الاعتبار ببقاء الجنة والنار (تأليف الإمام الحافظ أبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي رد به على ابن تيمية ما عمله في نفي الخلود في النار تبعاً لجهم بن صفوان المبتدع المشهور)
الاعتبار ببقاء الجنة والنار
تأليف الإمام الحافظ أبي الحسن تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي رد به على ابن تيمية ما عمله في نفي الخلود في النار تبعاً لجهم بن صفوان المبتدع المشهور. وعلى موافقته يدندن ابن الزفيل الزرعي كما هو ديدنه وقد تعود أن يصدي على نعيقه في مفرداته… وسيجزي الله كلاً بعمله
وفي ظهر الأصل بخط الحافظ الشمس بن طولون:
(فائدة) قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في فتاويه في أثناء مسألة (إذا وقف على بنيه الثلاثة إلى آخرها): وهذا الرجل يعني ابن تيمية كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به وحنث ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل بفهمه كما في هذه المسألة ولا في بحث ينسبه لخلطه المقصود بغيره وخروجه عن الحد جدا، وهو كان مكثراً من الحفظ ولم يتهذب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جسارة واتساع خيال وشغب كثير، ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ثم مات ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته الآن تلك أمة قد خلت ولكن له أتباع ينعقون ولا يعون ونحن نتبرم بالكلام معهم ومع أمثالهم.
وأطال رحمه الله في الرد عليهم في فتاويه في الوقف فراجعه فإنه مهم ونسأل الله حسن الاستقامة في القول والعمل بحق محمد وءاله والحمد لله وحده. اهـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم. وبعد فإن اعتقاد المسلمين أن الجنة والنار لا تفنيان وقد نقل أبو محمد بن حزم الإجماع على ذلك وأن من خالفه كافر بإجماع، ولا شك في ذلك فإنه معلوم من الدين بالضرورة وتواردت الأدلة عليه، قال الله تعالى (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة {81}، وقال تعالى (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) البقرة{162} وقال تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة {217} وقال تعالى ( والذين كفروا أوليائهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة{257} وقال تعالى (خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون إلا الذين تابوا) ءال عمران{88}{ 89} وقال تعالى (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ءال عمران {116} وقال تعالى (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها) النساء{14} وقال تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها) النساء {93} وقال تعالى (إن الذين كفروا وظلموا) إلى قوله تعالى (خالدين فيها أبداً) النساء{168} {169} وقال تعالى (النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله)الأنعام {128} وقال تعالى (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) الأعراف{36} وقال تعالى (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها)التوبة{63} وقال تعالى (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) التوبة {68} وقال تعالى (كلما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) يونس{27} وقال تعالى (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والارض إلا ما شاء ربك) هود{106} {107} وقال تعالى (أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) الرعد{5} وقال تعالى (فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) النحل{29} وقال تعالى (لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون) الأنبياء{99}وقال تعالى (ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون) المؤمنون{103} وقال تعالى( وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) السجدة {14} وقال تعالى (يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً ) الفرقان{69} وقال تعالى (إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيراً خالدين فيها أبداً)الأحزاب{64} {65} وقال تعالى (قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) الزمر{72} وقال تعالى (ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد) فصلت{28} وقال تعالى (كمن هو خالد في النار) محمد {15} وقال تعالى (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) المجادلة {17} وقال تعالى ( فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها) الحشر{17} وقال تعالى (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) التغابن{10} وقال تعالى (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً) الجن{23} وقال تعالى (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها) البينة{6}.
