#1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ. أَمَّا بَعْدُ، قَالَ الشَّيْخُ جِيلُ صادِقُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ)
أَىْ أَبْتَدِئُ تَأْلِيفِى لِهَذَا الْكِتَابِ بِقَوْلِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ وَأُثْنِى عَلَى اللَّهِ بِقَوْلِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أَىِ الْمَالِكِ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ (الْحَىِّ) بِلا رُوحٍ وَلا جَسَدٍ (الْقَيُّومِ) أَىِ الدَّائِمِ الَّذِى لا يَزُولُ (الْمُدَبِّرِ لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقِينَ) أَىِ الَّذِى أَوْجَدَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى حَسَبِ عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّيْنِ (وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ الأَتَمَّانِ الأَكْمَلانِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ) رَسُولِ اللَّهِ أَىِ اللَّهُمَّ زِدْ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا شَرَفًا وَتَعْظِيمًا وَقَدْرًا وَسَلِّمْهُ مِمَّا يَخَافُ عَلَى أُمَّتِهِ (وَعَلَى ءَالِهِ) أَىْ أَزْوَاجِهِ وَأَقْرِبَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ (وَصَحْبِهِ) الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَالصَّحَابِىُّ هُوَ مَنْ لَقِىَ النَّبِىَّ ﷺ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الإِيمَانِ.
(وَبَعْدُ فَهَذَا) كِتَابٌ (مُخْتَصَرٌ) أَىْ قَلِيلُ الأَلْفَاظِ كَثِيرُ الْمَعَانِى (جَامِعٌ لِأَغْلَبِ الضَّرُورِيَّاتِ) مِنْ عِلْمِ الدِّينِ وَهِىَ (الَّتِى) لا يُسْتَغْنَى عَنْهَا وَ(لا يَجُوزُ لِكُلِّ مُكَلَّفٍ جَهْلُهَا مِنْ) أُمُورِ (الِاعْتِقَادِ) أَىِ الْعَقِيدَةِ كَمَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ ﷺ (وَمَسَائِلَ فِقْهِيَّةٍ) أَىْ أَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ شُرُوطًا وَأَرْكَانًا وَمُبْطِلاتٍ (مِنَ الطَّهَارَةِ إِلَى الْحَجِّ) بِمَا يَشْمَلُ الصَّلاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيامَ (وَشَىْءٍ) قَلِيلٍ (مِنْ أَحْكَامِ الْمُعَامَلاتِ) وَهِىَ مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَالإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَنَحْوِهَا مَعَ بَيَانِ حُكْمِ الرِّبَا وَبَعْضِ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ (عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ) مُحَمَّدِ بنِ إِدْرِيسَ (الشَّافِعِىِّ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعٍ هِجْرِيَّةً (ثُمَّ بَيَانِ) الْوَاجِبَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَهِىَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَ(مَعَاصِى الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ) وَهِىَ أَعْضَاءُ الإِنْسَانِ (كَاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ) وَخُتِمَ الْكِتَابُ بِفَصْلٍ فِى بَيَانِ أَحْكَامِ التَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ. (الأَصْلُ) أَىْ أَصْلُ هَذَا الْكِتَابِ هُوَ كِتَابُ سُلَّمِ التَّوْفِيقِ إِلَى مَحَبَّةِ اللَّهِ عَلَى التَّحْقِيقِ (لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْحَضْرَمِيِّينَ) مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ (وَهُوَ) الشَّيْخُ (عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ حُسَيْنِ بنِ طَاهِرٍ) الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ وَاثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ. اخْتُصِرَ كِتَابُهُ (ثُمَّ ضُمِّنَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ نَفَائِسِ الْمَسَائِلِ) أَىْ زَادَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَصْلِ هَذَا الْكِتَابِ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةً وَجَيِّدَةً زَادَتْهُ وُضُوحًا (مَعَ حَذْفِ مَا ذَكَرَهُ) الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُسَيْنٍ (فِى التَّصَوُّفِ) أَىْ تَرَكَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ أَصْلِ هَذَا الْكِتَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّصَوُّفِ كَالزُّهْدِ وَهُوَ تَرْكُ التَّنَعُّمِ الَّذِى أَحَلَّهُ اللَّهُ (وَتَغْيِيرٍ لِبَعْضِ الْعِبَارَاتِ مِمَّا لا يُؤَدِّى إِلَى خِلافِ الْمَوْضُوعِ) أَىْ أَبْدَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْضَ عِبَارَاتِ الأَصْلِ بِعِبَارَاتٍ أَجْوَدَ وَأَوْضَحَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّىَ ذَلِكَ إِلَى تَغْيِيرٍ فِى مَوْضُوعِ الْكِتَابِ الَّذِى هُوَ بَيَانُ الْفَرْضِ الْعَيْنِىِّ أَىْ مَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْهَرَرِىُّ (وَقَدْ نَذْكُرُ مَا رَجَّحَهُ بَعْضٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ الشَّافِعِيِّينَ كَالْبُلْقِينِىِّ لِتَضْعِيفِ مَا فِى الأَصْلِ) أَىْ أَبْدَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ الأَقْوَالَ الضَّعِيفَةَ الَّتِى ذَكَرَهَا الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّهِ بنُ حُسَيْنٍ فِى كِتَابِهِ سُلَّمِ التَّوْفِيقِ بِأَقْوَالٍ أُخْرَى قَوِيَّةٍ ذَكَرَهَا الإِمَامُ الْبُلْقِينِىُّ الَّذِى كَانَ فِى عَصْرِهِ عَالِمَ الدُّنْيَا (فَيَنْبَغِى عِنَايَتُهُ بِهِ) أَىْ بِالْمُخْتَصَرِ أَىْ يَنْبَغِى لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَعْتَنِىَ بِتَحْصِيلِ مَا فِيهِ بِأَنْ يَتَلَقَّاهُ مُشَافَهَةً مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الثِّقَاتِ وَأَنْ يُخْلِصَ النِّيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى (لِيُقْبَلَ عَمَلُهُ) أَىْ لِيَكُونَ عَمَلُهُ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ (أَسْمَيْنَاهُ مُخْتَصَرَ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَرِىِّ الْكَافِلَ بِعِلْمِ الدِّينِ الضَّرُورِىِّ) أَىِ الْجَامِعَ لِأَغْلَبِ أُمُورِ الدِّينِ الضَّرُورِيَّةِ وَهِىَ الْقَدْرُ الَّذِى يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهُ أَىْ مَا يَحْتَاجُهُ لِتَصْحِيحِ عَقِيدَتِهِ وَحِفْظِ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ مِنَ الْمَعَاصِى وَتَصْحِيحِ عِبَادَاتِهِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَهَمَّ الْوَاجِبَاتِ وَأَفْضَلَهَا بَدَأَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْكَلامِ عَلَى (ضَرُورِيَّاتِ الِاعْتِقَادِ) أَىْ مَا لا يَسْتَغْنِى الْمُكَلَّفُ عَنْهُ مِنْ أُمُورِ الْعَقِيدَةِ فَقَالَ (فَصْلٌ) فِى بَيَانِ مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ.
(يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ) أَىْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الَّذِى بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ أَىْ بَلَغَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ (الدُّخُولُ فِى دِينِ الإِسْلامِ) فَوْرًا إِنْ كَانَ كَافِرًا (وَالثُّبُوتُ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ) بِأَنْ يَتَجَنَّبَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ (وَالْتِزَامُ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ) الشَّرْعِيَّةِ بِأَنْ يُؤَدِّىَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ جُنَّ وَاسْتَمَرَّ جُنُونُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَمَاتَ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَلَيْسَ مُكَلَّفًا وَكَذَلِكَ الَّذِى عَاشَ بَالِغًا عَاقِلًا وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ.
