فيقول في كتابه المسمّى «الحلال والحرام» ما نصّه([1]): «ولم أرض لعقلي أن أقلّد مذهبًا معيّنًا في كلّ القضايا والمسائل أخطأ أو أصاب، فإنّ المقلّد كما قال ابن الجوزيّ: (على غير ثقة فيما قلّد فيه وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنّه خلق للتأمّل والتدبر وقبيح بمن أعطى شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة».اهـ.
وفي جريدة الحياة في 17/10/96 (ص21) يقول صاحب المقال عن القرضاوي: «خلال رحلته الدعوية المديدة خرج القرضاوي بنتيجة مؤداها إنّ مسلمي اليوم بحاجة إلى فقه جديد ليستحقوا أن يكونوا ممن وصفهم الله بأنهم قوم يفقهون».اهـ.
وقال في كتابه المسمّى «الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم» ما نصّه([2]): «ولهذا أنكر كبار علماء الأمة ومحققيها هذا الغلو في التقليد الذي كاد يشبه ما فعله أهل الكتاب من اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله».اهـ.
وقال فيه ما نصّه([3]): «فقد صحّ عن الشافعيّ أنّه نهى عن تقليده وتقليد غيره».اهـ. وقال في كتابه المسمّى «في فقه الأولويات» (ص61): «استدل ابن القيم على منع التقليد وذمه بقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [سورة الإسراء: 36] قال: والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم».اهـ.
وقال في كتابه المسمّى «الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم» ما نصّه([4]): «ومن القواعد المسلمة أنّ الخطأ مرفوع عن هذه الأمّة كالنسيان».اهـ.
ويقول في مجلّة «الأمان» العدد 276: «وبعبارة أخرى عملنا هو الاجتهاد في الاستنباط والتفصل والتكييف. والاجتهاد في الشريعة الإسلامية باب مفتوح للرجال والنساء جميعًا».اهـ.
ويقول في كتابه المسمّى «شريعة الإسلام» ما نصّه([5]): «هذا التغير في عالمنا ومجتمعنا المعاصر كيف نستطيع أن نواجهه بفقهنا القديم وكيف تصلح أحكام استنبطت في عصور خلت للتطبيق في عصرنا الحاضر؟ والجواب أن شريعتنا الخالدة قادرة على مواجهة التطور ومعالجة قضايا عصرنا ولكن بشروط يجب توفرها وتحققها جميعًا إذا كنا صادقين في العودة إلى شريعة ربنا، ول هذه الشروط وأهمها هو فتح باب الاجتهاد من جديد للقادرين عليه والعودة إلى ما كان عليه سلف الأمّة والتحرر من الالتزام المذهبيّ فيما يتعلق بالشريعة للمجتمع كلّه وليس عندنا نصّ من كتاب الله ولا سُنّة رسوله يلزمنا التقيد بمذهب فقهيّ معين؛ بل نصوص الأئمة أنفسهم متواطئة على النهي عن تقليدهم فيما اجتهدوا فيه واتخاذه دينًا وشرعًا إلى يومِ القيامةِ».اهـ.
الرَّدُّ:
أمَّا نسبته إلى الشافعيّ من أنّه نهى عن تقليده وتقليد غيره من المجتهدين فتحريف للكلم عن مواضعه فإنّ الشافعيّ أرادَ بذلك من كان له أهليّة الاجتهاد ومن المعلوم عند الأئمّة أن المجتهد لا يقلّد مجتهدًا وأما من ليس له أهليّة للاجتهاد فقد اتّفق العلماء على أنّه يجب عليه تقليدُ مجتهد من المجتهدين لقوله تعالى: {فَسئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل: 43].
دل على ذلك عمل الشافعيّ وغيره من الأئمة فالشافعيّ ترك تلاميذه يشتغلون بكتبه مع أنَّهم كانوا محدّثين لكن لم تكن لهم قوّة الاجتهاد حتى إن تلميذ تلميذه أبا بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر كان يدرس كتب الشافعيّ على تلميذ الشافعيّ الربيع المراديّ ثم لما وهبه الله تعالى تلك القوَّة صار يجتهد في أكثر الأحيان يوافق الشافعيّ وفي بعض الأحيان يرجح فيرى ما قاله الشافعيّ. فكيف تستجيز لنفسك ولأمثالك الاجتهاد، وأصحاب رسول الله أكثرهم ما كانوا يستطيعون الاجتهاد؛ بل كانوا يقلّدون علماءهم المجتهدين وما كان كل فرد منهم يعتمد رأيه؛ بل كان أغلبهم يعودون إلى استفتاء المجتهدين منهم وهم أكثر من مائة ألف نفس لم يكن معروفًا بالفتوى منهم إلا قليل وهم قد شهدوا الوحي والتنزيل ولم يعتبروا أنفسَهم مجتهدين مترفّعين عن التقليد، فما بالك تجتهد وتحثَ الناس على الاجتهاد وترك التقليد لأئمة الاجتهاد وأنت أنت. ويشهد لكون أكثر الصحابة مقلدين لا مجتهدين الحديث الصحيح([6]): «نضَّرَ الله امرءًا سمع حديثي فحفظه فبلغه غيرَهُ فرُبّ مبلغ أوْعَى من سامع ورُبّ حامِلِ حديثٍ لا فِقْهَ لهُ».
