السبت ديسمبر 21, 2024

الـمَجلِسُ الرّابِعُ: في ذِكرِ العَشرِ الأواخِر مِن رَمضانَ

جاء في «الصّحِيحَينِ» عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ([1]) وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»، وفي روايةِ لِمُسلِم عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» ومِن ذلكَ إِحياءُ أغلَبِ اللّيلِ، وقال بعضُهم: إِحياءُ نِصفِه.

وذكر بعضُ الشافعِيّة في إحياءِ لَيلَتِي العِيَدَين انّه تَحصُل فَضِيلةُ الإحياءِ بمُعظَم اللّيلِ، وقال بعضُهم: تَحصُل بساعةٍ([2])، وقد نَقَل الإمامُ الشافعِيّ رضي الله عنه في كتابِه «الأُمّ» عن جماعةٍ مِن خِيارِ أهلِ المدينةِ ما يُؤيِّدُه، ونُقِل عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما أنّ إحياءَها([3]) يَحصُل بأنْ يُصلِّي العِشاءَ في جَماعةٍ ويَعزِمَ على أنّ يُصلِّي الصُّبحَ في جماعةٍ، وقال الإمامُ مالكٌ في «الموطَّأ»: بَلَغَنِي أنّ ابنَ الـمُسيِّبِ قال: «مَن شَهِدَ لَيلةَ القَدْرِ([4]) فقَدْ أخَذَ بِحَظِّه مِنها»، كذا قال الشافعِيُّ في القَدِيم: مَن شَهِدَ العِشاءَ والصُّبحَ لَيلةَ القَدْر فقَد أخَذ بِحَظِّه مِنها.

قال سُفيانُ الثّورِيُّ: أحَبُّ إِلَيّ إذا دخَل العَشرُ الأواخِرُ أنْ يَتهجَّد باللَّيلِ ويَجتهدَ فيه ويُنهِضَ أهلَه وولدَه إلى الصّلاةِ إنْ أطاقُوا ذلك، وقد صَحّ عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يَطرُق فاطِمةَ وعَلِيًّا([5]) ليلًا فيقولُ لهُما: «أَلَا تَقُومَانِ فتُصَلِّيانِ»، وكان يُوقِظُ عائشةَ باللّيلِ إذا قضَى تَهجُّدَه وأرادَ أنْ يُوتِر، وورَد التّرغِيبُ في إيقاظِ أحدِ الزّوجَين الآخَر للصّلاةِ ونَضحِ الماءِ في وَجهِه سواءٌ في رَمضانِ وغَيرِه.

كانت امرأةُ حَبِيبٍ أبي محمّدٍ([6]) رضي الله عنهما تقُول له باللّيلِ: قد ذهَب اللّيلُ وبَينَ أيدِينا طرِيقٌ بَعِيدٌ، وزادٌ قلِيلٌ، وقوافِلُ الصالحِين قد صارَتْ قُدّامَنا ونحنُ قد بَقِينا.

يَا نَائِمَ اللَّيْلِ كَمْ تَرْقُدُ
وَخُذْ مِنَ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِهِ
مَنْ نَامَ حَتَّى يَنْقَضِي لَيْلُهُ
قُلْ لِذَوِي الْأَلْبَابِ أَهْلِ التُّقَى

 

 

قُمْ يَا حَبِيبي قَدْ دَنَا الْمَوْعِدُ
وِرْدًا إِذَا مَا هَجَعَ الرُّقَّدُ
لَمْ يَبْلُغِ الْمَنْزِلَ أَوْ يَجْهَدُ
قَنْطَرَةُ العَرْضِ لَكُمْ مَوْعِدُ

وجاء في وَظائف اللّيلة الّتي يُلتمَسُ فِيها أُمورٌ، مِنها:

  • تأخيرُ الفِطر: فقَد رُوِي مِن حديثِ عائشةَ أنّ النّبِي كانَ يؤخِّرُ فِطرَه إلى السُّحور، لكِنّ في الحديث ضَعفًا إلّا أنّه ثبَت أنّ بعضَ السَّلَف كانَ يَطلُب تأخِيرَ الفِطرِ في اللّيالِي الّتي تُرجَى فيها لَيلةُ القَدْرِ، فعَن زِرِّ بنِ حُبَيشٍ رضي الله عنه قال في لَيلةِ سَبعٍ وعِشرينَ: «مَن استَطاعَ مِنكُم أنْ يُؤخِّر فِطرَه فلْيَفعَل وليُفطِر على ضِياحِ لبَنٍ»([7]).
  • والاغتِسالُ بَين العِشاءَين: وقَد ورَد في الحديثِ عن عائشةَ رضي الله عنها أنّ النّبِيَّ كانَ إذا دخَل العَشرُ الأواخِرُ مِن رَمَضانَ اغتَسل بَين أذانَيِ الـمَغرِب والعِشاءَ، ومِثلُه رُوي عن عليّ مرفوعًا، وفي إسنادَيهِما ضَعفٌ. لكن قال ابنُ جَرِيرٍ: كانوا يَستحِبُّون أنْ يَغتسِلُوا كلَّ لَيلةٍ مِن لَيالِي العَشرِ الأواخِر، وكان النَّخعِيُّ يَفعَلُ ذلكَ، ومِنهُم مَن كان يَغتسِلُ ويَتطيَّبُ في اللّيالِي الّتي تكُون أرجَى لِلَيلةِ القَدْر، ورُوِي عن أنَسٍ رضي الله عنه أنّه إِذَا كانَ ليلةُ أربعٍ وعِشرينَ اغتسَل وتَطيَّب ولَبِسَ حُلّةَ إزارٍ أو رداءٍ، فإذا أصبَح طَواهُما فلَم يَلبَسْهُما إلى مِثلِها مِن قابِلٍ، وكان أيُّوبُ السَّختِيانِيُّ رضي الله عنه يَغتسِلُ لَيلةَ ثلاثٍ وعِشرِين وأربعٍ وعِشرِين ويَلبَسُ ثَوبَين جَدِيدَين ويَستَجمِرُ ويقُول: ليلةُ ثلَاثٍ وعِشرِين هي لَيلةُ أهلِ الـمَدِينة، والّتِي تَلِيها لَيلَتُنا([8])، وكان ثابِتٌ البُنانِيُّ وحُمَيدٌ الطَّوِيل رضي الله عنهُما يلبَسان أحسَنَ ثِيابهما ويَتطيَّبان ويُطَيِّبَانِ الـمَسجِد في اللّيلةِ الّتي تُرجَى فيها لَيلةُ القَدْر. فتَبيَّن بهذا أنه يُستحَبُّ في اللّيالي الّتي تُرجَى فيها ليلةُ القَدْر التنّظُّف والتّزيُّن والتَطيُّب بالغُسلِ والطِّيب واللِّباس الحسَن كما يُشرَع ذلك في الجُمَعِ والأعيادِ، ولا يَكمُل التزَيُّن الظاهِر إلا بِتَزيُّن الباطِن بالتّوبة والإنابةِ إلى الله تعالى وتَطهِير العبدِ نَفسَه مِن أدناسِ الذُّنوب وأوضارِها، فإنّ زِينةَ الظاهِر معَ خَرابِ الباطنِ لا تُغنِي شيئًا قال الله تعالى: {يا بَني آدَمَ قَد أَنزَلنا عَلَيكُم لِباسًا يُواري سَوآتِكُم وَريشًا وَلِباسُ التَّقوى ذلِكَ خَيرٌ} [الأعراف: 26].

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى

 

 

تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا

   
  • والاعتِكافُ: ففي «الصّحِيحَين» عن عائشةَ رضي الله عنها «أنّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حَتَّى توَفَّاه اللهُ تعالَى»، وفي «صَحِيح البُخارِيّ» عن أبي هرَيرة رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا»، وإنّما كان يَعتكِفُ صلى الله عليه وسلم في هذه العَشرِ الّتي يُطلَب فيها ليلةُ القَدْر. والـمُعتكِف قد حبَس نَفسَه على طاعةِ الله وذِكرِه وقطَع عن نَفسِه كُلّ شاغِلٍ يَشغَلُه عن ذلكَ، وعكَف بِقَلبِه وقالَبِه على طاعةِ رَبِّه، فلَا يَبْقَى للمُعتَكِف هَمٌ سِوَى ما يُرضِي الله عنهُ.

يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا
مَا يَقُومُ اللَّيْلَ إِلَّا

 

رُبَّ دَاعٍ لَا يُرَدُّ
مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ

ليلةُ القَدْرِ ِعِند الطّائعِين لَيلةُ الحَظْوةِ بالأُنس في طاعةِ مَولاهُم، والانقِطاعِ عمّا يَشغَلُهم مِن أمور دُنياهُم، فيا مَن ضاعَ عمُره استَدرِكْ ما فاتَك في ليلةِ القَدْر، فإنّها تُحسَب بالعُمر.

قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1 – 3]، قال مالِكٌ: بلَغَني أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى أعمارَ النّاسِ قَبلَه أو ما شاءَ اللهُ مِن ذلِكَ فكأنّه تَقاصَر أعمارَ أُمّتِه أنْ لا يَبلُغوا مِن العمَلِ الّذي بَلَغه غَيرُهم في طُولِ العُمر فأعطاهُ اللهُ لَيلةَ القَدْرِ خَيْرًا مِن أَلْفِ شَهرٍ. قال النّخَعِيُّ. العمَلُ فيها خَيرٌ مِن العمَلِ في ألْفِ شَهرٍ([9]).