(فَمِمَّا يَجِبُ عِلْمُهُ وَاعْتِقَادُهُ مُطْلَقًا وَالنُّطْقُ بِهِ فِى الْحَالِ إِنْ كَانَ كَافِرًا وَإِلَّا فَـفِى الصَّلاةِ الشَّهَادَتَانِ) أَىْ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ وَمَعْرِفَةُ رَسُولِهِ مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِاللِّسَانِ إِنْ كَانَ كَافِرًا أَصْلِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا لِلدُّخُولِ فِى الإِسْلامِ أَمَّا إِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ فِى كُلِّ صَلاةٍ لِصِحَّةِ الصَّلاةِ (وَهُمَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ).
بَدَأَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشَرْحِ الشَّهَادَةِ الأُولَى فَقَالَ (وَمَعْنَى أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ) بِقَلْبِى (وَأَعْتَرِفُ) بِلِسَانِى (أَنْ لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ) أَىْ لا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ أَنْ يُعْبَدَ أَىْ أَنْ يُتَذَلَّلَ لَهُ نِهَايَةُ التَّذَلُّلِ إِلَّا اللَّهُ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ الَّتِى مَنْ صَرَفَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ صَارَ مُشْرِكًا، وَالْعِبَادَةُ هِيَ أَقْصَى غَايَةِ التَّعْظِيمِ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ (الْوَاحِدُ) الَّذِى لا شَرِيكَ لَهُ فِى الأُلُوهِيَّةِ (الأَحَدُ) الَّذِى لا يَقْبَلُ الِانْقِسَامَ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمَا (الأَوَّلُ) الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ وَبِمَعْنَاهُ (الْقَدِيمُ) إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللَّهِ (الْحَىُّ) أَىِ الْمُتَّصِفُ بِحَيَاةٍ أَزَلِيَّةٍ أَبَدِيَّةٍ أَىْ لا بِدَايَةَ وَلا نِهَايَةَ لَهَا لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَجَسَدٍ (الْقَيُّومُ) أَىِ الَّذِى لا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ (الدَّائِمُ) الَّذِى لا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ (الْخَالِقُ) الَّذِى أَبْرَزَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ أَىْ صَارَتْ مَوْجُودَةً بِإِيجَادِ اللَّهِ لَهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ (الرَّازِقُ) الَّذِى يُوصِلُ الأَرْزَاقَ إِلَى عِبَادِهِ وَالرِّزْقُ مَا يَنْفَعُ حِسًّا وَلَوْ كَانَ مُحَرَّمًا (الْعَالِمُ) أَىِ الْمُتَّصِفُ بِعِلْمٍ أَزَلِىٍّ أَبَدِىٍّ لا يَتَغَيَّرُ لا يَزْدَادُ وَلا يَنْقُصُ (الْقَدِيرُ) أَىِ الْمُتَّصِفُ بِقُدْرَةٍ تَامَّةٍ بِهَا يُوجِدُ وَيُعْدِمُ (الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ) أَىْ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ وَلا يُمَانِعُهُ أَحَدٌ وَلا يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعَانَةٍ بِغَيْرِهِ (مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ) أَىْ مَا أَرَادَ اللَّهُ فِى الأَزَلِ وُجُودَهُ لا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ وَمَا لَمْ يُرِدِ اللَّهُ وُجُودَهُ لا يَدْخُلُ فِى الْوُجُودِ وَمَشِيئَةُ اللَّهِ لا تَتَغَيَّرُ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ دَلِيلُ الْحُدُوثِ وَالْحُدُوثُ أَىِ الْوُجُودُ بَعْدَ عَدَمٍ مُسْتَحِيلٌ عَلَى اللَّهِ (الَّذِى لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ) أَىْ لا حَوْلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَلا قُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ أَىْ لا يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَتَجَنَّبَ الْمَعْصِيَةَ إِلَّا أَنْ يَحْفَظَهُ اللَّهُ وَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ وَالطَّاعَةَ إِلَّا أَنْ يُعِينَهُ اللَّهُ (الْمَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمَالٍ يَلِيقُ بِهِ) أَىِ الْمَوْصُوفُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ اللَّائِقَةِ بِهِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالإِرَادَةِ.
(الْمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ فِى حَقِّهِ) أَىْ عَنْ كُلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى كَالْحَجْمِ وَاللَّوْنِ وَالشَّكْلِ وَالتَّحَيُّزِ فِى الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَكُلِّ مَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى (﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾) أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يُشْبِهُهُ شَىءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ (فَـهُوَ الْقَدِيمُ) الَّذِى لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ (وَ)كُلُّ (مَا سِوَاهُ حَادِثٌ) أَىْ وُجِدَ بَعْدَ عَدَمٍ (وَهُوَ الْخَالِقُ وَ)كُلُّ (مَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ فَكُلُّ حَادِثٍ دَخَلَ فِى الْوُجُودِ مِنَ الأَعْيَانِ) أَىِ الأَحْجَامِ (وَالأَعْمَالِ) الِاخْتِيَارِيَّةِ وَغَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَهُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ فَالأَعْيَانُ كُلُّهَا (مِنَ الذَّرَّةِ) وَهِىَ الْهَبَاءُ الَّذِى يُرَى فِى ضَوْءِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ النَّافِذَةِ أَوْ مَا كَانَ أَصْغَرَ مِنْهَا وَهُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ (إِلَى الْعَرْشِ) وَهُوَ أَكْبَرُ الْمَخْلُوقَاتِ حَجْمًا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ (وَ)كَذَلِكَ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ (مِنَ كُلِّ حَرَكَةٍ لِلْعِبَادِ وَسُكُونٍ وَ)الأَعْمَالُ الْبَاطِنَةُ مِنَ (النَّوَايَا وَالْخَوَاطِرِ) الَّتِى تَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ بِلا إِرَادَةٍ (فَهُوَ بِخَلْقِ اللَّهِ لَمْ يَخْلُقْهُ أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ لا) خَلَقَتْهُ (طَبِيعَةٌ وَلا عِلَّةٌ) وَالطَّبِيعَةُ هِىَ الصِّفَةُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا الأَجْرَامَ كَالنَّارِ طَبِيعَتُهَا الإِحْرَاقُ وَلا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ خَالِقَةً لِشَىْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ لا إِرَادَةَ لَهَا وَلا مَشِيئَةَ وَلا اخْتِيَارَ فَكَيْفَ تُخَصِّصُ الْمُمْكِنَ الْوُجُودِ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِىَ مَا يُوجَدُ الْمَعْلُولُ بِوُجُودِهَا وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهَا كَالإِصْبَعِ الَّذِى فِيهِ خَاتَمٌ فَإِنَّ حَرَكَةَ الإِصْبَعِ عِلَّةٌ لِحَرَكَةِ الْخَاتَمِ لِأَنَّ حَرَكَةَ الْخَاتَمِ تَتْبَعُ حَرَكَةَ الإِصْبَعِ فَتُوجَدُ بِوُجُودِهَا وَتُعْدَمُ بِعَدَمِهَا.
