قال القرضاوي في كتابه المسمّى «المدخل لدراسة السُّنَّة النبوية»([1]) تحت عنوان: (رؤية الهلال لإثبات الشهر) قال: «ومما يمكن أن يدخل في هذا الباب ما جاء في الحديث الصحيح المشهور: «صوموا لرؤيته (أي: الهلال) وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فاقدروا له» وفي لفظ ءاخر: «فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا»».اهـ.
ثم يتوسع في الموضع ليثبت بزعمه أنه يجب على الأمة أن تأخذ بالحساب لتوحيد موقفها وتدعيم وحدتها واستشهد بأحمد شاكر بأنه ينحى إلى هذا المنحى ويدعي القرضاوي بأن الذين استدلوا بعدم الحساب قالوه بسبب الحديث: «نحن أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب» وقال: إنّ هذا الأمر انتفى الآن لسبب أن الأمة لم تعد أمّية فقد صارت تكتب وتحسب، ثم استشهد بكلام لابن سريج والسبكي في إثبات حساب المنجمين بزعمه.اهـ. ملخصًا.
الرَّدُّ:
اعلم أنه يجب صوم رمضان بأحد أمرين:
الأول: رؤية هلال رمضان بعد اليوم التاسع والعشرين من شعبان.
الثاني: استكمال شعبان ثلاثين يومًا لقوله عليه الصلاة والسلام: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإنّ غمَّ عليكم فأكملوا عدَّة شعبانَ ثلاثين يومًا»([2]).
ففي كتاب «أسنى المطالب شرح روض الطالب» لزكريا الأنصاري([3]) في مذهب الإمام الشافعي ما نصّه: «ولا عبرة بالمنجم – أي: بقوله – فلا يجب به الصوم ولا يجوز، والمراد بآية: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [سورة النحل: 16] الاهتداء في أدلّة القبلة وفي السفر».اهـ.
وفي كتاب «ردّ المحتار على الدر المختار» لابن عابدين([4]) في مذهب أبي حنيفة ما نصّه: «ولا عبرة بقول المؤقتين، أي: في وجوب الصوم على النّاس؛ بل في المعراج لا يعتبر قولهم بالإجماع، ولا يجوز للمنجّم أن يعمل بحساب نفسه». ثم قال: «ووجه ما قلناه أنّ الشّارع لم يعتمد الحساب؛ بل ألغاه بالكُلية بقوله: «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهرُ هكذا وهكذا»([5])».اهـ.
وفي كتاب «الشرح الكبير في مذهب الإمام مالك» ما نصّه([6]): «لا يثبت رمضان بمنجّم أي بقوله في حقّ غيره ولا في حقّ نفسه»، وفي حاشيته([7]) لشمس الدين الشيخ محمد عرفة ما نصّه: «قوله: لا بمنجّم وهو الذي يحسب قوس الهلال هل يظهر تلك الليلة أو لا، وظاهره أنّه لا يثبت بقول المنجم ولو وقع في القلب صدقه».اهـ.
وفي كتاب «كشاف القناع» عن متن الإقناع في مذهب الإمام أحمد ما نصّه([8]): «وإن نواه أي صوم الثلاثين من شعبان بلا مستند شرعيّ من رؤية هلاله أو إكمال شعبان أو حيلولة غيم أو قتر ونحوه لحساب ونجوم ولو كثرت إصابتهما أو مع صحو فبان منه لم يجزئه صومه لعدم استناده لما يعوّل عليه شرعًا».اهـ.
وأما تفسير القرضاوي حديث رسول الله: «فاقدروا له»، أي: خذوا بالحساب على طريقة التنجيم فهذا غير صحيح ولا سديد.
فقد قال ابن حجر([9]) في شرح هذا الحديث: «فإن غمّ عليكم فاقدروا عليه»: «فاحتمل أن يكون المراد التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على الرؤية متعلقًا بالصحو وأما الغيم فله حكم ءاخر ويحتمل أن لا تفرقة ويكون الثاني مؤدًا للأول، وإلى الأول ذهب الحنابلة وإلى الثاني ذهب الجمهور فقالوا المراد بقوله: «فاقدروا له»، أي: انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين ويرجح هذا التأويل الروايات الأُخر المصرحة بالمراد وهي ما تقدم من قوله: «فأكملوا العدة ثلاثين» ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث ثم قال ابن حجر([10]) قوله: «فاقدروه له» تقدم أن للعلماء فيه تأولين وذهب ءاخرون إلى تأويل ثالث قالوا معناه فاقدروا بحسب المنازل قاله أبو العباس بن سريج من الشافعية ومطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين. قال ابن عبد البر لا يصح عن مطرف وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا، قال: ونقل ابن خويزمنداد عن الشافعي مسألة ابن سريج والمعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: «فاقدروا له» خطاب لمن خصه الله بهذا العلم. وأن قوله: «فأكملوا العدة» خطابه للعامة قال ابن العربيّ: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى ءاخرين بحساب العدد، قال: وهذا بعيد عن النبلاء».اهـ.
ثم قال ابن حجر([11]) في ءاخر البحث: «قلت: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك فقال في «الإشراف»: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم يُر الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة وقد صحّ عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق ولم يفصل بين حاسب وغيره فمن فرق بينهم كان محجوجًا بالإجماع قبله».اهـ.
وأما زعم القرضاوي في تفسير حديث: «إنَّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب» أن معنى الحديث إذا زالت الأمية فيجب العمل بالحساب فهذا مردود فقد قال شارح الحديث الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([12]) والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النزر اليسير فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك؛ بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلًا».اهـ.
ثمّ نصّ ابن حجر أنّ بعضهم قالوا بالحساب بالتسيير ثم قال: «قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم، وقال ابن بريرة، وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا غالب ظن».اهـ.
فانظر أيها المطالع المنصف كيف نسخ القرضاوي الحديث بزعمه وألغاه، وخالف الإجماع إجماع السلف الصالح ويصدق عليه قول رسول الله ﷺ: «من شذ شذَ في النّار» رواه الحاكم([13]).
[1])) انظر: الكتاب (ص181).
[2])) أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب: قول النبي r: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا»، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غُمَّ في أوّله وءاخره أكملت عدّة الشهر ثلاثين يومًا.
[3])) أسنى المطالب شرح روض الطالب (1/410).
[4])) ردّ المحتار على الدرّ المختار (2/100).
[5])) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصوم، باب: قول النبي r: «لا نكتب ولا نحسب»، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال وأنه إذا غمّ في أوله وءاخره أكملت عدّة الشهر ثلاثين يومًا.
[6])) الشرح الكبير (1/469).
[7])) حاشية الدسوقي (1/4699.
[8])) كشاف القناع عن متن الإقناع (2/302).
[9])) انظر: فتح الباري (4/121).
[10])) انظر: فتح الباري (4/122).
[11])) انظر: فتح الباري (4/123).
[12])) انظر: فتح الباري (4/127).
[13])) انظر: المستدرك (1/115).