الإثنين ديسمبر 23, 2024

 

القرضاوي يزعم أن التبرك بآثار الصالحين وبقبورهم بعد مماتهم هما أوسع أبواب الشرك بالله

ذكر القرضاوي ذلك نصًّا في كتابه المسمّى «العبادة في الإسلام»([1]) إن التبرك بآثار الصالحين وبقبورهم بعد مماتهم هما أوسع أبواب الشرك بالله.

الرَّدُّ:

إن القرضاوي يرمي الناس بالكفر مرة وبالشرك مرة أخرى بغير مناسبة؛ لأن هذه التكفير يتوافق مع أفكاره التي شريها من حزب الإخوان والذي يعتبر من أهم مراجعهم إن لم يكن المرجع الدولي لهم.

اعمل أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبرّكون بآثار النبي ﷺ في حياته وبعد مماته، ولا زال المسلمون بعدهم إلى يومنا هذا على ذلك، وجواز هذا الأمر يعرف من فعل النبي ﷺ وذلك أنه ﷺ قسم شعره حين حلق في حجة الوداع وأظفاره.

أما اقتسام الشعر فأخرجه البخاري([2])، ومسلم([3]) من حديث أنس وأحمد من حديث عبد الله بن زيد، ففي لفظ مسلم عنه قال: لما رمى ﷺ الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحالق شقّه الأيمن فحلق، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه، ثم ناوله الشقّ الأيسر فقال: «احلق»، فحلق فأعطاه أبا طلحة فقال: «اقسمه بين الناس».

وفي رواية: فبدأ بالشقّ الأيمن فوزّعه الشعرة والشعرتين بين الناس ثم قال: «بالأيسر» – أي: فَعَلَ – فصنع مثل ذلك، ثم قال: «هـٰهنا أبو طلحة»، فدفعه إلى أبي طلحة.

وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام قال للحلّاق: «ها» وأشار بيده إلى الجانب الأيمن فقسّم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه فأعطاه أم سليم.اهـ.

فمعنى الحديث: أنه وزّع بنفسه بعضًا بين الناس الذين يلونه، وأعطى بعضًا لأبي طلحة ليوزعه في سائرهم، وأعطى بعضًا أم سليم. ففيه التبرّك بآثار رسول الله ﷺ؛ لأن الشعر لا يؤكل إنما يستعمل في غير الأكل، فأرشد الرسول أمّته إلى التبرّك بآثاره كلها حتى بُصاقه، وكان أحدهم أخذ شعرة والآخر أخذ شعرتين، وما قسمه إلا ليتبرّكوا به فكانوا يتبرّكون به في حياته وبعد وفاته، حتى إنهم كانوا يغمسونه في الماء فيسقون هذا الماء بعض المرضى تبرّكًا بأثر رسول الله ﷺ، وهذا الحديث في البخاري([4])، ومسلم([5]) وأبي داود([6]). وقد صحّ أنه ﷺ بصق في فِـي الطفل المعتوه، وكان يعتريه الشيطان كل يوم مرتين وقال: «اخرج عدو الله أنا رسول الله» رواه الحاكم([7]).

فقسم ﷺ شعره ليتبرّكوا به، وليتشفعوا إلى الله بما هو منه، ويتقرّبوا بذلك إليه، وليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، ثم تبع الصحابة في خطتهم في التبرّك بآثاره ﷺ مَن أسعده الله، وتوارد ذلك الخلف عن السلف. فلو كان التبرّك به في حال الحياة فقط لبيّن ذلك.

وخالد بن الوليد t كانت له قلنسوة وضع في طيّها شعرًا من ناصية رسول الله، أي: مقدّم رأسه لما حلق في عمرة الجِعرانة، وهي أرض بعد مكة إلى جهة الطائف، فكان يلبسها يتبرّك بها في غزواته. روى ذلك الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية»([8]) عن خالد بن الوليد أنه قال: «اعتمرنا مع رسول الله ﷺ في عمرة اعتمرها فحلق شعره، فسبقت إلى الناصية، فاتخذت قلنسوة فجعلتها في مقدمة القلنسوة، فما وجهت في وجه إلا فتح لي».اهـ. وعزاه الحافظ لأبي يعلى.