(بَلْ دُخُولُهُ) أَىِ الْحَادِثِ (فِى الْوُجُودِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ مَعْدُومًا يَحْصُلُ (بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ بِتَقْدِيرِهِ) أَىْ بِإِيجَادِ اللَّهِ لَهُ عَلَى حَسَبِ مَشِيئَتِهِ الأَزَلِيَّةِ (وَعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ) وَيَحْصُلُ بِخَلْقِهِ (لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ﴾ أَىْ أَحْدَثَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ) وَلَفْظَةُ شَىْءٍ فِى الآيَةِ شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ (فَلا خَلْقَ بِهَذَا الْمَعْنَى لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ﴾) أَىْ لا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ وَ(قَالَ) الإِمَامُ عُمَرُ (النَّسَفِىُّ) صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ النَّسَفِيَّةِ مَا مَعْنَاهُ (فَإِذَا ضَرَبَ إِنْسَانٌ زُجَاجًا بِحَجَرٍ فَكَسَرَهُ فَالضَّرْبُ) وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَقَدْ يَحْصُلُ مِنْهُ انْكِسَارٌ وَقَدْ لا يَحْصُلُ (وَالْكَسْرُ) وَهُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ الَّذِى فَعَلَهُ فِى الزُّجَاجِ بِوَاسِطَةِ الرَّمْىِ بِالْحَجَرِ (وَالِانْكِسَارُ) وَهُوَ الأَثَرُ الْحَاصِلُ فِى الزُّجَاجِ مِنْ تَشَقُّقٍ وَتَنَاثُرٍ حَصَلَ (بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى) لا بِخَلْقِ الْعَبْدِ (فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ) مِنْ فِعْلِهِ هَذَا (إِلَّا الْكَسْبُ) وَهُوَ تَوْجِيهُ الْعَبْدِ قَصْدَهُ وَإِرَادَتَهُ نَحْوَ الْعَمَلِ أَىِ الِاخْتِيَارِىِّ فَيَخْلُقُهُ اللَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ (وَأَمَّا الْخَلْقُ) أَىِ الإِبْرَازُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ (فَلَيْسَ لِغَيْرِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾) أَىِ النَّفْسُ تَنْتَفِعُ بِمَا كَسَبَتْهُ مِنَ الْخَيْرِ وَتَنْضَرُّ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنْ عَمَلِ الشَّرِّ.
(وَكَلامُهُ قَدِيمٌ) أَىْ كَلامُ اللَّهِ الَّذِى هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ أَزَلِىٌّ لا ابْتِدَاءَ لَهُ (كَسَائِرِ صِفَاتِهِ) لِأَنَّ الذَّاتَ الأَزَلِىَّ لا يَتَّصِفُ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ أَىْ مَخْلُوقَةٍ فَيُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَلامَ اللَّهِ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً (لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُبَايِنٌ) أَىْ غَيْرُ مُشَابِهٍ (لِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِى الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالأَفْعَالِ) فَلا يُوجَدُ ذَاتٌ مِثْلُ ذَاتِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ صِفَةٌ كَصِفَتِهِ أَوْ فِعْلٌ كَفِعْلِهِ (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) أَىْ تَنَزَّهَ اللَّهُ تَنَزُّهًا كَامِلًا عَمَّا يَقُولُ الْكَافِرُونَ فِى حَقِّ اللَّهِ مِمَّا لا يَلِيقُ بِهِ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ. وَتَنْزِيهُ اللهِ مَعْنَاهُ نَفْيُ النَّقْصِ عَنْ اللهِ. (فَيَتَلَخَّصُ مِنْ مَعْنَى مَا مَضَى إِثْبَاتُ ثَلاثَ عَشْرَةَ صِفَةً لِلَّهِ تَعَالَى تَكَرَّرَ ذِكْرُهَا فِى الْقُرْءَانِ) وَالْحَدِيثِ (إِمَّا لَفْظًا) كَالْقَدِيرِ (وَإِمَّا مَعْنًى) كَالْقَوِىِّ وَكَانَ النَّبِىُّ ﷺ يَحْرِصُ (كَثِيرًا) عَلَى تَعْلِيمِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ (وَهِىَ الْوُجُودُ) فَاللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ لا شَكَّ فِى وُجُودِهِ وَوُجُودُهُ لَيْسَ بإِيجَادِ مُوجِدٍ (وَالْوَحْدَانِيَّةُ) أَىْ أَنَّهُ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَحْدَانِيَّةَ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ لَهُ أَجْزَاءٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لا شَبِيهَ لَهُ (وَالْقِدَمُ أَىِ الأَزَلِيَّةُ) أَىْ أَنَّهُ لا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ فَلَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ (وَالْبَقَاءُ) أَىْ أَنَّهُ لا نِهَايَةَ لِوُجُودِهِ فَلا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ (وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ) أَىْ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مَا عَدَاهُ (وَالْقُدْرَةُ) أَىْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ لا يُعْجِزُهُ شَىْءٌ (وَالإِرَادَةُ) بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ صِفَةٌ لِلَّهِ يُخَصِّصُ بِهَا الْمُمْكِنَ الْوُجُودِ بِالْوُجُودِ بَدَلَ الْعَدَمِ وَبِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ (وَالْعِلْمُ) أَىْ أَنَّهُ عَالِمٌ بِكُلِّ شَىْءٍ بِعِلْمِهِ الأَزَلِىِّ فَهُوَ عَالِمٌ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَا يُحْدِثُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ (وَالسَّمْعُ) أَىْ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ الأَزَلِىِّ كُلَّ الْمَسْمُوعَاتِ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَسْمَعُ كَلامَهُ الأَزَلِىَّ وَكَلامَ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَصْوَاتَهُمْ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى أُذُنٍ أَوْ ءَالَةٍ أُخْرَى (وَالْبَصَرُ) أَىْ أَنَّهُ يَرَى بِرُؤْيَتِهِ الأَزَلِيَّةِ كُلَّ الْمَرْئِيَّاتِ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَرَى ذَاتَهُ الأَزَلِىَّ الَّذِى لَيْسَ جِسْمًا وَيَرَى مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى حَدَقَةٍ أَوْ شُعَاعِ ضَوْءٍ (وَالْحَيَاةُ) أَىْ أَنَّهُ حَىٌّ بِحَيَاةٍ لا تُشْبِهُ حَيَاةَ الْمَخْلُوقِينَ لَيْسَتْ بِرُوحٍ وَجَسَدٍ (وَالْكَلامُ) أَىْ أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مُتَكَلِّمٌ بِكَلامٍ لا يُشْبِهُ كَلامَ الْمَخْلُوقِينَ لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً لا يُبْتَدَأُ وَلا يُخْتَتَمُ لا يَطْرَأُ عَلَيْهِ سُكُوتٌ أَوْ تَقَطُّعٌ (وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ) أَىْ عَدَمُ مُشَابَهَتِهِ لِلْمَخْلُوقَاتِ فَاللَّهُ تَعَالَى لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَىِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ لَيْسَ جِسْمًا وَلا يُوصَفُ بِصِفَاتِ الأَجْسَامِ (فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ) الثَّلاثَ عَشْرَةَ (ذِكْرُهَا كَثِيرًا فِى النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ) أَىِ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ (قَالَ الْعُلَمَاءُ تَجِبُ مَعْرِفَتُهَا وُجُوبًا عَيْنِيًّا) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَلا يَجِبُ حِفْظُ أَلْفَاظِهَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (فَلَمَّا ثَبَتَتِ الأَزَلِيَّةُ لِذَاتِ اللَّهِ) بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِىِّ وَالْعَقْلِىِّ أَىْ لَمَّا كَانَ ذَاتُ اللَّهِ أَزَلِيًّا (وَجَبَ أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ أَزَلِيَّةً لِأَنَّ حُدُوثَ الصِّفَةِ يَسْتَلْزِمُ حُدُوثَ الذَّاتِ) أَىْ لَوْ كَانَ يَحْدُثُ فِى ذَاتِ اللَّهِ صِفَةٌ لَمْ تَكُنْ فِى الأَزَلِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَاتُهُ حَادِثًا أَىْ مَخْلُوقًا.
