جاء في «الصّحِيحَينِ» عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ([1]) وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»، وفي روايةِ لِمُسلِم عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» ومِن ذلكَ إِحياءُ أغلَبِ اللّيلِ، وقال بعضُهم: إِحياءُ نِصفِه.
وذكر بعضُ الشافعِيّة في إحياءِ لَيلَتِي العِيَدَين انّه تَحصُل فَضِيلةُ الإحياءِ بمُعظَم اللّيلِ، وقال بعضُهم: تَحصُل بساعةٍ([2])، وقد نَقَل الإمامُ الشافعِيّ رضي الله عنه في كتابِه «الأُمّ» عن جماعةٍ مِن خِيارِ أهلِ المدينةِ ما يُؤيِّدُه، ونُقِل عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما أنّ إحياءَها([3]) يَحصُل بأنْ يُصلِّي العِشاءَ في جَماعةٍ ويَعزِمَ على أنّ يُصلِّي الصُّبحَ في جماعةٍ، وقال الإمامُ مالكٌ في «الموطَّأ»: بَلَغَنِي أنّ ابنَ الـمُسيِّبِ قال: «مَن شَهِدَ لَيلةَ القَدْرِ([4]) فقَدْ أخَذَ بِحَظِّه مِنها»، كذا قال الشافعِيُّ في القَدِيم: مَن شَهِدَ العِشاءَ والصُّبحَ لَيلةَ القَدْر فقَد أخَذ بِحَظِّه مِنها.
قال سُفيانُ الثّورِيُّ: أحَبُّ إِلَيّ إذا دخَل العَشرُ الأواخِرُ أنْ يَتهجَّد باللَّيلِ ويَجتهدَ فيه ويُنهِضَ أهلَه وولدَه إلى الصّلاةِ إنْ أطاقُوا ذلك، وقد صَحّ عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يَطرُق فاطِمةَ وعَلِيًّا([5]) ليلًا فيقولُ لهُما: «أَلَا تَقُومَانِ فتُصَلِّيانِ»، وكان يُوقِظُ عائشةَ باللّيلِ إذا قضَى تَهجُّدَه وأرادَ أنْ يُوتِر، وورَد التّرغِيبُ في إيقاظِ أحدِ الزّوجَين الآخَر للصّلاةِ ونَضحِ الماءِ في وَجهِه سواءٌ في رَمضانِ وغَيرِه.
كانت امرأةُ حَبِيبٍ أبي محمّدٍ([6]) رضي الله عنهما تقُول له باللّيلِ: قد ذهَب اللّيلُ وبَينَ أيدِينا طرِيقٌ بَعِيدٌ، وزادٌ قلِيلٌ، وقوافِلُ الصالحِين قد صارَتْ قُدّامَنا ونحنُ قد بَقِينا.
يَا نَائِمَ اللَّيْلِ كَمْ تَرْقُدُ |
| قُمْ يَا حَبِيبي قَدْ دَنَا الْمَوْعِدُ |
وجاء في وَظائف اللّيلة الّتي يُلتمَسُ فِيها أُمورٌ، مِنها:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى |
| |
| تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا | |
يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا |
| رُبَّ دَاعٍ لَا يُرَدُّ |
ليلةُ القَدْرِ ِعِند الطّائعِين لَيلةُ الحَظْوةِ بالأُنس في طاعةِ مَولاهُم، والانقِطاعِ عمّا يَشغَلُهم مِن أمور دُنياهُم، فيا مَن ضاعَ عمُره استَدرِكْ ما فاتَك في ليلةِ القَدْر، فإنّها تُحسَب بالعُمر.
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1 – 3]، قال مالِكٌ: بلَغَني أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رأى أعمارَ النّاسِ قَبلَه أو ما شاءَ اللهُ مِن ذلِكَ فكأنّه تَقاصَر أعمارَ أُمّتِه أنْ لا يَبلُغوا مِن العمَلِ الّذي بَلَغه غَيرُهم في طُولِ العُمر فأعطاهُ اللهُ لَيلةَ القَدْرِ خَيْرًا مِن أَلْفِ شَهرٍ. قال النّخَعِيُّ. العمَلُ فيها خَيرٌ مِن العمَلِ في ألْفِ شَهرٍ([9]).