فهذه أربع وثلاثون ءاية فيها لفظ الخلود وما اشتق منه أربع مع التأبيد، والآيات التي فيها معناه كثيرة أيضاً. كقوله تعالى (فلا يخفف عنهم العذاب) البقرة{86} وقوله تعالى (لا يخفف عنهم العذاب)البقرة{ 162} ءال عمران {88} وقوله تعالى (وما هم بخارجين من النار) البقرة{167} وقوله تعالى (وما له في الآخرة من خلاق) البقرة {200} وقوله تعالى (وما لهم من ناصرين) ءال عمران{22} وقوله تعالى (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها) النساء{56} وقوله تعالى (لا يجدون عنها محيصاً) النساء{121} وقوله تعالى (وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم) المائدة{37} وقوله تعالى (ليس مصروفاً عنهم) هود{8} وقوله تعالى (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) هود {16} وقوله تعالى حكاية عنهم (ما لنا من محيص) ابراهيم {21} وقوله تعالى (جهنم يصلونها وبئس القرار) ابراهيم {29} وقوله تعالى (اخسئوا فيها ولا تكلمون)المؤمنون {108} وقوله تعالى (أولئك يئسوا من رحمتي)العنكبوت{23} وقوله تعالى (فاليوم لا يخرجون منها)الجاثية{35} وقوله تعالى (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) الحج{22} وقوله تعالى (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) السجدة {20} وقوله تعالى(لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها) فاطر {36} وقوله تعالى (مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً) الإسراء{97} وقوله تعالى (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون)الجاثية{35} وقوله تعالى (ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب) إلى قوله (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) غافر{49} {50} وقوله تعالى (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) الشورى{45} وقوله تعالى (فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام إلا من غسلين) الحاقة{35} {36} وقال تعالى (فلن نزيدكم إلا عذاباً) النبأ{30} وقال تعالى (ثم لا يموت فيها ولا يحيى)الأعلى{13} وقال تعالى (نار مؤصدة) البلد {20} وقال تعالى (وما هم عنها بغائبين) الانفطار {16}
وغيرها من الآيات كثير في هذا المعنى جدا وذلك يمنع من احتمال التأويل ويوجب القطع بذلك، كما أن الآيات الدالة على البعث الجسماني لكثرتها يمتنع تأويلها، ومن أولها حكمنا بكفره بمقتضى العلم جملة. وكذلك الأحاديث متظاهرة جداً على ذلك،كقوله صلى الله عليه وءاله وسلم (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداَ ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا ) متفق عليه من حديث أبي سعيد، وقوله صلى الله عليه وءاله وسلم ( أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون) صحيح من حديث أبي سعيد، وقوله عليه السلام ( إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار فيذبح فينادى مناد يا أهل الجنة لا موت ويا أهل النار لا موت) وفي رواية صحيحة ( فخلود فلا موت وفي الجنة مثل ذلك) وقال تعالى (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) البقرة{82} وقال تعالى (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله)ءال عمران{15} وقال تعالى (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)يونس{62} وقال تعالى (لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله ) ءال عمران{198} وقال تعالى (ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم)النساء{13}وقال تعالى (والذين ءامنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وعد الله حقاً ) النساء {122} وقال تعالى (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) المائدة{85} وقال تعالى (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً) المائدة{119} وقال تعالى ( أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) التوبة {89} وقال تعالى (والسابقون الأولون) إلى قوله (وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها) التوبة{100} وقال تعالى (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) هود{23} وقال تعالى (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) إلى قوله (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون)يونس{26} وقال تعالى (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ ) هود{108} وقال تعالى (أكلها دائم وظلها) الرعد{35} وقال تعالى (وادخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم) ابراهيم {23} وقال تعالى (لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين) الحجر{48} وقال تعالى (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسنا ماكثين فيه أبداً) الكهف{2}{3} وقال تعالى (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً خالدين فيها لا يبغون عنها حولا) الكهف{107}{108}وقال تعالى (جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى) طه{76} وقال تعالى (وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون) الأنبياء{102} وقال تعالى (الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) المؤمنون{11} وقال تعالى (قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون) الفرقان {15} وقال تعالى (خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً ) الفرقان{76} وقال تعالى ( لنبوئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) العنكبوت{58} وقال تعالى (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها وعد الله حقاً) لقمان{8} {9} وقال تعالى (سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)الزمر{73} وقال تعالى (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) فصلت{8} وقال تعالى (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون) الزخرف{71} وقال تعالى (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) إلى قوله (خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون) الأحقاف{13} {14}وقال تعالى (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) الفتح {5} وقال تعالى (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) الإنسان{19} وقال تعالى (بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم) الحديد{12} وقال تعالى (ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه) المجادلة{22}وقال تعالى (ذلك يوم الخلود) ق{34}وقال تعالى (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم) التغابن{9} وقال تعالى (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا) الطلاق{11} وقال تعالى (أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه) البينة{7}.