وَبِهَذَا أَنْهَى الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَلامَ عَلَى الشَّهَادَةِ الأُولَى ثُمَّ بَدَأَ بِشَرْحِ الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ (وَمَعْنَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْلَمُ وَأَعْتَقِدُ) بِقَلْبِى (وَأَعْتَرِفُ) بِلِسَانِى (أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ) الْعَرَبِىَّ (الْقُرَشِىَّ) أَىِ الْمَنْسُوبَ إِلَى قَبِيلَةِ قُرَيْش هُوَ (عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ) مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ (وَيَتْبَعُ ذَلِكَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَبُعِثَ بِهَا) أَىْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ بِالنُّبُوَّةِ وَهُوَ مُسْتَوْطِنٌ فِيهَا (وَهَاجَرَ) مِنْ مَكَّةَ (إِلَى الْمَدِينَةِ) الْمُنَوَّرَةِ ومَاتَ (وَدُفِنَ فِيهَا وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ) اعْتِقَادَ (أَنَّهُ صَادِقٌ فِى جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ) مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَلا يُخْطِئُ فِى ذَلِكَ أَبَدًا (فَمِنْ ذَلِكَ) أَىْ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِىُّ ﷺ وَيَجِبُ الإِيمَانُ بِهِ (عَذَابُ الْقَبْرِ) كَعَرْضِ النَّارِ عَلَى الْكَافِرِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ وَانْزِعَاجِ بَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ (وَنَعِيمُهُ) كَتَوْسِيعِ الْقَبْرِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا طُولًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا عَرْضًا لِلْمُؤْمِنِ التَّقِىِّ وَتَنْوِيرِهِ بِنُورٍ يُشْبِهُ نُورَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ (وَسُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ) لِلْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ فَيُسْأَلُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَنِ اعْتِقَادِهِ الَّذِى مَاتَ عَلَيْهِ وَيُسْتَثْنَى مِنَ السُّؤَالِ الأَنْبِيَاءُ وَالأَطْفَالُ وَشُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ (وَالْبَعْثُ) وَهُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِحْيَائِهِمْ (وَالْحَشْرُ) وَهُوَ أَنْ يُجْمَعَ النَّاسُ بَعْدَ الْبَعْثِ لِلسُّؤَالِ (وَالْقِيَامَةُ) وَهِىَ قِيَامُ الْمَوْتَى لِلْحِسَابِ وَأَوَّلُهَا مِنْ خُرُوجِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى اسْتِقْرَارِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِى الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ فِى النَّارِ (وَالْحِسَابُ) وَهُوَ عَرْضُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ عَلَيْهِمْ أَىْ يُعْرَضُ عَلَيْهِمْ مَا عَمِلُوا فِى الدُّنْيَا (وَالثَّوَابُ) وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِى يُجَازَاهُ الْمُؤْمِنُ فِى الآخِرَةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِمَّا يَسُرُّهُ (وَالْعَذَابُ) وَهُوَ الْجَزَاءُ الَّذِى يُجَازَاهُ الْعَبْدُ فِى الآخِرَةِ مِمَّا يَسُوؤُهُ عَلَى مَا عَمِلَ مِنْ سَيِّئَاتٍ (وَالْمِيزَانُ) الَّذِى تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَالنَّارُ) أَىْ جَهَنَّمُ وَهِىَ دَارُ الْعَذَابِ الدَّائِمِ لِلْكَافِرِينَ وَيُعَذَّبُ فِيهَا بَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ مُدَّةً وَمَكَانُهَا تَحْتَ الأَرْضِ السَّابِعَةِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا (وَالصِّرَاطُ) وَهُوَ جِسْرٌ عَرِيضٌ يُمَدُّ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ أَىْ فَوْقَهَا فَيَرِدُهُ النَّاسُ جَمِيعًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْجُو وَمِنْهُمْ مَنْ يَقَعُ فِيهَا (وَالْحَوْضُ) وَهُوَ مَكَانٌ أَعَدَّ اللَّهُ فِيهِ شَرَابًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يَشْرَبُونَ مِنْهُ بَعْدَ عُبُورِ الصِّرَاطِ وَقَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلا يُصِيبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ ظَمَأٌ (وَالشَّفَاعَةُ) وَهِىَ طَلَبُ إِسْقَاطِ الْعِقَابِ عَنْ بَعْضِ الْعُصَاةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا الْكُفَّارُ فَلا شَفَاعَةَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَالْجَنَّةُ) وَهِىَ دَارُ النَّعِيمِ الدَّائِمِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَكَانُهَا فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهَا (وَالرُّؤْيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِى الآخِرَةِ) أَىْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِى الْجَنَّةِ (بِلا كَيْفٍ) فَلا يَرَوْنَهُ حَجْمًا كَثِيفًا كَالإِنْسَانِ وَلا حَجْمًا لَطِيفًا كَالنُّورِ (وَلا) يَرَوْنَهُ فِى (مَكَانٍ وَلا) فِى (جِهَةٍ) وَلا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ (أَىْ لا كَمَا يُرَى الْمَخْلُوقُ، وَالْخُلُودُ فِيهِمَا) أَىِ فِى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَنَّهُ لا مَوْتَ فِيهِمَا (وَالإِيمَانُ بِمَلائِكَةِ اللَّهِ) أَىْ بِوُجُودِهِمْ وَأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُكَلَّفُونَ بِالإِيمَانِ وَبِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَيْسُوا ذُكُورًا وَلا إِنَاثًا لا يَأْكُلُونَ وَلا يَشْرَبُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَنَامُونَ وَلا يَتْعَبُونَ وَلا يَتَنَاكَحُونَ وَلا يَتَوَالَدُونَ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (وَرُسُلِهِ) أَىْ يَجِبُ الإِيمَانُ بِهِمْ مَنْ كَانَ رَسُولًا أُرْسِلَ بِشَرْعٍ جَدِيدٍ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ هُوَ الإِسْلامُ أَوَّلُهُمْ ءَادَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَءَاخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ﷺ (وَكُتُبِهِ) أَىْ يَجِبُ الإِيمَانُ بِالْكُتُبِ الَّتِى أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ وَهِىَ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَأَشْهَرُهَا الْقُرْءَانُ وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ (وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) أَىِ اعْتِقَادُ أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَ فِى الْوُجُودِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الأَزَلِىِّ فَالَّذِى يَجِبُ الرِّضَا بِهِ هُوَ تَقْدِيرُ اللَّهِ الَّذِى هُوَ صِفَتُهُ أَمَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ كَالإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فَيَجِبُ مَحَبَّتُهُ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ كَالْكُفْرِ وَالْمَعَاصِى فَيَجِبُ كَرَاهِيَتُهُ.
(وَ)يَتَضَمَّنُ الإِيمَانُ بِرِسَالَةِ النَّبِىِّ اعْتِقَادَ (أَنَّهُ ﷺ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ) أَىْ ءَاخِرُهُمْ فَلا نَبِىَّ بَعْدَهُ (وَأَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ ءَادَمَ أَجْمَعِينَ) فَهُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَعْلاهُمْ مَنْزِلَةً.
