يقول في كتابه المسمّى «غير المسلمين»([1]): «اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين وقع بمشيئة الله الذي منح هذا النوع من خلقه الحرية والاختيار فيما يفعل ويدع «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر». المسلم يوقن أن مشيئة الله لا راد لها ولا معقب.
الرَّدُّ:
هذا الكلام مخالف للقرءان والحديث وصريح العقل. فأما القرءان فقد قال الله تعالى: {وَخَلَق كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [سورة الفرقان: 2]، وقال: {وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [سورة الصافات: 96]، وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر: 49]، والشيء هنا شامل لكل ما يدخل في الوجود من أجسام وحركات العباد وسكونهم، ما كان منها اختياريًا وما كان منها اضطراريًا. والأفعال الاختيارية أكثر بكثير من غير الاختيارية. فلو كان كل فعل اختياري من العباد بخلق العبد لكان ما يخلقه العبد من أعماله أكثر مما يخلقه الله من أعمال العباد، والشيء معناه في اللغة الموجود، وهذه الأعمال أعمال الإنسان الاختيارية موجودة.
فثبت أن قول القرضاوي هو ردّ للنصوص القرءانية والحديثية، قال الله تعالى: {فَمَن يَهْدِي مَنْ أضَلَّ اللَّـهُ} [سورة الروم: 29]، وقال تعالى إخبارًا عن موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [سورة الأعراف: 155]، وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة القصص: 56]، أي: لا يخلق الاهتداء في قلوب العباد إلا الله. وفي قوله تعالى حكاية عن موسى: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءَ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ} تصريح ظاهر بأن الله هو الذي يخلق الاهتداء في قلوب مَن شاء أن يهديهم، والضلالة في قلوب من شاء أن يضلهم، ولا معنى في اللغة لقوله تعالى: {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ} إلا أن الله يخلق الضلالة في قلب من يشاء، وأنه يخلق الاهتداء في قلب من يشاء، أي: الله؛ لأن الضمير في قوله: {تُضِلُّ}، وقوله: {تَشَاءُ} لا مرجع له إلا إلى الله، ولا يحتمل إرجاعه إلى العبد. فما ذهب إليه حزب التحرير معارضةٌ ظاهرة لكتاب الله.
وكلام القرضاوي مخالف أيضًا لقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفِئَدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ} [سورة الأنعام: 110]، فقد أخبر الله في هذه الآية بأن عمل العبد القلبي وعلمه الذي يعمله بجوارحه من فعل الله تعالى فهل لهم من جواب على هذه الآية؟!
وقال تعالى: {وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ} [سورة البقرة: 102]، أي: إلا بمشيئته؛ لأن الإذن هنا لا يصح تفسيره بالأمر لأن الله لا يأمر بالفحشاء، فتعين تفسيره هنا بالمشيئة، والسحر من الأفعال الاختيارية.
وقال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّـهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّـهِ} [سورة النساء: 78]، وقال: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سورة سبأ: 54]، وقال: {إِن كَانَ اللَّـهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} [سورة هود: 34]، وقال: {كَذَلِكَ زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [سورة الأنعام: 108]، وقال: {خَتَمَ اللَّـهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [سورة البقرة: 7]، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [سورة النساء: 155]، وقال: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ ِإِلَّا بِإذْنِ اللَّـهِ} [سورة يونس: 100]، وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [سورة التكوير: 29]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [سورة النحل: 20]، وقال تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [سورة لقمان: 11]، وقال تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ} [سورة البقرة: 128]، وهذا تصريح بأن العبد لا يصير مسلمًا إلا بأن يجعله الله مسلمًا، وذلك يدل على أن الإسلام يحصل بخلق الله، وقال تعالى: {وَجَعَلَنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [سورة الحديد: 27]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [سورة الأنبياء: 73]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [سورة القصص: 41]، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّـهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّـهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [سورة المائدة: 60]، وهذا تصريح بأنه تعالى جعلهم عبدة الطاغوت، وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّـهِ} [سورة النحل: 53]، وقال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [سورة الأنفال: 17]، فأضاف الله قتلهم ورميهم إلى نفسه، وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} [سورة الكهف: 28]، فلا يمكن حمل هذه الآية إلى على خلق الغفلة في القلب، وقال تعالى حكاية عن إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [سورة إبراهيم: 35]، وقال حكاية عن يوسف: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} [سورة يوسف: 33]، وقال لنبيّه محمد ﷺ: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [سورة الإسراء: 74]، فكل هذه النصوص تدل على أن الإيمان والكفر من الله تعالى يخلقه فيمن يشاء من عباده والعبد ليس له إلا الفعل وهو أمر دون الخلق. وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [سورة السجدة: 13]، وقال: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [سورة الحجرات: 7]، إلى سائر ما ورد في كتاب الله U في هذا المعنى من أن الله U هو المعطي بمنّهِ وفضله من يشاء من عبيده الإيمان وهو محببه إليه ومزينه في قلبه وهاديه إلى الصراط المستقيم، وأن الله ختم على قلوب بعض عباده، وأن أحدًا لا يستطيع أن يعمل غير ما كُتب له، وأنه لا يملك لنفسه وغيره نفعًا ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، وأن أفعال العباد كلها تقع بمشيئة الله جلَّ ثناؤه وإرادته، وأنه لا يقع لبشر قول ولا عمل ولا نية إلا بمشيئته تعالى وإرادته.
وأما مخالفته للحديث فقد روى مسلم في صحيحه والبيهقي وغيرهما([4]) أن رسول الله ﷺ قال: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس»، والعجز: البلادة، والكيس: الذكاء، وقال ﷺ: «إن الله صانع كل صانع وصنعته» رواه ابن حبّان من حديث حذيفة([5])، وقال: «القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» رواه أبو داود في سننه والبيهقي في كتابه «القدر»([6])، وقال ﷺ: «ستة لعنتُهم ولعنهم الله وكل نبي ماب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله…» الحديث([7]).
وخالف أيضًا الحديث الذي أخرجه ابن جرير الطبري في كتابه «تهذيب الآثار» وصححه([8]) وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «صنفان من أمتي لا نصيب لهما في الإسلام: القدرية، والمرجئة»، فهذا الحديث صريح في تكفير أهل القدر القائلين بأن العبد هو الذي يخلق أعماله بإرادته وتقديره كهذه الفرقة، فبهذه المقالة جردوا أنفسهم من الإسلام وانسلخوا منه كما تنسلخ الحية من جلدها.
وخالفَ أيضًا حديث مسلم عن أبي الأسودِ الدؤلي([9]) قال: قال لي عمرانُ ابن الحصينِ: أرأيتَ ما يعملُ الناسُ اليومَ ويكدحونَ فيه أشيءٌ قُضيَ عليهم ومضى عليهم من قدرٍ قد سبقَ أو فيما يُستقبلونَ به مما أتاهم به نبيُّهُم وثبتتِ الحجةُ عليهم؟ فقلت: بل شيءٌ قُضي عليهم ومضى عليهم، فقال: أفلا يكونُ ظلمًا؟ قال: ففزِعتُ من ذلك فزعًا شديدًا وقلتُ: كل شيءٍ خَلقُ الله ومِلكُ يدهِ فلا يُسألُ عما يفعلُ وهم يُسألون، فقال لي: يرحمكَ الله إني لم أُرد بما سألتُكَ إلا لأحرِزَ عقلكَ، إن رجلينِ من مُزَينَةَ أتيا رسولَ الله ﷺ فقالا: يا رسولَ الله أرأيتَ ما يعملُ الناسُ اليومَ ويكدحونَ فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدرِ قد سبق أو فيما يُستقبلونَ به مما أتاهم به نبيُّهم وثبتتِ الحجةُ عليهم؟ فقال: «لا بل شيءٌ قُضيَ عليهم ومضى فيهم»، وتصديقُ ذلك في كتابِ الله U: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [سورة الشمس: 7، 8].اهـ.