فهذه الآيات التي استحضرناها في بقاء الجنة والنار وبدأنا بالنار لأنا وقفنا على تصنيف لبعض أهل العصر في فنائها وقد ذكرنا نحو مائة ءاية منها نحو من ستين في النار ونحو من أربعين في الجنة وقد ذكر الخلد أو ما اشتق منه في أربع وثلاثين في النار وثمان وثلاثين في الجنة وذكر التصريح بعدم الخروج أو معناه في أكثر من ثلاثين، وتضافر هذه الآيات ونظائرها يفيد القطع بإرداة حقيقتها ومعناها وأن ذلك ليس مما استعمل فيه الظاهر في غير المراد به ولذلك أجمع المسلمون على اعتقاد ذلك وتلقوه خلفا عن سلف عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وهو مركوز في فطرة المسلمين معلوم من الدين بالضرورة بل وسائر الملل غير المسلمين يعتقدون ذلك ومن رد ذلك فهو كافر ومن تأوله فهو كمن تأول الآيات الواردة في البعث الجسماني وهو كافر ايضاً بمقتضى العلم…وقد وقفت على التصنيف المذكور وذكر فيه ثلاثة أقوال في فناء الجنة والنار: أحدها أنهما تفنيان وقال إنه لم يقل به أحد من السلف والثاني أنهما لا تفنيان والثالث أن الجنة تبقى والنار تفنى ومال إلى هذا واختاره، وقال: إنه قول السلف، ومعاذ الله وأنا أبرىء السلف عن ذلك ولا اعتقد أن أحداً منهم قاله وإنما روي عن بعضهم كلمات تتأول كما تتأول المشكلات التي ترد وتحمل على غير ظاهرها فكما أن الآيات والأحاديث يقع فيها ما يجب تأويله كذلك كلام العلماء يقع فيه ما يجب تأويله ومن جاء إلى كلمات ترد عن السلف في ترغيب أوترهيب أو غير ذلك فأخذ بظاهرها وأثبتها أقوالاً ضل وأضل وليس ذلك من دأب العلماء ودأب العلماء التنقير عن معنى الكلام والمراد به وما انتهى إلينا عن قائله فإذا تحققنا أن ذلك مذهبه واعتقاده نسبناه إليه وأما بدون ذلك فلا ولا سيما في مثل هذه العقائد التي المسلمون مطبقون فيها على شيء كيف يعمد إلى خلاف ما هم عليه ينسبه إلى جلة المسلمين وقدوة المؤمنين ويجعلها مسألة خلاف كمسألة في باب الوضوء ما أبعد من صنع هذا عن العلم والهدى وهذه بدعة من أنحس البدع وأقبحها أضل الله من قالها على علم.
فإن قلت: قد قال الله تعالى (لابثين فيها أحقاباً ) قلت: هو جمع منكر يصدق على القليل والكثير وعلى ما لا نهاية له، فإن قلت هو جمع قلة لأن افعالاً من جموع القلة، قلت: قد تجمع القلة بجمع الكثرة وأيضاَ فالحقب الزمان والزمان يصدق على القليل والكثير فإذا كان المفرد كذلك فما ظنك بالجمع، فإن قلت: قد قيل إن الحقب ثمانون سنة السنة ثلثمائة وستون يوماً اليوم كألف سنة مما تعدون اليوم منها كالدنيا كلها. قلت: إذا صح ذلك فغاية الأخبار بأنهم لابثون فيها ذلك ولا يدل على نفي الزيادة إلا بالمفهوم والمنطوق يدل على التأييد والمنطوق مقدم على المفهوم، هذا إن جعلنا أحقاباً ءاخر الكلام وقد جعله الزجاج وغيره موصوفاً بقوله (لا يذوقون فيها برداً ولا شرابا) وعلى هذا لا يبقى فيه متعلق البتة.
فإن قلت: قد روي عن الحسن الأحقاب لا يدري أحد ما هي ولكن الحقب سبعون ألف سنة اليوم منها كألف سنة مما تعدون. قلت: إن ثبت ذلك عنه يرجع الجواب إلى بعض ما تقدم من الصفة أو إلغاء المفهوم أو أن الذي لا يتناهى يقال إنه لا يدري أحد ما هو وإن كان يدري أنه لا يتناهى فإن دراية عدم العدد يلزم منها عدم دراية العدد، فإن قلت: قد قال هذا المصنف إن قول الحسن لا يدري ما هي يقتضي أن لها عدداً والله أعلم به ولو كانت لا عدد لها لعلم كل أحد أنه لا عدد لها، قلت: إن قوله لا يدري ما هي يقتضي أن لها عدداً ليس بصحيح لأنه لم يقل لا يدري عددها بل قال لا يدري ما هي وما هي أعم المطالب فيدخل فيه المتناهي وغير المتناهي وقوله ولو كانت لا عدد لها لعلم كل أحد بذلك فقد يعلمه بعض الناس دون بعض، والحاصل أن الأحقاب قيل محدودة وهو قول الزجاج القائل بأن (لا يذوقون صفة) وقيل غير محدودة وقيل الآية منسوخة بقوله تعالى (فلن نزيدكم إلا عذاباً) ولا يستبعد النسخ في الأخبار ولا سيما مثل هذا فإن هذا مما يقبل التغيير وهو أمر مستقبل والأكثرون على أنها غير محدودة وأن المراد كلما مضى حقب جاء حقب.