(وَيَجِبُ اعْتِقَادُ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ الأَنْبِيَاءَ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ مَا يَنْفَعُهُمْ فِى دُنْيَاهُمْ وَءَاخِرَتِهِمْ وَأَنَّهُ جَمَّلَهُمْ بِصِفَاتٍ حَمِيدَةٍ وَأَخْلاقٍ حَسَنَةٍ وَنَزَّهَهُمْ عَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ (أَنَّ كُلَّ نَبِىٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ يَجِبُ أَنَّ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ) وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْفَصَاحَةِ (وَالْفَطَانَةِ) أَىِ الذَّكَاءِ (فَـيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَالرَّذَالَةُ وَالسَّفَاهَةُ وَالْجُبْنُ وَالْبَلادَةُ) أَىِ الْغَبَاوَةُ فَلا يَكْذِبُونَ وَلا يَغُشُّونَ وَلا يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ رَذِيلٌ يَخْتَلِسُ النَّظَرَ إِلَى النِّسَاءِ الأَجْنَبِيَّاتِ بِشَهْوَةٍ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ سَفِيهٌ يَتَصَرَّفُ بِخِلافِ الْحِكْمَةِ أَوْ يَقُولُ أَلْفَاظًا شَنِيعَةً تَسْتَقْبِحُهَا النَّفْسُ وَلَيْسَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ جَبَانٌ ضَعِيفُ الْقَلْبِ أَوْ ضَعِيفُ الْفَهْمِ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ سَبْقُ اللِّسَانِ فِى أُمُورِ الدِّينِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الإِنْسَانُ بِشَىْءٍ مِنْ غَيْرِ إِرَادَةٍ (وَ)يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ (كُلُّ مَا يُنَفِّرُ) النَّاسَ (عَنْ قَبُولِ الدَّعْوَةِ مِنْهُمْ) كَالأَمْرَاضِ الْمُنَفِّرَةِ وَمِنْهَا الْجَرَبُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَخُرُوجُ الدُّودِ مِنَ الْجِسْمِ وَيَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمُ الْجُنُونُ وَالْخَرَفُ وَتَأْثِيرُ السِّحْرِ فِى عُقُولِهِمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ ولا تَحْصُلُ فِى أَبْدَانِهِمْ وَلا فِى أَفْوَاهِهِمْ وَلا فِى ثِيَابِهِمُ الرَّوَائِحُ الْكَرِيهَةُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِم ذُو عَاهَةٍ فِى خِلْقَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أَعْرَجُ وَلا أَعْمَى خِلْقَةً وَالنَّبِىُّ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا أَوَّلَ نُزُولِ الْوَحْىِ عَلَيْهِ لَكِنْ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الْعَمَى مُدَّةً كَمَا حَصَلَ لِسَيِّدِنَا يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ يَرْجِعُ لَهُ بَصَرُهُ (وَتَجِبُ لَهُمُ الْعِصْمَةُ) أَىِ الْحِفْظُ (مِنَ الْكُفْرِ وَالْكَبَائِرِ) أَىْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ (وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ) والدَّنَاءَةِ أَىِ الذُّنُوبِ الصَّغِيرَةِ الَّتِى فِيهَا خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ كَسَرِقَةِ حَبَّةِ عِنَبٍ (قَبْلَ النُّبُوَّةِ) أَىْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ (وَبَعْدَهَا وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِى) أَىْ تَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْمَعْصِيَةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا خِسَّةٌ وَلا دَنَاءَةٌ كَمَا حَصَلَ مَعَ سَيِّدِنَا ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ (لَكِنْ) إِنْ حَصَلَ مِنْهُمْ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ (يُنَبَّهُونَ فَوْرًا لِلتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِىَ بِهِمْ فِيهَا غَيْرُهُمْ) أَىْ يَتُوبُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْتَدِىَ بِهِمْ فِى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ الصَّغِيرَةِ غَيْرُهُمْ مِنْ أُمَمِهِمْ (فَمِنْ هُنَا يُعْلَمُ أَنَّ النُّبُوَّةَ لا تَصِحُّ لِإِخْوَةِ يُوسُفَ) الْعَشَرَةِ (الَّذِينَ فَعَلُوا تِلْكَ الأَفَاعِيلَ الْخَسِيسَةَ) مِنْ ضَرْبِهِمْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ وَرَمْيِهِمْ لَهُ فِى الْبِئْرِ وَحَصَلَ مِنْهُمْ أَنْ سَفَّهُوا أَبَاهُمْ نَبِىَّ اللَّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَكَفَرُوا بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الإِسْلامِ (وَ)إِخْوَةُ يُوسُفَ هَؤُلاءِ (هُمْ مَنْ سِوَى بِنْيَامِينَ) فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ (وَ)أَمَّا (الأَسْبَاطُ الَّذِينَ) ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِى الْقُرْءَانِ وَ(أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْوَحْىَ) فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمْ هَؤُلاءِ الْعَشَرَةَ الَّذِينَ ءَاذَوْهُ بَلْ (هُمْ مَنْ نُبِّئَ) أَىْ مَنْ أُوحِىَ إِلَيْهِمْ بِالنُّبُوَّةِ (مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ).
(بَابُ الرِّدَّةِ)
(فَصْلٌ) فِى بَيَانِ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ وَهِىَ قَطْعُ الإِسْلامِ بِاعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ.
(يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ) مُكَلَّفٍ (حِفْظُ إِسْلامِهِ وَصَوْنُهُ عَمَّا يُفْسِدُهُ وَيُبْطِلُهُ وَيَقْطَعُهُ وَهُوَ الرِّدَّةُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى) فَالْكُفْرُ هُوَ أَشَدُّ الذُّنُوبِ عَلَى الإِطْلاقِ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِى لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِمَنْ مَاتَ عَلَيْهِ. (قَالَ) الْحَافِظُ (النَّوَوِىُّ وَغَيْرُهُ) مِنَ الْعُلَمَاءِ (الرِّدَّةُ أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ) وَالْمُرَادُ أَنَّهَا أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لِأَنَّهَا تُذْهِبُ كُلَّ الْحَسَنَاتِ وَلِأَنَّهَا انْتِقَالٌ مِنَ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ أَنْوَاعِ الرِّدَّةِ هِىَ أَشَدُّ الْكُفْرِ عَلَى الإِطْلاقِ (وَقَدْ كَثُرَ فِى هَذَا الزَّمَانِ التَّسَاهُلُ فِى الْكَلامِ) أَىْ صَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَكَلَّمُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفَكِّرُوا فِى عَاقِبَةِ كَلامِهِمْ (حَتَّى إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ بَعْضِهِمْ أَلْفَاظٌ تُخْرِجُهُمْ عَنِ الإِسْلامِ وَلا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كُفْرًا) أَىْ لا يَرَوْنَ الْكَلامَ الْكُفْرِىَّ ذَنْبًا فَيَظُنُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ ما زَالُوا مُسْلِمِينَ (وَذَلِكَ مِصْدَاقُ قَوْلِهِ ﷺ) أَىْ هَذَا الَّذِى يَحْصُلُ مِنْهُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِ ﷺ (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لا يَرَى بِهَا بِأْسًا) أَىْ أَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ لا يَرَى فِيهَا ضَرَرًا وَلا يَعْتَبِرُهَا مَعْصِيَةً (يَهْوِى بِهَا) أَىْ بِسَبَبِهَا (فِى النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا أَىْ مَسَافَةَ سَبْعِينَ عَامًا فِى النُّزُولِ وَذَلِكَ مُنْتَهَى جَهَنَّمَ) أَىْ قَعْرُهَا (وَهُوَ خَاصٌّ بِالْكُفَّارِ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ وَحَسَنَّهُ وَفِى مَعْنَاهُ حَدِيثٌ رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ) إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِى النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ فِى الْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ) أَىْ مَعْرِفَةُ أَنَّ مَا قَالَهُ هُوَ كُفْرٌ لِأَنَّ النَّبِىَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ قَائِلَ الْكَلِمَةِ الْكُفْرِيَّةِ يُعَذَّبُ فِى قَعْرِ النَّارِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُ لا يَظُنُّ فِيهَا ضَرَرًا كَمَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ (وَلا) يُشْتَرَطُ فِى الْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ (انْشِرَاحُ الصَّدْرِ) فَمَنْ قَالَ كَلامًا كُفْرِيًّا كَفَرَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُنْشَرِحِ الصَّدْرِ أَىْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاضٍ بِالْكُفْرِ وَلا قَاصِدٍ الْكُفْرَ (وَلا) يُشْتَرَطُ (اعْتِقَادُ مَعْنَى اللَّفْظِ) فَمَنْ تَلَفَّظَ بِالْكُفْرِ بِإِرَادَتِهِ وَهُوَ يَفْهَمُ الْمَعْنَى كَفَرَ كَمَنْ يَقُولُ يَا ابْنَ اللَّهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَإِنْ كَانَ لا يَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ ابْنًا وَلَيْسَ (كَمَا يَقُولُ) صَاحِبُ (كِتَابِ فِقْهِ السُّنَّةِ) إِنَّ الْمُسْلِمَ لا يُعْتَبَرُ خَارِجًا عَنِ الإِسْلامِ وَلا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ إِلَّا إِذَا انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِالْكُفْرِ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِهِ وَدَخَلَ فِى دِينٍ غَيْرِ الإِسْلامِ بِالْفِعْلِ. وَ(كَذَلِكَ لا يُشْتَرَطُ فِى الْوُقُوعِ فِى الْكُفْرِ عَدَمُ الْغَضَبِ) أَىْ أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ عَامِدًا كَفَرَ وَإِنْ كَانَ فِى حَالِ الْغَضَبِ (كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ) الْحَافِظُ (النَّوَوِىُّ) فَإِنَّهُ (قَالَ لَوْ غَضِبَ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ غُلامِهِ) أَىْ عَبْدِهِ (فَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ) كَيْفَ تَضْرِبُ وَلَدَكَ أَوْ غُلامَكَ هَذَا الضَّرْبَ الشَّدِيدَ (أَلَسْتَ مُسْلِمًا فَقَالَ لا مُتَعَمِّدًا كَفَرَ) لأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِهِ بِإِرَادَتِهِ (وَ)هَذَا الْحُكْمُ (قَالَهُ غَيْرُهُ) مِنَ الْعُلَمَاءِ (مِنْ حَنَفِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ).