وروى الترمذي([10]) بإسناده عن الحسن بن علي أنه قال: علمني رسول الله ﷺ كلمات أقولهن في الوتر: «اللَّهُمَّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت» فدل قوله: «اللَّهُمَّ اهدني فيمن هديت» على أن الهداية من الله، ودل قوله: «وقني شر ما قضيت» على أنه تعالى قضى بالشر، كما أنه قضى بالخير.
وقوله عليه الصلاة والسلام([11]): «وكتب في الذكر كل شيء» يدل على أن العبد لو أتى بخلاف ذلك المكتوب لصار حكم الله باطلًا وخبره كذبًا، وذلك محال والمؤدي إلى المحال محال، فثبت على أن كل ما كتب في اللوح المحفوظ واقع، وأن العبد لا قدرة له على خلافه.
ثم إن الآية {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} تكفي للرد عليهم، فهم يقولون: القدر هنا العلم، نقول لهم: القدر هنا اتبع الخلق، الله قال {خَلْقَناهُ بِقَدَرٍ} فهذا نص في أن كل شيء خرج من العدم ودخل في الوجود هو بتخليقه وإيجاده؛ أي: إخراجه من العدم إلى الوجود، ليس لهم جواب عن هذا لا هم ولا المعتزلة.
فإن قيل: أليس ذات الله يدخل تحت عموم {كُلَّ شَيْءٍ}؟ يقال: ذات الله أزلي أبدي لا يصح في العقل أن يكون مخلوقًا؛ لأن الأزلي لا يُخلق إنما يخلق ما يجوز عليه العدم والوجود وهو كل الحادثات من أجسام وأعراض وأعمال وحركات قلبية وظاهرية، فلا يدخل واجب الوجود الأزلي تحت كلمة شيء هنا، ولا المستحيل العقلي كوجود الشريك لله أو مماثل له، فما سوى ذلك لا يستثنى منه شيء، فيقال لهم: قولكم إن أعمال العباد الاختيارية لا تدخل تحت الآية مناف للعقل والنقل فيكون القول بما قلتم به إشراكًا لله لأنكم جعلتم العبد شريكًا لله في خلق أفعال العبد فكذبتم قول الله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غيرَ اللَّـهِ}، وهذه الآية وحدها تكفي لإبطال عقيدتكم وإثبات كفركم، وهي أكبر حجة عليكم وعلى من شابهكم ممن يقول بخلق العبد أفعاله، أي: يخرجها من العدم إلى الوجود.
فإن قلتم: إن التكليف لا يصح بدون ذلك، قلنا: يصح بدليل قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّـه قَتَلَهُمْ}، فالقتل الذي نفاه الله تعالى هو القتل من حيث الإيجاد والتخليق؛ أي: لم تخلقوا قتلهم؛ بل قتلهم بفعل الله تعالى على الحقيقة، أما أنتم فليس لكم في ذلك إلا الكسب، فإن الله لم يعن بذلك أنه لم يحصل منهم كسبهم الذي حصل به موتُ أولئك من حيث الكسب، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّـه رَمَى} نفى الرمي عن رسول الله من حيث الحقيقة وأثبته لنفسه، وأثبت للرسول بقوله: {إذْ رَمَيْتَ} كسبَ ذلك. فأعلمنا الله تعالى أن كل أفعال العباد الاختيارية من حيث الكسب تُنسب للعبد ومن حيث التكوين والإيجاد أي: الإبراز من العدم إلى الوجود إلى الله لا شريك له في ذلك، ومن خالف في ذلك فهو مشرك بالله، أنتم جعلتم ذات العبد الذي هو واحد خلقًا لله، وجعلتم أفعال العبد التي هي ءالاف مؤلفة كل يوم خلقًا للعبد فبئس الاعتقاد الذي يؤدي إلى جعل مخلوقات العبد أكثر من مخلوقات الله.
وأما مخالفته لصريح العقلِ فهو أنه يلزمُ من قولهم المذكورِ أن يكونَ الله مغلوبًا مقهورًا؛ لأنّه يكونُ العبدُ على ذلكَ خالقًا لهذهِ المعاصي على رغمِ إرادة الله، والله لا يكونُ إلا غالبًا، قال الله تعالى: {وَاللَّـهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [سورة يوسف: 21].
