(القتلُ) هو إزهاقُ النفسِ الناشِئُ عن فعلٍ ولو سِحْرًا وإذا كان قتلَ مسلمٍ ظلمًا كان أعظمُ الذنوبِ بعد الكفر. ثم هو أي القتلُ (على ثلاثةِ أضربٍ) لا رابعَ لَهَا (عَمْدٌ) هو مصدر عَمَد بوزن ضرَبَ أي قَصَدَ (مَحْضٌ) أي خالصٌ مِن شائبةِ الخطإِ (وخطأٌ مَحْضٌ) خالصٌ مِن شائبةِ العَمْدِ (وعَمْدُ خطإٍ) بالإضافةِ أي اجتمع فيه شائبةُ العَمْدِ وشائبةُ الخطإِ فهو يُشبِهُ العمدَ من وجهٍ والخطأَ مِن وجهٍ فهو شِبهُ عمدٍ وشِبهُ خطإٍ فيُقالُ له اختصارًا شِبْهُ عَمْدٍ وهو الْمشتهِرُ بين الفقهاء (فالعَمْدُ الْمَحْضُ هو أنْ يعمِدَ) الجانِي (إلى ضربِه) أي الْمَجْنِيِّ عليه (بما) أي بشىءٍ (يَقتل غالبًا) كجارحٍ ومثقَّلٍ وفي حكم الضَّرب الْمتقدمِ السحرُ والخُنْقُ وتقديمُ الطعام الْمسموم والإلقاءُ في البئر (و)لا فرقَ بينَ أن (يَقصِدَ) الجانِي (قتلَهُ بذلكَ) الشىءِ أو لا (فيجبُ) بذلك (القَوَدُ) أي القِصاصُ قوله (القصاص) مأخوذٌ مِن اقتصاص الأثر أي تَتَبُّعِه لأن الْمستحقَّ يَتَتَبَّعُ الجنايةَ فيأخذُ مثلَها عليه أي الجاني إذا كان القتلُ عُدوانًا مِن حيثُ إزهاقُ الرُّوحِ. وما ذكرَهُ الْمصنفُ مِن اعتبارِ قصدِ القتلِ ضعيفٌ والراجحُ خلافُهُ وأنه متَى ما قصدَ الفعلَ والشخصَ بما يقتلُ غالبًا كانَ عَمْدًا فإن لم يقصد الفعلَ كأن زَلِقَت رجلُهُ فوقعَ على إنسانٍ فماتَ أو لم يقصِد الشخصَ الْمَجْنِيَّ عليه بأن قصدَ غيرَهُ فاصابه فهو خطأٌ. ومِمَّا يَقتلُ غالبًا كذلك ضربٌ لِمَريضٍ يقتلُ مثلَهُ ولو كان لا يقتُلُ الصحيحَ وضربٌ لصغيرٍ يقتُلُ مثلَهُ دون الكبير. ومنه غرزُ إبرةٍ في مَقتَلٍ وغرزُ إبرةٍ في غيرِ مَقْتَلٍ وتَأَلَّمَ حتَّى ماتَ بخلافِ ما إذا غرزَ الإبرةً في غير مَقتل ولم يتألم فمات في الحال.
ويُشتَرَطُ لوجوبِ القِصاصِ في نفسِ القتيلِ أو قطعِ أطرافِهِ العِصمةُ في حقِّ الْمعصومِ والْمكافأةُ في الدِّينِ والحريَّةِ إلى غيرِ ذلك منَ الشروطِ الْمعروفةِ ليس من هذه الشروطِ ما ذكره الغزِّيُّ هنا بقوله [ويُشترط لوجوب القصاص في نفس القتيل أو قطع أطرافه إسلامٌ أو أمانٌ] فقد صرَّحُوا أنَّ الْمرتدَّ يُقتَلُ بالمرتَدِّ وقوله بعد ذلك [فيُهدَرُ الحربِيُّ والْمرتدُّ في حقِّ الْمسلم] في غيرِ محلِّهِ لأنَّهُ مرتَّبٌ على عدم وجوبِ القصاصِ وهو مشكلٌ إذ لا تلازمَ فإنه لا يُقتَصُّ من الحرِّ بالعبد وليس هو بمُهدَرٍ.
(فإن عفا عنه) أي عفَا الْمستحقُّ مِن مجنِيٍّ عليه أو وارثٍ في صورة العمد الْمحض عن القاتل العمد على الدية سقط القَوَدُ ولو كان العافِي محجورًا عليه وإذا كان الْمستحقونَ أكثرَ مِن واحدٍ فعفا بعضهم جون بعضٍ سقط القِصاصُ كلُّه وإن لم يرضَ البقيَّةُ فعندئذٍ تكونُ قد (وجبت ديةٌ مُغَلَّظةٌ) من ثلاثةِ أوجُهٍ كونِها مُثَلَّثَةً ثلاثينَ حِقَّةً وثلاثينَ جذعةً وأربعينَ خَلِفةً وكونِها (حالَّة) غيرَ مؤجَّلةٍ وكونِها (في مالِ القاتلِ) رضِيَ أو لم يرضَ بها لأنه محكومٌ عليه فلا يُعتبر رضاه نعم إن صالحوه عنِ الديةِ على مالٍ ءَاخَرَ كما يقع الآن فلا بُدَّ مِن رضاهُ حتَّى ينعقِدَ الصُّلحُ ويصيرَ هذا الْمالُ واجبًا عليه بدلَهَا. وابتداءُ أجلِ ديةِ النفس منَ الزُّهوق وأجلِ ديةِ غيرِها كقطع يدٍ من ابتداءِ الجنايةِ لكن لا يؤخذُ أرشُهُ إلا بعد اندمالِ الجراحة. فإن عفا الْمستحِقُّ عن الجانِي مجانًا أو أطلق العفوَ فقال عفوْتُ فقط لم يجب قِصاصٌ عندئذٍ ولا ديةٌ.