(وَالرِّدَّةُ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ كَمَا قَسَّمَهَا النَّوَوِىُّ وَغَيْرُهُ مِنْ شَافِعِيَّةٍ وَحَنَفِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ اعْتِقَادَاتٌ وَأَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ) أَىْ أَنَّ الرِّدَّةَ تَحْصُلُ تَارَةً بِالْقَوْلِ وَتَارَةً بِالْفِعْلِ وَتَارَةً بِالِاعْتِقَادِ (وَكُلٌّ يَتَشَعَّبُ شُعَبًا كَثِيرَةً) أَىْ أَنَّ كُلَّ قِسْمٍ مِنَ الأَقْسَامِ الثَّلاثَةِ يَتَفَرَّعُ فُرُوعًا كَثِيرَةً (فَمِنَ) الأَمْثِلَةِ عَلَى الْقِسْمِ (الأَوَّلِ) أَىِ الْكُفْرِ الِاعْتِقَادِىِّ (الشَّكُّ فِى) وُجُودِ (اللَّهِ) أَوْ وَحْدَانِيَّتِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ أَوْ عِلْمِه أَوْ حِكْمَتِهِ أَوْ عَدْلِهِ أَوْ فِى أَىِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الثَّلاثَ عَشْرَةَ الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا (أَوِ) الشَّكُّ (فِى) صِدْقِ (رَسُولِهِ) مُحَمَّدٍ ﷺ أَوْ رِسَالَتِهِ أَىْ فِى كَوْنِهِ مُرْسَلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (أَوْ) فِى نُزُولِ (الْقُرْءَانِ) عَلَيْهِ (أَوِ) الشَّكُّ فِى (الْيَوْمِ الآخِرِ) أَىْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ (أَوْ) فِى وُجُودِ (الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ أَوِ الثَّوَابِ أَوِ الْعِقَابِ) فِى الآخِرَةِ (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ) عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ (أَوِ اعْتِقَادُ قِدَمِ الْعَالَمِ وَأَزَلِيَّتِهِ بِجِنْسِهِ وَتَرْكِيبِهِ) أَىْ أَفْرَادِهِ (أَوْ بِجِنْسِهِ فَقَطْ) أَىِ اعْتِقَادُ أَنَّ الْعَالَمَ أَزَلِىٌّ لا بِدَايَةَ لِوُجُودِهِ (أَوْ نَفْىُ) أَىْ إِنْكَارُ (صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ) الثَّلاثَ عَشْرَةَ (الْوَاجِبَةِ لَهُ إِجْمَاعًا كَكَوْنِهِ عَالِمًا) أَوْ قَدِيرًا أَوْ سَمِيعًا أَوْ بَصِيرًا (أَوْ نِسْبَةُ مَا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ إِجْمَاعًا كَالْجِسْمِ) أَىِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ وَالْجِسْمُ هُوَ مَا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَعُمْقٌ كَبُرَ أَوْ صَغُرَ (أَوْ تَحْلِيلُ مُحَرَّمٍ بِالإِجْمَاعِ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ) أَىْ أَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ شَيْئًا مُحَرَّمًا بِالإِجْمَاعِ وَاشْتَهَرَتْ حُرْمَتُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ (مِمَّا لا يَخْفَى عَلَيْهِ) تَحْرِيمُهُ فِى الشَّرْعِ (كَالزِّنَى وَاللِّوَاطِ وَقَتْلِ الْمُسْلِمِ) بِغَيْرِ حَقٍّ (وَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ) فَهُوَ كَافِرٌ (أَوْ تَحْرِيمُ حَلالٍ ظَاهِرٍ كَذَلِكَ) أَىْ أَنَّ مَنْ حَرَّمَ شَيْئًا حَلالًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ حَلالٌ (كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ) كَفَرَ (أَوْ نَفْىُ وُجُوبِ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ) أَىْ نَفْىُ وُجُوبِ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِهِ وَكَانَ وُجُوبُهُ ظَاهِرًا مَعْرُوفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَالِمِهِمْ وَجَاهِلِهِمْ (كالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ سَجْدَةٍ مِنْهَا وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ) فِى رَمَضَانَ (وَالْحَجِّ) عَلَى الْمُسْتَطِيعِ (وَالْوُضُوءِ) فَمَنِ اعْتَقَدَ عَدَمَ وُجُوبِ شَىْءٍ مِنْهَا فَقَدْ كَفَرَ (أَوْ إِيجَابُ مَا لَمْ يَجِبْ إِجْمَاعًا كَذَلِكَ) أَىْ أَنَّ مَنْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يَجِبْ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ أَمْرًا ظَاهِرًا بَيْنَهُمْ فَهُوَ كَافِرٌ كَمَنْ أَوْجَبَ زِيَادَةَ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَىْ فَرْضِ الصُّبْحِ (أَوْ نَفْىُ مَشْرُوعِيَّةِ) أَمْرٍ (مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَذَلِكَ) أَىْ نَفْىُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الأَمْرُ مَشْرُوعًا فِى الدِّينِ أَىْ حَثَّ الشَّرْعُ عَلَى فِعْلِهِ وَاشْتَهَرَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَصَلاةِ الْوِتْرِ وَرَوَاتِبِ الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ أَىِ السُّنَنِ (أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ فِى الْمُسْتَقْبَلِ) كَأَنْ عَزَمَ عَلَى أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ سَنَةٍ كَفَرَ فِى الْحَالِ (أَوْ عَلَى فِعْلِ شَىْءٍ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ) بِأَنْ قَالَ فِى قَلْبِهِ أَفْعَلُ أَوْ لا أَفْعَلُ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فِى الْحَالِ (لا خُطُورُهُ فِى الْبَالِ بِدُونِ إِرَادَةٍ) أَىْ أَمَّا إِذَا خَطَرَ لَهُ ذَلِكَ فِى بَالِهِ بِلا إِرَادَةٍ كَأَنْ خَطَرَ لَهُ شَىْءٌ يُنَافِى وُجُودَ اللَّهِ بِلا إِرَادَةٍ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ الْحَقَّ اعْتِقَادًا جَازِمًا فَلا يَكْفُرُ (أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ سَيِّدِنَا أَبِى بَكْرٍ) الصِّدِّيقِ (رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ) لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَهُوَ كَافِرٌ لِتَكْذِيبِهِ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّاحِبِ فِى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ هُوَ أَبُو بَكْرٍ (أَوْ) أَنْكَرَ (رِسَالَةَ وَاحِدٍ مِنَ الرُّسُلِ الْمُجْمَعِ عَلَى رِسَالَتِهِ) أَىْ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ أَحَدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِ كَفَرَ إِلَّا إِذَا كَانَ لا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلا نُكَفِّرُهُ بَلْ نُعَلِّمُهُ (أَوْ جَحَدَ حَرْفًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْءَانِ) أَىْ أَنْكَرَ حَرْفًا اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْءَانِ (أَوْ زَادَ حَرْفًا فِيهِ مُجْمَعًا عَلَى نَفْيِهِ) أَىْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ (مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مِنْهُ عِنَادًا) أَىْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْفُ الَّذِى زَادَهُ زِيَادَتُهُ لَهُ عِنَادًا لا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْءَانِ بِخِلافِ مَنْ زَادَهُ فِى الْقِرَاءَةِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مِنْهُ جَهْلًا فَلا يَكْفُرُ (أَوْ كَذَّبَ رَسُولًا أَوْ نَقَّصَهُ) بِأَنْ نَسَبَ إِلَيْهِ مَا لا يَلِيقُ بِهِ (أَوْ صَغَّرَ اسْمَهُ بِقَصْدِ تَحْقِيرِهِ) كَأَنْ قَالَ عَنْ نَبِىِّ اللَّهِ مُوسَى مُوَيْسَى بِقَصْدِ إِهَانَتِهِ كَفَرَ (أَوْ جَوَّزَ نُبُوَّةَ أَحَدٍ بَعْدَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ) أَىِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْىُ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى شَخْصٍ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ.
