الخميس نوفمبر 21, 2024

الفصل السادس:
رد ما يُفترى عليه
بأنه أراد الانتحار بعد فتور الوحي عنه
والعياذ بالله

إرادة الانتحار تنافي النبوة

من الكفر الشنيع قولُ بعض الناس في حديث فتور الوحي: إنَّ النبيَّ أراد الانتحار أكثر من مرةٍ، معتمدين على حديث فهموه على غير وجهه، فمن زعم أنه كان أراد أن ينتحر فهو كافر. فليس معنى الحديث أنه أراد أن ينتحر لأن إرادة الانتحار تتنافى مع العصمة، فالأنبياء معصومون عن الكبائر وعن الهمّ بها.

فليَحذرْ مَنْ رأى هذا التأويل الفاسد لهذا الحديث، فقد نقله الحافظ ابن حجر عن بعض المحدّثين من غير إقرار منه، واعتقاد هذا المعنى الفاسد كفرٌ وإلحاد، لأن الانتحار أكبر المعاصي بعد الكفر، فلا يُتصوَّر حصوله من الرسول عليه الصلاة والسلام، لا سيما وجبريل يقول له: «يا محمد أنتَ رسولُ الله حقًّا».

فلا يجوز اعتقاد أن الرسول ﷺ كان يريد أن يقتل نفسه بإلقاء نفسه من ذِروة الجبل، إنما كان يقصد أن يخفّ عنه الوجْدُ الذي لحقه بفتور الوحي عنه تلك المدة، وهو يعلم أنه لا ينضرّ بذلك الإلقاء.

والحديث رواه البخاريّ رحمه الله من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، فقال: عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت بعد سرد حديث طويل: «ثم لم يَنْشَبْ وَرَقَةُ أن تُوُفّيَ وَفَتَرَ([1]) الوحيُ فترةً حتى حزن النبيُّ في ما بلغنا حزنًا غدا منه مرارًا كي يتردَّى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه، تبدّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقًّا. فيسكن لذلك جأشه، وتقرّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل فقال له مثل ذلك»([2]).اهـ.

ثم إن هذا اللفظ المرويّ أي من قوله: «فترة» إلى قوله: «حتى حزن» هو من مرسلات([3]) الزهري، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر العسقلاني في الفتح فقال: «إن القائل – في ما بلغنا – هو الزهريّ، ومعنى الكلام: أن في جملة ما وَصَلَ إلينا من خبر رسول الله في هذه القصة وهو من بلاغات الزهريّ وليس موصولًا»([4]).اهـ.

وقال يحيى القطان([5]): «مرسل الزهريّ شر من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكلما يقدر أن يسمي سمى، وإنما يترك من لا يستجيز أن يسميه»([6]).اهـ.

وقد روى ابن سعد([7]) في الطبقات: «أخبرنا محمد بن عمر قال حدَّثني إبراهيم بن محمد بن أبي موسى عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ لـمّا نزل عليه الوحي بحراء، مكث أيامًا لا يرى جبريل عليه السلام، فحزن حزنًا شديدًا، حتى كان يغدو إلى ثَبِير مرة، وإلى حراء مرةً، يريد أن يلقي نفسه منه، فبينا رسول الله ﷺ كذلك عامدًا لبعض تلك الجبال، إلى أن سمع صوتًا من السماء، فوقف رسول الله ﷺ صعقًا للصوت، ثم رفع رأسه: فإذا جبريل على كرسيّ بين السماء والأرض متربعًا عليه، يقول: «يا محمد، أنت رسول الله حقًّا، وأنا جبريل». وهذه الرواية عن طريق محمد بن عمر الواقديّ([8]) وهو متروك الحديث، قال عنه البخاريّ: «ما عندي للواقدي حرف، وما عرفت من حديثه فلا أقنع به»([9]).اهـ.

قال عنه الذهبي في ترجمته: «لم أَسُقْ ترجمته هنا لاتفاقهم على ترك حديثه، وهو من أوعية العلم لكنه لا يتقن الحديث، وهو رأس في المغازي والسير، ويروي عن كل ضرب. مات سنة سبع ومائتين، حمل عن ابن عجلان وابن جريج ومعمر وهذه الطبقة، ولي قضاء بغداد، وكان له رئاسة وجلالة، وصورة عظيمة. عاش ثمانَ وسبعين سنة»([10]).اهـ.