وقال ابن كثير في «البداية والنهاية» عند ذكره محنة الإمام أحمد ما نصه([9]): «قال أحمد: فعند ذلك قال – يعني: المعتصم – لي: لعنك الله، طمعت فيك أن تجيبني فلم تجبني، ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه. قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر، وكان معي شعرات من شعر النبي ﷺ مصرورة في ثوبي، فجردوني منه وصرت بين العقابين».اهـ.

وأمّا الأظفار فأخرج الإِمام أحمد في مسنده([10]) أن النبي ﷺ قلّم أظفاره وقسمها بين الناس.

أما جبّته ﷺ فقد أخرج مسلم في الصحيح([11]) عن عبد الله بن كيسان مولى أسماء بنت أبي بكر قال: «أخرجت إلينا جبّة طيالسة كسروانية لها لبنةُ ديباج وفرجيها مكفوفين بالديباج، وقالت: هذه جبّة رسول الله ﷺ كانت عند عائشة، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي ﷺ يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها». وفي وراية: «تغسلها للمريض منّا».

وعن حنظلة بن حذيم قال: وفدت مع جدّي إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله إن لي بنين ذوي لحى وغيرهم هذا أصغرهم، فأدناني رسول الله ﷺ ومسح رأسي وقال: «بارك الله فيك»، قال الذّيال: فلقد رأيت حنظلة يؤتى بالرجل الوارم وجهه أو الشاة الوارم ضرعها فيقول: «بسم الله على موضع كفّ رسول الله ﷺ فيمسحه فيذهب الورم». رواه الطبراني في «الأوسط» و«الكبير» وأحمد في «المسند»([12])، وقال الحافظ الهيثمي([13]): «ورجال أحمد ثقات».

وعن ثابت قال: كنت إذا أتيت أنسًا يُخْبَرُ بمكاني فأدخل عليه فآخذ بيديه فأقبّلهما وأقول: بأبي هاتان اليدان اللتان مسّتا رسول الله ﷺ، وأقبّل عينيه وأقول: بأبي هاتان العينان اللتان رأتا رسول الله ﷺ. رواه أبو يعلى([14]).

وهذا سيّدنا أبو أيّوب الأنصاري t الذي هو أحد مشاهير الصحابة والذي هو أول من نزل الرسول عنده لما هاجر من مكّة إلى المدينة، جاء ذات يوم إلى قبر رسول الله ﷺ فوضع وجهه على قبر النبيّ تبرّكًا وشوقًا، روى ذلك الإِمام أحمد عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يومًا فوجد رجلًا واضعًا وجهه على القبر فقال: أتدري ما تصنع؟ فأقبل عليه أبو أيّوب فقال: نعم جئت رسول الله ﷺ ولم ءات الحجر، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله». رواه أحمد([15]) والطبراني في «الكبير»([16]) و«الأوسط»([17]).

وروى ابن أبي شيبة([18]) عن أبي مودودة قال: حدَّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: «رأيت نفرًا من أصحاب النبي ﷺ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى رمّانة المنبر القرعاء فمسحوها ودعوا، قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك».اهـ.

وفي كتاب سؤالات عبد الله بن أحمد بن حنبل لأحمد([19]) قال: «سألت أبي عن مسّ الرجل رمّانة المنبر يقصد التبرّك، وكذلك عن مسّ القبر»، فال: «لا بأس بذلك».

وفي كتاب «العلل ومعرفة الرجال» ما نصّه([20]): «سألت عن الرجل يمسّ منبر النبي ﷺ ويتبرّك بمسّه ويقبّله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرّب إلى الله جلّ وعزّ فقال: لا بأس بذلك».

وروى ابن الجوزي في «مناقب أحمد»([21]) بالإسناد المتصل إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: «رأيت أبي – يعني: أحمد بن حنبل – يأخذ شعرة من شعر النبي ﷺ فيضعها على فيه ويقبّلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينيه، ويغمسها في الماء ثم يشربه يستشفي به، ورأيته قد أخذ قصعة النبي ﷺ فغسلها في جبّ الماء ثم شرب فيها…».اهـ.