(وَالْقِسْمُ الثَّانِى) مِنْ أَقْسَامِ الرِّدَّةِ (الأَفْعَالُ كَسُجُودٍ لِصَنَمٍ أَوْ شَمْسٍ إِنْ قَصَدَ عِبَادَتَهُمَا أَوْ لَمْ يَقْصِدْ) فَهُوَ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ (وَ)كَذَلِكَ (السُّجُودُ لِإِنْسَانٍ إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ كَسُجُودِ بَعْضِ الْجَهَلَةِ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمُتَصَوِّفِينَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَئِذٍ كُفْرًا وَ)أَمَّا (إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُمْ) بَلْ كَانَ لِتَعْظِيمِهِمْ فَقَطْ (فَلا يَكُونُ كُفْرًا لَكِنَّهُ حَرَامٌ) فِى شَرْعِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
(وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ) مِنْ أَقْسَامِ الرِّدَّةِ (الأَقْوَالُ وَهِىَ كَثِيرَةٌ جِدًّا لا تَنْحَصِرُ) فِى كِتَابٍ لِكَثْرَتِهَا (مِنْهَا أَنْ يَقُولَ لِمُسْلِمٍ) وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ (يَا كَافِرُ أَوْ يَا يَهُودِىُّ أَوْ يَا نَصْرَانِىُّ أَوْ يَا عَدِيمَ الدِّينِ مُرِيدًا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِى عَلَيْهِ الْمُخَاطَبُ مِنَ الدِّينِ كُفْرٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ لَيْسَ بِدِينٍ لا عَلَى قَصْدِ التَّشْبِيهِ) أَىْ أَرَادَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى دِينِ الإِسْلامِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ سَمَّى الإِسْلامَ كُفْرًا أَوْ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً أَوْ نَفَى عَنِ الْمُسْلِمِ صِفَةَ الإِسْلامِ أَمَّا إِذَا قَالَ لَهُ يَا كَافِرُ وَقَصَدَ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْكَافِرَ فِى خَسَاسَةِ أَعْمَالِهِ أَوْ أَنَّهُ يُعَامِلُ الْمُسْلِمِينَ مُعَامَلَةَ الْكُفَّارِ لَهُمْ أَوْ أَنَّهُ يُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ لا دِينَ لَهُ فَلا يَكْفُرُ لَكِنْ عَلَيْهِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ (وَكَالسُّخْرِيَةِ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ مِمَّنْ لا يَخْفَى عَلَيْهِ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ) أَىْ أَنَّ مَنْ سَخِرَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ سَخِرَ بِوَعْدِ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ أَوْ بِوَعِيدِ اللَّهِ لِلْكَافِرِينَ وَالْعُصَاةِ بِالنَّارِ وَالْعَذَابِ الأَلِيمِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاسْمُ أَوِ الْوَعْدُ أَوِ الْوَعِيدُ الَّذِى سَخِرَ بِهِ شَيْئًا خَافِيًا عَلَيْهِ كَقَوْلِ بَعْضِ السُّفَهَاءِ غَدًا نَتَدَفَّأُ بِنَارِ جَهَنَّمَ فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالدِّينِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْءَانِ (وَكَأَنْ يَقُولَ) عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِى أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ (لَوْ أَمَرَنِى اللَّهُ بِكَذَا لَمْ أَفْعَلْهُ أَوْ) يَقُولَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقِبْلَةِ (لَوْ صَارَتِ الْقِبْلَةُ فِى جِهَةِ كَذَا مَا صَلَّيْتُ إِلَيْهَا أَوْ) يَقُولَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْجَنَّةِ (لَوْ أَعْطَانِى اللَّهُ الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا) أَىْ إِنْ قَالَ ذَلِكَ (مُسْتَخِفًّا أَوْ مُظْهِرًا لِلْعِنَادِ فِى الْكُلِّ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ وَالْعِنَادِ وَتَكْذِيبِ الشَّرْعِ فَلَيْسَ كُفْرًا (وَكَأَنْ يَقُولَ) شَخْصٌ فِى حَالِ مَرَضِهِ (لَوْ ءَاخَذَنِى اللَّهُ بِتَرْكِ الصَّلاةِ) أَىْ لَوْ عَاقَبَنِى عَلَى تَرْكِهَا (مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمَرَضِ ظَلَمَنِى) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ نَسَبَ الظُّلْمَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى (أَوْ قَالَ لِفِعْلٍ حَدَثَ هَذَا بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ) أَىْ حَصَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللَّهِ كَفَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (أَوْ) قَالَ (لَوْ شَهِدَ عِنْدِى الأَنْبِيَاءُ أَوِ الْمَلائِكَةُ أَوْ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ بِكَذَا مَا قَبِلْتُهُمْ) أَىْ مَا صَدَّقْتُهُمْ كَفَرَ لِأَنَّهُ يَكُونُ استَخَفَّ بِهِمْ وَطَعَنَ فِى صِدْقِهِمْ وَأَمَانَتِهِمْ (أَوْ قَالَ) بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ شَخْصٌ بِفِعْلِ سُنَّةٍ (لا أَفْعَلُ كَذَا وَإِنْ كَانَ سُنَّةً بِقَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ) بِسُنَّةِ النَّبِىِّ كَفَرَ أَمَّا مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَلَمْ يَقْصِدِ الِاسْتِهْزَاءَ بِالسُّنَّةِ فَلا يَكْفُرُ (أَوْ) قَالَ (لَوْ كَانَ فُلانٌ نَبِيًّا مَا ءَامَنْتُ بِهِ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِمَنْصِبِ النُّبُوَّةِ (أَوْ أَعْطَاهُ عَالِمٌ فَتْوًى فَقَالَ أَيْشٍ) أَىْ أَىُّ شَىْءٍ (هَذَا الشَّرْعُ مُرِيدًا) بِهَذَا الْقَوْلِ (الِاسْتِخْفَافَ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) وَالِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ أَمَّا لَوْ أَعْطَاهُ فَتْوًى بَاطِلَةً فَقَالَ أَيْشٍ هَذَا الشَّرْعُ مُرِيدًا الإِنْكَارَ عَلَيْهِ فَلا يَكْفُرُ (أَوْ قَالَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ مُرِيدًا