الإثنين ديسمبر 23, 2024
  • العلم كالغيث

     

    إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله من بعثه الله رحمة للعالمين هاديًا ومبشّرًا ونذيرًا، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا من أنبيائه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله.

    أما بعد عباد الله، أصيكم ونفسي بتقوى الله العليِّ العظيم، اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، واعلموا ان الله تعالى يقول: {يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} سورة المجادلة/11 .

    ويقول سبحانه وتعالى : {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلون} سورة الزمر/9 .

    اخوة الايمان ، لقد رفع الله تعالى درجة العلماء العاملين ووصفهم بأنهم اكثر الناس خشية له . يقول تعالى : {انما يخشى الله من عباده العلماء} فاطر/28 .

    ان العلم والتفقه في الدين اسنى سائر الاعمال التي يتقرب بها المؤمن الى ربه وهو اي العلم اسنى ما انفقت فيه نفائس الأوقات . وعلم الدين يحتاج اليه سائر طوائف الناس ، فالحاكم يحتاج له لادارة بلاده والحكم كما يحب الله ، والأب يحتاج اليه لمعرفة كيف يربي ابناءه، والأم تحتاج اليه حتى تعرف ما يجب عليها تجاه زوجها وابنائها وبيتها، التاجر يحتاج الى علم الدين حتى تكون العقود التي يجريها موافقة لشرع الله تعالى . فعلم الدين لا يستغني عنه طبقة من طبقات الناس. وقد قال الله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا قوا انفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون} سورة التحريم/60 .

    وقد جاء في تفسير هذه الآية عن الامام علي رضي الله عنه ان وقاية النفس والأهل تكون بتعلم الأمور الدينية، وقال التابعي الجليل عطاء بن ابي رباح رضي الله عنه في تفسير هذه الآية ايضًا: “أن تتعلم كيف تصلي وكيف تصوم وكيف تبيع وتشتري وكيف تنكح وكيف تطلق” .

    اخي المسلم ، ان اردت طاعة الله فعليك ان تطبق هذه الآية، وان اردت ان تكون محبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحب الكامل فالتزم بقول: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” .

    واسمعوا هذه الأحاديث التي فيها بيان فضل العلم . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” رواه البخاري ومسلم.

    وقال عليه الصلاة والسلام: لا حسد الا في اثنتين رجل ءاتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل ءاتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها” .

    ومعنى  الحسد هنا الغبطة وهو ان يتمنى ان يكون له مثله مع فرحه بما حصل له من غير ان يريد زوال ذلك عنه . وقال عليه الصلاة والسلام: “مثل ما بعثي الله به من الهدى والعلم كمثل غيث (اي مطر) أصاب ارضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها اجادب امسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورزعوا واصاب طائفة منها اخرى انما هي قيعان (أي اراض مستوية لا يدخلها الماء فلا تحفظه داخلها) لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به” .

    وجاء في حديث ءاخر: “من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع” . المعنى ان الذي خرج في طلب العلم في بلده او الى غربة ثوابه كثواب الخارج للجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله درجة عالية من اعلى الدرجات، وقد جعل الله للمجاهدين في سبيل مائة درجة ما بين درجة ودرجة كما بين السماء والأرض ، وهذا الذي خرج بطلب العلم مثاله كمثل هذا الذي خرج حاملا سلاحه لوجه الله ليقاتل اعداء الله وذلك لأن علم الدين سلاح يدافع المؤمن به الشيطان ويدافع به شياطين الإنس ويدافع به هواه .

    فهلموا اخوة الإيمان الى حضور مجالس علم الدين التي سماها رسول الله برياض الجنة حيث قال عليه الصلاة والسلام: “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا” .

    فعليكم بهذه المجالس التي يعرف بها العبد مراتب الأعمال المحرم والمباح والمكروه والواجب والمسنون والباطل والصحيح .

    وليعلم اخوة الإيمان أن من اراد ان يتعلم العلم الشرعي وان يكون عارفًا بالفقه في الدين فما عليه الا ان يسلك طريقا صحيحا لطلب العلم الشرعي، فلا يعتمد على مطالعته الفردية دون ان يكون قد حصل من العلم الشرعي من اهله القدر الذي يؤهله لأن يكون مميزا كي يفرق بين الباطل والصحيح ، فإن لم يفعل ذلك واكتفى بالمطالعة فقط فإنه لا يأمن على نفسه من الوقع في الفهم السيء ، وان الاعتماد على اسلوب المطالعة الفردية للكتب دون الرجوع الى عالم ثقة ورع هو اسلوب لا يجعل المرء عالما ولا طالب علم شرعي . فالواجب على المسلم ان يتلقى علم الدين من اهله. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس فإنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين” .

    وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يذهب الى اهل العلم للتلقي منهم فقال: “من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا الى الجنة”. رواه الترمذي .

    فكن اخي المسلم حريصا على المبادرة الى طلب العلم بإخلاص وهمة ، وقد قال الامام محمد بن سيرين: “إن هذا العلم دين فانظروا فمن تأخذون دينكم” .

    وقال احدهم :

    تعلم فليس المرء يولد عالِما

     

    وليس أخو علم كمن هو جاهل

    وإن كبير القوم لا علم عنده

     

    ضغير إذا التفت عليه المحافل

    وانظروا الى الثواب العظيم الذي يناله طالب العلم . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا ذر لأن تغدو فتتعلم ءاية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة ولأن تغدو فتتعلم بابا من العلم خير لك من أن تصلي ألف ركعة” . والمراد بالركعات هنا اي النوافل .

     ثم ليعلم ان أولى العلوم عناية وتحصيلا هو علم العقيدة لأن شرف العلم بشرف المعلوم ، ولما كان علم التوحيد متعلق بأشرف المعلومات التي هي اصول الدين من معرفة الله ورسوله كان أولى بالتحصيل من علم الفروع. وقد قال الله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك للمؤمنين والمؤمنات} سورة محمد/19 .

    ومعنى معرفة الله اي معرفة ما يليق في الله من صفات الكمال نحو القدرة والإرادة وكونه سميعا بصيرا متكلما وتنْزيه الله عما لا يجوز عليه من الجهة والمكان ومشابهة المخلوقات بأي وجه من الوجوه كالحركة والسكون والتطور من حال الى حال واللون والشكل . قال الله تعالى: {ليس كمثله شىء} سورة الشورى/11 .

    وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه بالترقي في هذا العلم فقال: “أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له” رواه البخاري .

    هذا وأستغفر الله العليّ العظيم لي ولكم

    الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

    إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْوَعْدِ الأَمِينِ وَعَلَى إِخْوَانِهِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ. وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَءَالِ الْبَيْتِ الطَّاهِرِينَ وَعَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَنِ الأَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَعَنِ الأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللَّهِ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ بِتَقْوَى اللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَاتَّقُوهُ.

    وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبِيِّهِ الْكَرِيْمِ فَقَالَ ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ علَى سَيّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ اللَّهُمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعَاءَنَا فَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلاَ مُضِلِّينَ اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَءَامِنْ رَوْعَاتِنَا وَاكْفِنَا مَا أَهَمَّنَا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّف. عِبادَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِي، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يُثِبْكُمْ وَاشْكُرُوهُ يَزِدْكُمْ، وَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ وَاتَّقُوهُ يَجْعَلْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مَخْرَجًا، وَأَقِمِ الصَّلاةَ.