وفي النّسائي عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنّ النّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ تعالى عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ».
إخوانِي، الـمُعوَّلُ على القَبولِ لا على الاجتِهاد، والاعتِبارُ بِبِرّ القلُوبِ لا بعمَلِ الأبدانِ، رُبَّ قائمٍ حَظُّه مِن قِيامِه السّهَرُ، كَم مِن قائمٍ مَحرُوم، وكَم مِن نائمٍ مَرحوم نامَ وقَلبُه ذاكِرٌ([10])، والأوّلُ قامَ وقَلبُه فاجِرٌ، لكِنّ العبدَ مأمورٌ بالسَّعي في اكتِسابِ الخَيراتِ والاجتهادِ في الأعمالِ الصّالحاتِ، وكُلٌّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِق له، أمّا أهلُ السّعادةِ فيُيَسَّرُون لِعَمل أهلِ السّعادةِ، وأمّا أهلُ الشّقاوةِ فيُيَسَّرُون لِعَمل أهلِ الشّقاوةِ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 – 7].
فالمبادَرةَ المبادَرةَ إلى العمَل بالطّاعة فيما بَقِي مِن الشّهرِ، فعسَى أنْ يُستدرَك به ما فاتَ مِن ضَياعِ العُمر.
تَوَلَّى العُمْرُ فِي سَهْوٍ |
| وَفِي لَهْوٍ وَفِي خُسْرٍ |
فَيَا ضَيْعَةَ مَا َأنْفَقْتُ فِي الأَيَّامِ مِنْ عُمْرِي |
أَمَا قَدْ خَصَّنَا اللهُ |
| بِشَهْرٍ أَيَّمَا شَهْرِ |
بِشَهْرٍ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِيهِ أَشْرَفَ الذِّكْرِ |
وَهَلْ يُشْبِهُهُ شَهْرٌ |
| وَفِيهِ لَيْلَةُ القَدْرِ |
رَوَيْنَا عَنْ ثِقَاتٍ أَنَّهَا تُطْلَبُ فِي الوِتْرِ |
فَكَمْ مِنْ مُعْتَقٍ فِيهَا |
| مِنَ النَّارِ وَلَا يَدْرِي |
[1])) فسَّرَه بعضُهم بأنّه كِنايةٌ عن شِدّةِ جِدّه واجتِهاده في العبادةِ، واعترَضهُ بعضُهم وقال: فيه نظَرٌ فإنّها قالتْ: «جَدَّ وَشَدَّ الـمِئْزَرَ» فعطَفَتْ شَدَّ الـمِئزرَ على جِدِّه، والصّحيحُ أنّ الـمُرادَ اعتِزالُه النِّساءَ، وبذلكَ فسَّرَه كثيرٌ مِن السَّلَف كسُفيانَ الثّورِيّ.
[2])) أي: وَقتٍ ولو قَصيرًا.
[3])) أي: أقلَّهُ.
[4])) يعنِي في جَماعةٍ، كذلكَ فسَّرهُ بعضُ الحُفّاظِ.
[5])) الطّرْقُ الإتْيانُ باللّيل، كما فِي القَامُوس.
[6])) كان رضي الله عنه ولِيًّا صاحِبَ كراماتٍ عَجِيبةٍ مُجابَ الدَّعوة جَوادًا مُنفِقًا في سَبِيل اللهِ يَقضِي دُيونَ الـمُعسِرينَ عنهُم لأصحابِها.
[7])) هو اللَّبَن الخاثِر الممزُوجُ بالماء.
[8])) يَعنِي: البِصرِيِّين.
[9])) أي: مِن الأشهُرِ الّتي ليسَ فيها ليلةُ القَدْر.
[10])) أي: خَتَمَ يَقظَته بخُشوعِ القلبِ للهِ.