(والخطأُ الْمحضُ) هو أن لا يقصدَ الفعلَ أو يقصدَ الشخصَ كما تقدَّمَ ومثالُ ذلك (أن يرمِيَ إلى شىْءْ) كصيدٍ (فيصيبَ رجلًا فيقتلَهُ) أو أن يرمِيَ زيدًا فيصيبَ عمرًا فيقتلَهُ (فلا قَوَدَ عليه) أي الرامي في الحالين (بل يجب عليه ديةٌ مخففةٌ) مِن ثلاثةِ أوجهٍ كونها مخمَّسةً وسيأتي بيانُ ذلك إن شاء اللهُ وكونها (على العاقلةِ) وهو عَصَبة الجاني الْمتعصِّبونَ بأنفسِهِم إلا أصلَهُ وفرعَهُ يقدم الأقرب منهم فالأقرب فيقدَّم الإخوة لأبوين ثم لأب ثم بنوهم وإن سفلوا ثم الأعمام لأبوين ثم لأبٍ ثم بنوهم ثم في العتيقِ تفصيلٌ يُطلَبُ من الشروح لا في مالِ الجاني نفسِهِ وكونها (مؤجلة) على العصبةِ (في ثلاث سنين) يُؤخذ ءاخِرَ كلِّ سنةٍ منها قدرُ ثلثِ ديةٍ كاملةٍ ويُشترَطُ في العاقلِ أن يكونَ ذكرًا حرًّا مكلَّفًا غير فقيرٍ قوله (غير فقير) أي غنيًّا أو متوسِّطًا والغنِيُّ في هذا المقام هو مَن يملك عشرين دينارًا فأكثر زيادةً على ما يكفي العمرَ الغالبَ له ولِمَمُونه فإن ملك أقلَّ مِن عشرين دينارًا وأكثرَ مِن ربعِ دينارٍ زيادةً على ما يكفيه ومَمُونَهُ للعمر الغالب فهو متوسطٌ وإن لم يملك ذلك فهو الفقير مُتَّفِقَ الدِّينِ مع الْمعقولِ عنه فلا تعقِلُ امرأةٌ ولا خنثَى إلا إن بان ذكرًا فيغرم حصته التي أداها ولا رقيقٌ ولو مكاتبًا أو مبعضًا ولا صبيٌّ ولا مجنونٌ ولا مسلمٌ عن كافرٍ وعكسُهُ ويَعْقِلُ يهوديٌّ عن نصرانيٍّ وعكسُهُ كالإرثِ ولا يعقِلُ فقيرٌ ولو كان كسوبًا. فيُؤْخَذُ منَ الْمقدَّم منَ العصبة كالإخوة لأبوين منَ الغنِيِّ منهم مِن أصحاب الذهب ءَاخِرَ كلِّ سنةٍ نصفُ دينارٍ ومِن أصحابِ الفضةِ ستةُ دراهمَ كما قاله الْمُتَوَلِّي وغيرُه ومنَ الْمتوسِّطِ ربعُ دينار أو ثلاثةُ دراهم إن كان مِن أصحابِ الفضةِ ويُعتبر غِنَاهُ وفقرُهُ ءَاخِرَ الحَوْلِ ويُشْتَرَى بما أُخِذَ منهم قدرُ الواجب وهو ثلثُ الدية فإن لم يفِ به انتُقِلَ به إلى مَن بعدَهُم مرتبةً بعدَ مرتبةٍ حتَّى يَفِيَ الْمأخوذُ بقدرِ الثلث. هذا إذا كان الْمقتول كاملًا حرًّا ذكرًا مسلمًا فإن كان رقيقًا أُخِذَ في ءَاخِرِ كلِّ سنةٍ مِن قيمته قدرُ ثلثِ الديةِ وإن كان أنثَى أخذ في أولِ سنةٍ قدرُ ثلثِ دثةِ رجلٍ وفي السنة الثانية ما بَقِيَ وإن كان كافرًا فلا تزيدُ دِيَتُهُ على سنةٍ فتُؤخذ في ءَاخِرِها لأنها ثلثٌ أو أقلُّ.
(وعمْدُ الخَطَإِ) الْمُرَكَّبُ مِن شائبة العمد وشائبة الخطإ وهو الْمسمى بشبه العمد هو (أن يقصدَ ضَرْبَهُ بما لا يقتلُ غالبًا) بل يقتلُ نادرًا بحيث يكون سببًا في القتل ويُنسَبُ القتلُ إليه عادةً قوله (ويُنسَبُ القتلُ إليه عادةً) أي أمَّا ما لا يُنْسَبُ إليه القتلُ عادةً كالقلم فإن ضربَه به فمات فلا قَوَدَ فيه ولا ديةَ لأنَّ ذلك الضربَ مصادفةُ قَدَرٍ لا سببٌ للموتِ كأن يضربَه بعصًا خفيفةٍ (فيموتَ) الْمضروبُ بسببِ ذلك (فلا قَوَدَ عليه بل تجبُ ديةٌ مُغَلَّظَةٌ) من جهةِ كونِها مثلَّثةً لكنها مخفَّفةٌ مِن جهةِ أنها (على العاقلةِ) وجِهَةِ أنها (مؤجلةٌ في ثلاثِ سنينَ) وسيأتي بيانُ الدياتِ في فصلٍ خاصٍّ إن شاء اللهُ.