وأما تشبيهك تقليد عوامّ المسلمين للمجتهدين منهم بالكفار الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله فهو حَيْفٌ وظلم وتحريف كبير، أولئك قلدوا أحبارهم ورهبانهم باعتقاد أنّ لهم أن يحرفوا ما أنزل عليهم من التوراة والإنجيل فأطاعوهم في ذلك؛ لأنَّهم يعتقدون أنّ لهم حقّ التغيير على حسب ما يرون، وأما مقلدو هذه الأمّة فهم بريئون من ذلك، لا يوجد مقلّد لأحد من الأئمة إلا وهو يرى أنّ مذهب إمامه هذا موافق للكتاب والسُّنَّة فكيف شبّهت هؤلاء بهؤلاء ما أعظم هذا البهتان.
ويبدو أنّ القرضاوي يجهل شروط الاجتهاد التي اتفق عليها الأصوليون لتحديد معنى المجتهد شرعًا لذلك قال: كما بيّنا «والاجتهاد في الشريعة الإسلامية بابٌ مفتوحٌ للرجال والنساء جميعًا» وهذا الكلام هراء حيث يحثَ العامة من الذين لم يحصلوا العلم الضروريّ على الاجتهادِ ويحرم عليهم التقليد وهذا نسف للشرع من أصوله، فكيف يتأتى لعاميّ أن يعرف ءايات وأحاديث الأحكام والناسخ والمنسوخ والمطلق والمقيّد ولغة العرب والعرف ومسائل الإجماع والاختلاف وإلى ما هنالك من شروط المجتهد؟!
وإنما يقول القرضاوي هذا الكلام لأسباب، منها: أنّه يقدم نفسه للناس على أنّه مجتهد بدليل قوله بصراحة «وبعبارة أخرى عملنا هو الاجتهاد في الاستنباط والتفصيل والتكييف».
والسبب الثاني: أنَّه أراد أن يصدّر لمرتبة الاجتهاد قومًا لا خلاق لهم ولا دين وهم من أخطر المفسدين على الدين الإسلاميّ وذكر جماعة منهم أبو الأعلى المودوديّ وسيد قطب ورشيد رضا ومحمد عبده وجمال الأفغاني. وهؤلاء يمثلون الامتداد لحركة الخوارج التي ثارت على عليّ فكفّرته وقتلته ومنهم أئمة في الماسونية.
فيقول القرضاوي في كتابه «الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي» ما نصّه([7]): «إنَّ هذه الصحوة امتداد وتجديد لحركات إسلاميَّة ومدارس فكرية وعملية قامت من قبل وانقرض بعضها ولا زال بعضها قائمًا بصورة أو بأخرى حتى اليوم حركات قام عليها رجال صادقون حاول كل منهم أن يجدد الدين أو يحيي الأمَّة في بقعة معيّنة أو أكثر من بقعة من أرض الإسلام أو في جانب معيّن أو أكثر من جانب من جوانب الحياة في الاعتقاد أو الفكر أو السلوك، قال: «ويذكر منهم الرجل الصُلب، الذي أوذي في الله، فما وَهَن وما ضعف وما استكان وقدم عنقه فداء لفكرته صاحب القلم البليغ والأدب الرفيع والروح المحلق والفكر الثائر صاحب «التصوير الفني»، و«العدالة»، و«المعالم» وغيرها من الكتب التي انتشرت في لغات العالم الإسلاميّ شرقًا وغربًا الأديب الكبير الداعية الشهير سيّد قطب. هؤلاء الميامين من الدعاة والمفكرين كان لكل منهم تأثيره في جانب من الجوانب على عدد من الناس يقل أو يكثر وفي رقعة من الأرض تضيق أو تتسع وعلى مدى زمنيّ يقصر أو يطول وإن كان كل واحد منهم يؤخذ منه ويرد عليه باعتبارهم بشرًا غير معصومين في خدمة الإسلام قد يصيبون وقد يخطئون وهم على كل حال مأجورون على اجتهادهم حتى فيما أخطأوا فيه إن شاء الله».اهـ.
فالقرضاوي يعتبر هؤلاء المجرمين الذين أفسدوا في الأرض وشوّهوا عقائد المسلمين وحرّفوها وكفروا المسلمين واستباحوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم كسيد قطب وبسببه جرت شلالات الدماء في مصر وسورية والجزائر واليمن والسودان ومع ذلك يعتبرهم القرضاوي بأنّهم مجتهدون مأجورون ولو أخطأوا، فانظر أيها القارئ إلى مدى الاستخفاف بعقول المسلمين عندما يحاولون إبراز هؤلاء الأصنام ليعتلوا على رقاب المسلمين زورًا وبهتانًا. ويجعل لهم في مجازرهم وجرائمهم خطأً يثابون عليه بأجر واحد فتأمل.