فإن قلت: فما تقول فيما روي عن الحسن البصري أنه سئل عن هذه الآية فقال: الله أعلم بالأحقاب فليس فيها عدد إلا الخلود؟ قلت: قول صحيح لا يخالف لما تقدم وتصريحه بالخلود بين مراده، فإن قلت: فقد قال هذا المصنف إن قول الحسن حق فإنهم خالدون فيها لا يخرجون منها ما دامت باقية. قلت: قوله إن قول الحسن حق صحيح، وأما فهمه إياه وتفسيره الخلود بعدم الخروج منها ما دامت باقية فليس بصحيح، وليس ذلك بخلود فإنك إذا قلت فلان خالد في هذه الدار الفانية لا يصح وحقيقة الخلود التأبيد وقد يستعمل في المكث الطويل مجازاً وأما استعماله في الخلود في مكان إلى حين فنائه فهذا معنى ثالث لم يسمع من العرب. فإن قلت: ما تقول في قول من قال إن الآية في عصاة المؤمنين قلت: ضعيف لقوله (إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا). اللهم إلا أن نجعلها عامة ويكون التعليل ليس للجميع بل لبعضهم وقد يجيء في الكلام الفصيح مثل ذلك أو يراد بالطاغي الكفار فإنها مرصاد لهم والعصاة فيها تبع لهم فجاء قوله (لابثين فيها أحقابا) للتابعين والمتبوعين جميعاً ثم جاء التعليل للمتبوعين لأنهم الأصل.
فإن قلت: قوله تعالى في سورة الأنعام (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) إلى قوله (النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) وأولياؤهم هم الكفار لقوله (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) وقوله في سورة هود في أهل الجنة وأهل النار (إلا ما شاء ربك) على ماذا يحمل إذا كانتا باقيتين؟ قلت: قد تكلم الناس في ذلك وأكثروا وذكر أبو عمرو الداني في تصنيف له في ذلك سبعة وعشرين قولا ليس فيها أن الكفار يخرجون من النار وإنما أقوال أخر منها أنه استثناء المدة التي قبل دخولهم أو الأزمنة التي يكون أهل النار فيها في الزمهرير ونحوه وأهل الجنة فيها هو أعلى منها من رضوان الله وما لا يعلمه إلا هو أو أنه استثناء معلق بالمشيئة وهو لا يشاء خروجهم فهو أبلغ في التأبيد أو أن إلا بمعنى الواو كقوله إلا الفرقدان أو أنها بمعنى سوى حكاه الكوفيون كقوله (إلا ما قد سلف) وقوله (لو فيهما آلهة إلا الله) أو أن الاستثناء لما بعد السموات والأرض كقوله لا تكسل حولاً إلا ما شئت معناه الزيادة على الحول أو أنه لعصاة المؤمنين والذي يدل على التأبيد قوله في الجنة (عطاءً غير مجذوذ) فلو لم يكن مؤبدا لكان مقطوعاً فيتعين الجمع بين أول الآية وآخرها فبقي يقيناً الاستثناء على ظاهر هذا المجاز في قوله (عطاء غير مجذوذ) وليس التجوز فيه بأولى من التجوز في الاستثناء ويرجح التجوز في الاستثناء الأدلة على التخليد وقوله في النار (إن ربك فعال لما يريد) يناسب الوعيد والزيادة في العذاب ولا يناسب الانقطاع.