وروى ابن حبّان في صحيحه([22]) تحت باب: «ذكر إباحة التبرّك بوضوء الصالحين من أهل العلم إذا كانوا متّبعين لسنن المصطفى ﷺ، عن ابن أبي جُحَيْفَةَ، عن أبيه قال: رأيت رسول الله ﷺ في قبّة حمراء ورأيت بلالًا أخرج وَضوءه فرأيت الناس يبتدرون وضوءه يتمسّحون».اهـ. وفيه([23]) عن جابر بن عبد الله أنه قال: «جاءني النبي ﷺ يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب من وضوئه عليّ فعقلت».اهـ.

وروى الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخه([24]) بإسناده إلى علي بن ميمون قال: «سمعت الشافعي يقول: إني لأتبرك بأي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم – يعني: زائرًا -، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى».اهـ.

وقال الشيخ نور الدين علي القاري الحنفي في «شرح المشكاة» ما نصّه: «قال شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحّرين شمس الدين الجزري في مقدمة شرحه للمصابيح المسمّى بتصحيح المصابيح: إني زرت قبره بنيسابور «يعني: مسلم بن الحجاج القشيري» وقرأت بعض صحيحه على سبيل التيمّن والتبرك عند قبره، ورأيت ءاثار البركة ورجاء الإجابة في تربته».اهـ.

[1])) انظر: الكتاب (ص142).

[2])) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان.

[3])) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب: بيان أن السُّنَّة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق، والابتداء في الحلق في الجانب الأيمن من رأس المحلوق.

[4])) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان.

[5])) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب: بيان أن السُّنَّة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق، والابتداء في الحلق في الجانب الأيمن من رأس المحلوق.

[6])) سنن أبي داود، كتاب المناسك، باب: الحلق والتقصير.

[7])) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب التاريخ، باب: اجتماع الشجرتين بأمر رسول الله r (2/618)، وصححه وأقرّه الذهبي في تلخيصه.

[8])) انظر: المطالب العالية (4/90). قال الشيخ المحدّث حبيب الرحمـٰن الأعظمي في تعليقه على الحديث: كذا في الأصلين وفي الإتحاف. فما وجهته في وجه إلا فتح له، وفي الزوائد: فلم أشهد قتالًا وهي معي إلا رزقت النصرة. قال البوصيري: رواه أبو يعلى بسند صحيح، وقال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني وأبو يعلى بنحوه ورجالهما رجال الصحيح (9/349)، انظر: مسند أبي يعلى (13/139).

[9])) انظر: البداية والنهاية (10/334).

[10])) أخرجه الإمام في مسنده (4/42) من حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب الأذان، عن النبي r، وقال الحافظ الهيثمي في المجمع (3/19) بعد عزوه لأحمد: «ورجاله رجال الصحيح».

[11])) صحيح مسلم، كتاب اللباس والزينة، باب: تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجال، وإباحته للنساء، وإباحة العلم ونحوه للرجل ما لم يزد على أربع أصابع.

[12])) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/16)، بنحوه، وأحمد في مسنده (5/67، 68) في حديث طويل.

[13])) مجمع الزوائد (9/408).

[14])) أخرجه أبو يعلى في مسنده (6/211)، وقال الحافظ الهيثمي في المجمع (9/325): «رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، غير عبد الله ابن أبي بكر المقدمي وهو ثقة».

[15])) أخرجه أحمد في مسنده (5/422).

[16])) المعجم الكبير (4/189)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/515)، وصححه ووافقه الذهبي.

[17])) مجمع الزوائد (5/245).

[18])) مصنف ابن أبي شيبة، باب: مسّ قبر النبي (4/121).

[19])) انظر: كشاف القناع (2/150).

[20])) العلل، لأحمد بن حنبل (2/492).

[21])) مناقب الإمام أحمد بن حنبل (ص186، 187).

[22])) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان (2/282).

[23])) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان (2/281).

[24])) تاريخ بغداد (1/122).