والسببُ الثالثُ: أنّه يدعو إلى نسف فقه المذاهب الإسلاميَّة المعتبرة والتي ما زال المسلمون عليها من أيام السلف وحتى عصرنا، وقد بيّنا قوله: «إنّ مسلمي اليوم بحاجة إلى فقه جديد ليستحقوا أن يكونوا ممن وصفهم الله بأنهم قوم يفقهون».
وأقول بصراحة إنّ القرضاوي يطالب بدين جديد تحت دعوى الاجتهاد وعدم التقليد. وأبسط ردّ عليه ما أجمع عليه الأصوليون في تعريف الاجتهاد أنّه: استخراج الأحكام التي لم يرد فيها نصٌّ صريح لا يحتمل إلا معنًى واحدًا. فالمجتهد من له أهليّة ذلك بأن يكون حافظًا لآياتِ الأحكامِ وأحاديث الأحكام ومعرفة أسانيدها ومعرفة أحوال رجال الإسناد ومعرفة الناسخ والمنسوخ والعامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد. ومع إتقان اللغة العربية بحيث إنّه يحفظ مدلولات ألفاظ النصوص على حسب اللغة التي نزل بها القرءان، ومعرفة ما أجمع عليه المجتهدون وما اختلفوا فيه؛ لأنَّه إذا لم يعلم ذلك لا يؤمن عليه أن يخرق الإجماع، أي: إجماع من كان قبله.
ويشترط فوق ذلكَ شرط وهو ركن عظيمٌ في الاجتهاد وهو فقه النفس، أي: قوّة الفهم والإدراك، وتشترك في المجتهد العدالة هي السلامة من الكبائر ومن المداومة على الصغائر بحيث تغلب على حسناته من حيث العدد([8])، وأما المقلد فهو الذي لم يصل على هذه المرتبة والمجتهد المعنى بقولنا هو المقصود بقوله ﷺ: «إذا اجتهد الحاكمُ فأصابَ فله أجران، وإذا اجتهدَ فأخطأ فله أجر» رواه البخاريّ. وإنَّما خصّ رسول الله ﷺ في هذا الحديث الحاكم بالذكر؛ لأنّه أحوج إلى الاجتهاد من غيره فقد مضى مجتهدون في السلف مع كونهم حاكمين كالخلفاء الستّة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسن بن علي وعمر بن عبد العزيز وشريح القاضي.
فهل تنطبق عليك يا قرضاوي شروط الاجتهاد بعد أن خرقت الإجماع وهتكت أستار الشريعة؟
وأخيرًا: اسمع عزيزي القارئ المهازل:
إن القرضاوي وجماعته من حزب الإخوان كفيصل مولوي وراشد الغنوشي وغيرهم من هذه المنظومة التأم جمعهم في أوروبا فيما يسمّى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دبلن ما بين 11/19 تشرين الأول، قال البيان الصادر عن المجلس الذي يرأسه القرضاوي: «وإن عملية الإفتاء هذه إنما تجري في إطار وضع جديد لا سابق له، انعكس هذا الأمر بشكل مباشر على مداولات المجلس الذي أعلن أنه يفتي الجاليات المسلمة في أوروبا اجتهادًا ولا يفتي تقليدًا أو اتباعًا لمذهب معين من المذاهب الفقهية الإسلامية المعروفة وأنه يأخذ من المذاهب الإسلامية المختلفة وينتقي منها ما يراه مناسبًا للوضع المستجد الذي هو بصدد تناوله».اهـ.
ومن جملة ما جاء في البيان من إفتاءات وافتراءات المجلس على الشرع: «أنهم أباحوا أكل المطعومات التي تحتوي على كميات قليلة من مواد لحم الخنزير وشحمه»([9]).اهـ. كما أباح المجلس (حسب البيان) بيع الخمر ولحم الخنزير في متاجر يملكها المسلمون.
الرَّدُّ:
تأمل أيها القارئ هذا هو الاجتهاد الذي يدعو إليه القرضاوي وإخوانه، وما هذا منه ومن أمثاله إلا لنقض عرى الإسلام نسأل الله تعالى السلامة من الفتن وأهلها.
[1])) انظر: الكتاب (ص13).
[2])) انظر: الكتاب (ص122)
[3])) انظر: الكتاب (ص123)
[4])) انظر: الكتاب (ص142).
[5])) انظر: الكتاب (ص106).
[6])) رواه أبو داود في سننه، كتاب العلم، باب: فضل نشر العلم، والترمذي في سننه، كتاب العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع.
[7])) انظر: الكتاب (ص42).
[8])) فهل يتوفر بالقرضاوي شرط واحد؟…
[9])) انظر: الكتاب (ص4).