واعلم أن (ما شاء ربك) ظاهره استثناء مدة زمانية من قوله (ما دامت السموات والأرض) ويحتمل أن يراد بها ظرف مكان ويكون الاستثناء من الضمير في فيها ويراد به الطبقة العليا التي هي لعصاة المؤمنين فكأنه قال إلا ما شاء ربك من أمكنة جهنم، فإن قلت قد قال أبو نضرة: القرءان كله ينتهي إلى هذه الآية (إن ربك فعال لما يريد) قلت: هذا كلام صحيح والله يفعل ما يريد وليس في ذلك أنه يخرج الكفار من النار، فإن قلت: قد قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وقتادة الله أعلم بتثنيته على ما وقعت. قلت: صحيح لأن تعيين كل واحد من الأقوال التي حكيناها ضعيف والله أعلم به وبغيره وليس في كلام أبي سعيد وقتادة ما يحتمل خروج الكفار من النار.
فإن قلت: قد روى الطبراني عن يونس عن ابن أبي ذئب عن ابن زيد في قوله (عطاء غير مجذوذ) قال أخبرنا الذي شاء لأهل الجنة فقال (عطاء غير مجذوذ) ولم يخبرنا بالذي شاء لأهل النار. قلت: هذا الذي يقتضي أن ابن زيد يقول بعدم الانقطاع لأنه جعل (عطاء غير مجذوذ) هو الذي شاءه وهو الذي بعد الاستثناء فكذا يكون في أهل النار أن الاستثناء لا يدل على الانقطاع ولكنه لم يبين ما بعده بل قال تعالى (إن ربك فعال لما يريد) فان قلت: فقد قال السدّي إنها يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج. قلت: إن صح هذا عن السدي أنها يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج فهو محمول على أنه حملها على العصاة لأن الطامعين هم المسلمون.
فإن قلت: قد روى عبد بن حميد في تفسيره عن سليمان بن حرب نا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن قال عمر رضي الله عنه لو لبث أهل النار في النار بقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون. قلت: الحسن لم يسمع من عمر وقد رأيت هذا الأثر في تفسير عبد في موضعين في أحدهما يخرجون وفي الآخر يرجون لا تصريح فيه فقد يحصل لهم رجاء ثم ييأسون ويخرجون يحتمل أن يكون من النار إلى الزمهرير ويحتمل أن يكون ذلك في عصاة المؤمنين فلم يجيء في شيء من الآثار أنه في الكفار.
فإن قلت: قد قال: هذا المصنف إنه يحتج على فناء النار بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة رضي الله عنهم. قلت: هذا الكتاب والسنة بين أظهرنا بحمد الله وهما دالان على بقائهما.
فإن قلت: قد قال في (مسند أحمد) حديث ذكر فيه أنه ينبت فيها الجرجير، قلت : ليس في (مسند أحمد) ولكنه في غيره وهو ضعيف ولو صح حمل على طبقة العصاة.
فإن قلت: قال حرب الكرماني: سألت اسحق عن قول الله تعالى (إلا ما شاء ربك) فقال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرءان، وعن أبي نضرة عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الآية تأتي على القرءان كله حيث كان في القرءان (خالدين فيها) تأتي عليه. قلت: إن صحت هذه الآثار حملت على العصاة لأن القرءان لم يرد فيه خروج العصاة من النار صريحا إنما ورد في السنة بالشفاعة فالمراد بهذه الآثار موافقة القرءان للسنة في ذلك فإن السلف كانوا شديدي الخوف ولم يجدوا في القرءان خروج الموحدين من النار وكانوا يخافون الخلود كما تقوله المعتزلة.
فإن قلت: قال ابن مسعود رضي الله عنه ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً. قلت: إن صح هذا عن ابن مسعود حمل على طبقة العصاة وقوله أحقاباً يحمل على أحقاب غير الأحقاب المذكورة في القرءان حتى يصح الحمل على العصاة.
فإن قلت: قال الشعبي: جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا. قلت: أنا أعيذ الشعبي من ذلك فإنه يقتضي خراب الجنة.
فإن قلت: قد اعترض هذا المصنف على الإجماع لأنه غير معلوم فإن هذه المسائل لا يقطع فيها بإجماع نعم قد يظن فيها الإجماع قبل أن يعرف النزاع وقد عرف النزاع قديماً وحديثاً بل إلى الساعة. قلت: الإجماع لا يعترض عليه بأنه غير معلوم بل يعترض بنقل خلاف صريح ولم ينقله وإنما هو من تصرفه وفهمه وقوله إن هذه المسائل لا يقطع فيها باجماع دعوى مجردة.