وفي النّسائي عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ تعالى عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ».

إخوانِي، الـمُعوَّلُ على القَبولِ لا على الاجتِهاد، والاعتِبارُ بِبِرّ القلُوبِ لا بعمَلِ الأبدانِ، رُبَّ قائمٍ حَظُّه مِن قِيامِه السّهَرُ، كَم مِن قائمٍ مَحرُوم، وكَم مِن نائمٍ مَرحوم نامَ وقَلبُه ذاكِرٌ([10])، والأوّلُ قامَ وقَلبُه فاجِرٌ، لكِنّ العبدَ مأمورٌ بالسَّعي في اكتِسابِ الخَيراتِ والاجتهادِ في الأعمالِ الصّالحاتِ، وكُلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِق له، أمّا أهلُ السّعادةِ فيُيَسَّرُون لِعَمل أهلِ السّعادةِ، وأمّا أهلُ الشّقاوةِ فيُيَسَّرُون لِعَمل أهلِ الشّقاوةِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 – 7].

فالمبادَرةَ المبادَرةَ إلى العمَل بالطّاعة فيما بَقِي مِن الشّهرِ، فعسَى أنْ يُستدرَك به ما فاتَ مِن ضَياعِ العُمر.

تَوَلَّى العُمْرُ فِي سَهْوٍ

 

وَفِي لَهْوٍ وَفِي خُسْرٍ

 

فَيَا ضَيْعَةَ مَا َأنْفَقْتُ فِي الأَيَّامِ مِنْ عُمْرِي
وَمَا لِي فِي الَّذِي ضَيَّعْتُ مِنْ عُمْرِيَ مِنْ عُذْرِ
فَمَا أَغْفَلَنا عَنْ وَاجِبَاتِ الَحْمِدِ وَالشُّكْرِ

أَمَا قَدْ خَصَّنَا اللهُ

 

بِشَهْرٍ أَيَّمَا شَهْرِ

 

بِشَهْرٍ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِيهِ أَشْرَفَ الذِّكْرِ

وَهَلْ يُشْبِهُهُ شَهْرٌ
فَكَمْ مِنْ خَبَرٍ صَحَّ

 

وَفِيهِ لَيْلَةُ القَدْرِ
بِمَا فِيهَا مِنَ الخَيْرِ

 

رَوَيْنَا عَنْ ثِقَاتٍ أَنَّهَا تُطْلَبُ فِي الوِتْرِ
فَطُوبَى لِامْرِئٍ يَطْلُبُهَا فِي هَذِهِ العَشْرِ
فَفِيهَا تَنْزلُ الأَمْلَاكُ بِالأَنْوَارِ وَالبِرِّ
وَقَدْ قَالَ سَلامٌ هِيَّ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
أَلَا فَادَّخِرْهَا إِنَّهَا مِنْ أَنْفَسِ الذُّخْرِ

فَكَمْ مِنْ مُعْتَقٍ فِيهَا

 

مِنَ النَّارِ وَلَا يَدْرِي

[1])) فسَّرَه بعضُهم بأنّه كِنايةٌ عن شِدّةِ جِدّه واجتِهاده في العبادةِ، واعترَضهُ بعضُهم وقال: فيه نظَرٌ فإنّها قالتْ: «جَدَّ وَشَدَّ الـمِئْزَرَ» فعطَفَتْ شَدَّ الـمِئزرَ على جِدِّه، والصّحيحُ أنّ الـمُرادَ اعتِزالُه النِّساءَ، وبذلكَ فسَّرَه كثيرٌ مِن السَّلَف كسُفيانَ الثّورِيّ.

[2])) أي: وَقتٍ ولو قَصيرًا.

[3])) أي: أقلَّهُ.

[4])) يعنِي في جَماعةٍ، كذلكَ فسَّرهُ بعضُ الحُفّاظِ.

[5])) الطّرْقُ الإتْيانُ باللّيل، كما فِي القَامُوس.

[6])) كان رضي الله عنه ولِيًّا صاحِبَ كراماتٍ عَجِيبةٍ مُجابَ الدَّعوة جَوادًا مُنفِقًا في سَبِيل اللهِ يَقضِي دُيونَ الـمُعسِرينَ عنهُم لأصحابِها.

[7])) هو اللَّبَن الخاثِر الممزُوجُ بالماء.

[8])) يَعنِي: البِصرِيِّين.

[9])) أي: مِن الأشهُرِ الّتي ليسَ فيها ليلةُ القَدْر.

[10])) أي: خَتَمَ يَقظَته بخُشوعِ القلبِ للهِ.