (6/300).
([28]) منشور جواب وسؤال بتاريخ 8 محرم 1390هـ.
([29]) راجع: الكتاب المسمّى الخلافة (ص22، 23)، والكتاب المسمّى الشخصية الإسلامية: الجزء الثاني – القسم الثالث (ص22 – 32)، والجزء الثالث منه (ص107، 108).
([30]) منشور صدر بتاريخ 12 جمادى الأولى 1400هـ = 7 – 4 – 1980.
([31]) انظر: الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (7/41).
([34]) المعجم الكبير (20/211 – 212).
([35]) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب: قدر على ابن ءادم حظه من الزنى وغيره.
([36]) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، باب: فيما يؤمر به من غض البصر.