فإن قلت قد قال لم أعلم أحداً من الصحابة رضي الله عنهم قال لا تفنى وإنما المنقول عنهم ضد ذلك لكن التابعون نقل عنهم هذا وهذا. قلت: هو مطالب بالنقل عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين ولن يجده وغايته كما قلت لك أن يأخذه من كلمات وردت فهم منها ذلك، ويجب تأويلها تحسيناً للظن بهم.
فإن قلت: قد قال إنه ليس في القرءان ما يدل على أنها لا تفنى بل الذي يدل عليه ظاهر القرءان أنهم خالدون فيها أبدا وأنه يقتضي خلودهم فيها ما دامت باقية لا يخرجون منها مع بقائها وبقاء عذابها كما يخرج أهل التوحيد. قلت: قد قلت لك إن حقيقة الخلود في مكان يقتضي بقاء ذلك المكان وقد تأملت كلام المصنف فلم أر فيه زيادة على ذلك بل اندفع في ذكر الآيات وأحاديث الشفاعة ولم يبين ما يؤول إليه أمر الكفار بعد فناء النار.
فإن قلت: قد فرق بين الجنة والنار شرعاً وعقلا أما شرعاً فمن وجوه: أحدها أن الله تعالى أخبر ببقاء نعيم أهل الجنة ودوامها وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها. قلت: قد أخبر في النار وأهلها أنهم في عذاب مقيم وأنهم لا يفتر عنهم ولا يخفف عنهم فلو فنيت لكان إما أن يموتوا فيها أو يخرجوا وكل منهما أخبر في القرءان بنفيه.
فإن قلت: قد ذكره من الوجوه الشرعية أن الجنة من مقتضى رحمته والنار من عذابه فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته فيجب دوامه بدوام معاني أسمائه وصفاته والعذاب من مخلوقاته والمخلوق قد يكون له انتهاء لا سيما مخلوق خلق لحكمة تتعلق بغيره. قلت: ومن أسمائه تعالى شديد العقاب والجبار والقهار والمذل والمنتقم فيجب دوامه بدوام ذاته وأسمائه أيضاً فنقول لهذا الرجل إن كانت هذه الأسماء والصفات تقتضي دوام ما يقتضيه من الأفعال فيلزم قدم العالم وإن كانت لا تقتضي فلا يلزم دوام الجنة فأحد الأمرين لازم لكلام هذا الرجل وكل من الأمرين باطل.
فإن قلت: قد قال إنه أخبر أن رحمته وسعت كل شيء وسبقت رحمتي غضبي فإذا قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة. قلت: الآخرة داران دار رحمة لا يشوبها شيء وهي الجنة ودار عذاب لا يشوبها شيء وهي النار وذلك دليل على القدرة والدنيا مختلطة بهذا وبهذا فقوله إذا قدر عذاب لا آخر له لم يكن هناك رحمة البتة إن أراد نفي الرحمة مطلقا فليس بصحيح لأن هناك كمال الرحمة في الجنة وإن أراد لم يكن في النار قلنا له وإن قال إنها شيء والعقاب شيء وقد قال تعالى (فسأكتبها للذين يتقون).