وعلى حسب زعمهم فإنه يَجري في مُلكهِ تعالى شيءٌ بغير مشيئتهِ، وهذا مما لا يصحُ، فإنه لا يجري في الملكِ طرفةُ عينٍ ولا لفتةُ ناظرٍ إلا بقضاءِ الله وقدرِهِ وقدرتهِ ومشيئتهِ، ولا فرقَ بين ما كان خيرًا أو شرًّا، والله لا يُسألُ عما يَفعلُ وهم يسألون.
فلا يصحُّ عقلًا أن يكون وجودُ قسم منها بفعلِ الله ووجودُ قسمٍ ءاخرَ بفعلِ غيره، كما يقولُ المعتزلةُ الذين خالفوا أهل الحق.
ومما يدل على أن العبد لا يخلق شيئًا من أعماله الاختيارية والاضطرارية أنه لو كان فعل العبد بخلقه لكان عالـمًا به على وجه الإحاطة ضرورة أنه مختار. والاختيار فرع العلم لكنه لا يحيط علمًا بفعله لما يجد كل عاقل عدم علمه حال قطعه لمسافة معينة بالأجزاء والحركات التي بين المبدأ والمنتهى.
أيضًا لو جاز أن يكون فعل العبد واقعًا مخلوقًا بقدرته لجاز أن تكون الجواهر وسائر الأعراض بقدرته وذلك باطل.
ثم نجد القرضاوي يناقض نفسه فيقول في كتاب «الخصائص العامة للإسلام» (ص60) ما نصّه: «فإن الله الذي خلق الإنسان هو الذي منحه العقل ومنحه الإرادة ومنحه القدرة فهو بالعقل بفكر وبالإرادة يرجح وبالقدرة ينفذ وهذه كلها منح من الله للإنسان فهو قادر بقدرة الله ومريد بإرادة الله وهذا معنى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ}، فالإنسان يشاء لأن الله شاء له أن يشاء وهو معنى لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: أن الإنسان له حول وقوة يجلب بهما النفع ويرفع بهما الضرر ولكن حوله وقوته ليسا من ذاته ولا بذاته؛ بل حوله وقوته بالله ومن الله».اهـ.
فلو أن القرضاوي يثبت على هذا وينكر ما قاله سابقًا لكان خيرًا له.
أخيرًا: فالقرضاوي إنسان مخاتل مخادع فقد سبق لنا من أقواله أنه يعتقد أن الكفر والمعاصي من صنع الإنسان ومن خلقه وليس من خلق الله وإن الشر بمشيئة الإنسان وليس بمشيئة الله.
وها هو الآن يقول بمقولة أهل الحق ولكنه كلام حق أريد به باطل فيقول في كتابه المسمّى «الإيمان والحياة» ما نصّه([12]): «وهناك أمران في عقيدة المسلم يجعلانه مع استمساكه بدينه وثباته على إيمانه أشد الناس تسامحًا مع المخالفين له والكافرين بدعوته: أولهما: أن المسلم يعتقد جازمًا أن من مقتضيات الإرادة الإلـٰهية التي لا تخلو عن الحكمة اختلاف الناس في الدين والإيمان».اهـ. ثم يقول: «وإذا كانت مشيئة الله نافذة ومشيئته تعالى مرتبطة بحكمته فكيف يقاوم المؤمن مشيئة الله أو ينكر حكمة الله».اهـ.
[1])) انظر: الكتاب (ص49).
[2])) انظر: الكتاب (ص77).
[3])) انظر: الكتاب (ص221).
[4])) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب: كل شيء بقدر، والبيهقي في كتابه الاعتقاد، باب: القول في الإيمان بالقدر (ص86)، وأحمد في مسنده (2/110).
[5])) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/31 و32)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص26 و260 و388).
[6])) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السُّنَّة، باب: في القدر.
[7])) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب القدر، باب: (126)، والحاكم في المستدرك (1/36).
[8])) أخرجه ابن جرير الطبري في تهذب الآثار (2/653).
[9])) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته.
[10])) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الصلاة، باب: ما جاء في القنوت.
[11])) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [سورة الروم: 27].
[12])) انظر: الكتاب (ص158).