فتبيّن بذلك أن هذا القول فرِيَة بلا مِرية، والعجب كيف يُظنّ بسيدنا محمد ﷺ الذي هو إمام الأنبياء وأفضل العالمين الذي يُعلّم الناس الهدى والخير ومصالح دينهم ومعيشتهم كيف يُظن أن يُقدم على الانتحار، فهذا هو الجهل بعينه على دين الله وعلى رسول الله ﷺ.

فنصوص الأحاديث والسيرة النبوية تحتاج إلى تأنّ في فهمها وحملها على الوجه الصحيح كما قرّره أهل التحقيق والنظر، أما قراءتها هكذا من دون تبصُّر وتبيُّن فهو طريق الهاوية، وليس الشأن في مجرد الرواية؛ بل لا بد من اعتبار الدراية، والله الموفق للصواب.

 

 

[1])) «فَتَرَ الشيءُ والحرُّ، وفُلانٌ يَفْتُر ويَفْتِر، من حَدّ نَصَرَ وضَرَبَ فُتُورًا كقُعُودٍ، وفُتَارًا كغُرَاب: سَكَنَ بَعْدَ حِدَّةٍ ولانَ بَعْدَ شِدّةٍ».اهـ. تاج العروس، الزبيديّ، مادة: (ف ت ر)، (13/292، 293).

[2])) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب التعبير، باب: أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، (9/38).

[3])) «اتفق علماء الطوائف أن قول التابعيّ الكبير قال رسول الله ﷺ كذا أو فعله يسمّى مرسلًا، فإن انقطع قبل التابعي واحد أو أكثر قال الحاكم وغيره من المحدثين: لا يسمّى مرسلًا؛ بل يختص المرسل بالتابعيّ عن النبي ﷺ، فإن سقط قبله فهو منقطع وإن كان أكثر فهو معضل ومنقطع».اهـ. تدريب الراوي، السيوطي، (1/591).

[4])) فتح الباري، ابن حجر، (16/290).

[5])) يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميميّ البصريّ (ت198هـ)، أبو سعيد، من حفاظ الحديث ثقة حجة. ولد في أول سنة مائة وعشرين، سمع سليمان التيمي وهشام بن عروة وعطاء بن السائب وخلقًا كثيرًا، وروى عنه سفيان وشعبة ومعتمر بن سليمان وخلق كثير، ولم يعرف له تأليف إلا ما في كشف الظنون من أن له كتاب «المغازي». وقال أحمد بن حنبل: «ما رأيت بعيني مثل يحيى القطان».اهـ. سير أعلام النبلاء، الذهبي (9/175). الأعلام، الزركلي، (8/147).

[6])) شرح علل الترمذيّ، ابن رجب، (1/284).

[7])) محمد بن سعد بن منيع الزهريّ (ت230هـ)، أبو عبد الله، مؤرخ ثقة، من حفاظ الحديث. ولد في البصرة، وسكن بغداد، فتوفي فيها. وصحب الواقديّ المؤرخ زمانًا فكتب له وروى عنه وعرف بكاتب الواقديّ. قال الخطيب في تاريخ بغداد: «محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة وحديثه يدل على صدقه فإنه يتحرى في كثير من رواياته».اهـ. أشهر كتبه: (طبقات الصحابة) يعرف بطبقات ابن سعد والطبقات الكبرى. الأعلام، الزركلي، (6/136، 137).

[8])) محمد بن عمر بن واقد السهميّ الأسلميّ بالولاء، المدنّ، أبو عبد الله الواقديّ (ت207هـ)، ولد بالمدينة وكان حناطًا – تاجر حنطة – بها، وضاعت ثروته، فانتقل إلى العراق سنة 180هـ، من كتبه: (المغازي النبوية)، و(أخبار مكة)، و(فتوح العراق). الأعلام، الزركلي، (6/311).

[9])) الطبقات الكبرى، ابن سعد، ذكر أول ما نزل عليه من القرآن وما قيل له ﷺ. (1/196)، رقم 469.

[10])) تذكرة الحفّاظ، الذهبيّ، (1/354).