فإن قلت: قد ثبت أنه حكيم رحيم والنفوس الشريرة التي لو ردت إلى الدنيا لعادت لا تصلح أن تسكن دار السلام فإذا عذبوا عذاباً تخلص نفوسهم من ذلك الشر كان هذا معقولا في الحكمة أما خلق نفوس تعمل الشر في الدنيا وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره، ولهذا كان جهم ينكر أن يكون الله تعالى أرحم الراحمين بل يفعل ما يشاء والذين سلكوا طريقته كالأشعري وغيره ليس عندهم في الحقيقة له حكمة ولا رحمة وإذا ثبت أنه حكيم رحيم وعلم بطلان قول جهم تعين إثبات ما تقتضيه الحكمة والرحمة وما قاله المعتزلة أيضا باطل فقول القدرية والمجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل ومن أعظم غلطهم اعتقادهم تأبيد جهنم فإن ذلك مستلزم ما قالوه وقد أخبر تعالى أن أهل الجنة والنار لا يموتون فلا بد لهم من دار ومحال أن يعذبوا بعد دخول الجنة فلم يبق إلا دار النعيم والحي لا يخلو من لذة او ألم فإذا انتفى الألم تعينت اللذة الدائمة. قلت : قد صرح بما صرح به في آخر كلامه فيقتضي أن ابليس وفرعون وهامان وسائر الكفار يصيرون إلى النعيم المقيم واللذة الدائمة وهذا ما قال به مسلم ولا نصراني ولا يهودي ولا مشرك ولا فيلسوف أما المسلمون فيعتقدون دوام الجنة والنار وأما المشرك فيعتقد عدم البعث وأما الفيلسوف فيعتقد أن النفوس الشريرة في ألم فهذا القول الذي قاله هذا الرجل ما نعرف أحدا قاله وهو خروج عن الإسلام بمقتضى أهل العلم اجمالا… وسبحان الله إذا كان الله تعالى يقول (أولئك الذين يئسوا من رحمتي) وكذلك قوله تعالى (كلما خبت زدناها سعيرا) ونبيه صلى الله عليه وسلم يخبر بذبح الموت بين الجنة والنار ولا شك أن ذلك إنما يفعل إشارة إلى إياسهم وتحققهم البقاء الدائم في العذاب فلو كانوا ينتقلون إلى اللذة والنعيم لكان ذلك رجاء عظيما لهم وخيرا من الموت ولم يحصل لهم إياس فمن يصدق بهذه الآيات والأحاديث كيف يقول هذا الكلام وما قاله من مخالفة الحكمة جهل وما ينسبه إلى الأشعري رضي الله عنه افتراء عليه نعوذ بالله تعالى منه.
فإن قلت: قد يقول إنه تخلص نفوسهم من الشر بذلك العذاب فيسلمون. قلت: معاذ الله أما إسلامهم في الاخرة فلا ينفعهم بإجماع المسلمين وبقوله تعالى: (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) وأما خلوصهم من الشرط فباطل لقوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم) و(طبع على قلوبهم) فهذا يستحيل أن يخرج الشر من قلوبهم أو يدخل فيها خير.
فإن قلت: ما في خلق هؤلاء من الحكمة قلت: اظهار القدرة واعتبار المؤمنين وفكرتهم في عظمة الله تعالى القادر على أن يخلق الملائكة والبشر الصالحين والأنبياء ومحمداً صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وعلى أن يخلق من الطرف الآخر فرعون وهامان وأبا جهل وشياطين الجن والانس وإبليس رأس الضلال، والقادر على خلق دارين متمحضة كل واحدة منهما هذه للنعيم المقيم وهذه للعذاب الأليم ودار ثالثة وهي الدنيا ممتزجة من النوعين فسبحان من هذه قدرته وجلت عظمته وكان الله سبحانه قادرا أن يخلق الناس كلهم مؤمنين طائعين ولكن أراد سبحانه أن يبين الشيء وضده، علمه من علمه وجهله من جهله، والعلم منشأ السعادة كلها نشأ عنه إيمان والطاعة، والجهل منشأ الشقاوة كلها نشأ عنه الكفر والمعصية وما رأيت مفسدة من أمور الدنيا والآخرة تنشأ إلا عن الجهل فهو أضر الأشياء. فإن قلت: قد نقل عن جهم وأصحابه أنهم قالوا بفناء الجنة والنار وأن أئمة الإسلام كفروهم بذلك لأربع آيات من القرءان قوله تعالى (أكلها دائم) و(ماله نفاد) (لا مقطوعة ولا ممنوعة) (عطاء غير مجذوذ) ولما رواه الطبراني وابن ماجه في التفسير. قلت: من قال بفناء الجنة والنار أو أحدهما فهو كافر.
فإن قلت: قد قال هذا المصنف إن هذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام استدلوا به على حدوث الأجسام وحدوث ما لا يخلو من الحوادث قلت: في هذا دسيسة يشبه أن يكون هذا المصنف قصد به التطرق إلى حلول الحوادث بذات البارئ تعالى وتنـزه وقد أطال الكلام في ذلك وقال بعده إنه اشتبه هذا على كثير من أهل الكلام هذا ما اعتقدوه حقًا حتى بنوا عليه حدوث ما لم يخل عن الحوادث ثم قال وعليه أيضا نفي الصفات لأنها أعراض لا تقوم إلا بجسم هذا كلامه ويشبه أن يكون عمل هذا التصنيف وسيلة إلى تقرير ذلك.
نسأل الله تعالى العافية والسلامة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وءاله وصحبه وأزواجه وذريته والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
قال مصنفها التقي السبكي: صنفتها في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. والحمد لله رب العالمين.