الِاسْتِغْرَاقَ الشَّامِلَ) أَىْ أَرَادَ تَعْمِيمَ اللَّعْنِ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ كَفَرَ وَلا يُنْظَرُ إِلَى قَصْدِهِ إِنَّمَا يُنْظَرُ إِلَى كَلامِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِى كَلامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ لَعْنَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَلَوْ قَالَ أَنَا قَصَدْتُ عُلَمَاءَ زَمَانِى فَالْقَصْدُ وَحْدَهُ لا يَدْفَعُ عَنْهُ التَّكْفِيرَ (أَمَّا مَنْ لَمْ يُرِدِ الِاسْتِغْرَاقَ الشَّامِلَ لِجَمِيعِ الْعُلَمَاءِ بَلْ أَرَادَ لَعْنَ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ) أَوْ أَهْلِ نَاحِيَتِهِ لِأَنَّهُ لا يَعْلَمُ فِيهِمْ خَيْرًا (وَكَانَتْ هُنَاكَ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِمَا يَظُنُّ بِهِمْ مِنْ فَسَادِ أَحْوَالِهِمْ) أَىْ كَانَ فِى كَلامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ لَعْنَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ كَأَنْ ذَكَرَ عُلَمَاءَ فَاسِدِينَ فَقَالَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ فَيُحْمَلُ كَلامُهُ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ فَاسِدٍ (فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَإِنْ كَانَ كَلامُهُ لا يَخْلُو مِنَ الْمَعْصِيَةِ أَوْ قَالَ أَنَا بَرِئٌ مِنَ اللَّهِ) أَىْ لا أُعَظِّمُ اللَّهَ الَّذِى يَجِبُ تَعْظِيمُهُ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ (أَوْ) قَالَ أَنَا بَرِىءٌ (مِنَ الْمَلائِكَةِ أَوْ مِنَ النَّبِىِّ أَوْ مِنَ الشَّرِيعَةِ) الَّتِى أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ (أَوْ مِنَ الإِسْلامِ) كَفَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (أَوْ قَالَ) لَهُ شَخْصٌ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا الْحَرَامَ أَلا تَعْرِفُ الْحُكْمَ فَقَالَ (لا أَعْرِفُ الْحُكْمَ مُسْتَهْزِئًا بِحُكْمِ اللَّهِ) كَفَرَ (أَوْ قَالَ وَقَدْ مَلَأَ وِعَاءً) شَرَابًا (﴿وَكَأْسًا دِهَاقًا﴾) بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِى الْجَنَّةِ مِنَ الْكَأْسِ الْمُمْتَلِئَةِ شَرَابًا هَنِيئًا (أَوْ أَفْرَغَ شَرَابًا) مِنَ إِنَاءٍ (فَقَالَ) مُسْتَخِفًّا بِالآيَةِ (﴿فَكَانَتْ سَرَابًا﴾ أَوْ) قَالَ (عِنْدَ وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ) أَىْ إِذَا كَالَ لِأَحَدٍ أَوْ وَزَنَ لَهُ شَيْئًا (﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾) بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِمَعْنَى الآيَةِ (أَوْ) قَالَ (عِنْدَ رُؤْيَةِ جَمْعٍ) مِنَ النَّاسِ (﴿وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدَا﴾ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ فَإِنَّ الِاستِخْفَافَ (فِى الْكُلِّ بِمَعْنَى هَذِهِ الآيَاتِ) كُفْرٌ (وَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ اسْتُعْمِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ بِذَلِكَ الْقَصْدِ) أَىْ إِنْ أَوْرَدَ الشَّخْصُ ءَايَاتِ الْقُرْءَانِ فِى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ بِالْقُرْءَانِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ (فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ) بِأَنْ أَوْرَدَهَا لا بِقَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ (فَلا يَكْفُرُ لَكِنْ) عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ (قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ بنُ حَجَرٍ) الْهَيْتَمِىُّ إِيرَادُ الآيَاتِ فِى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْفَافِ (لا تَبْعُدُ حُرْمَتُهُ) أَىْ هُوَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ إِسَاءَةُ أَدَبٍ مَعَ الْقُرْءَانِ (وَكَذَا يَكْفُرُ مَنْ شَتَمَ نَبِيًّا أَوْ مَلَكًا) أَىْ ذَمَّهُ وَحَقَّرَهُ (أَوْ قَالَ أَكُونُ قَوَّادًا إِنْ صَلَّيْتُ) لِأَنَّهُ اسْتَهْزَأَ بِالصَّلاةِ وَاسْتَخَفَّ بِهَا وَالْقَوَّادُ هُوَ الَّذِى يَجْلِبُ الزَّبَائِنَ لِلزَّانِيَاتِ (أَوْ) قَالَ (مَا أَصَبْتُ خَيْرًا مُنْذُ صَلَّيْتُ) كَفَرَ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِخْفَافًا بِالصَّلاةِ (أَوْ) أَمَرَهُ شَخْصٌ بِالصَّلاةِ فَقَالَ (الصَّلاةُ لا تَصْلُحُ لِى بِقَصْدِ الِاسْتِهْزَاءِ) بِالصَّلاةِ كَفَرَ بِخِلافِ مَا لَوْ قَالَتْ ذَلِكَ امْرَأَةٌ حَائِضٌ بِقَصْدِ أَنَّ الصَّلاةَ لا تَصِحُّ مِنْهَا وَهِىَ حَائِضٌ فَلا تَكْفُرُ (أَوْ قَالَ) شَخْصٌ (لِمُسْلِمٍ أَنَا عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ نَبِيِّكَ) أَىْ مُحَمَّدٍ كَفَرَ لِأَنَّهُ اسْتَخَفَّ بِالنَّبِىِّ ﷺ (أَوْ) قَالَ (لِشَرِيفٍ) أَىْ مَنْ يَرْجِعُ نَسَبُهُ لِلنَّبِىِّ ﷺ (أَنَا عَدُوُّكَ وَعَدُوُّ جَدِّكَ مُرِيدًا النَّبِىَّ ﷺ) فَإِنَّهُ يَكْفُرُ بِخِلافِ مَا لَوْ أَرَادَ جَدًّا لَهُ أَدْنَى فَلا يَكْفُرُ (أَوْ يَقُولَ شَيْئًا مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الأَلْفَاظِ الْبَشِعَةِ الشَّنِيعَةِ) أَىِ الْقَبِيحَةِ حَفِظَنَا اللَّهُ مِنْهَا.
(وَقَدْ عَدَّ) أَىْ ذَكَرَ (كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ) مِنَ الْمَذَاهِبِ الأَرْبَعَةِ (كَالْفَقِيهِ الْحَنَفِىِّ بَدْرِ الرَّشِيدِ) فِى رِسَالَتِهِ فِى بَيَانِ أَلْفَاظِ الْكُفْرِ (وَالْقَاضِى عِيَاضٍ الْمَالِكِىِّ) فِى كِتَابِهِ الشِّفَا (رَحِمَهُمَا اللَّهُ) تَعَالَى (أَشْيَاءَ كَثِيرَةً) مِمَّا هُوَ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ تَحْذِيرًا لِلنَّاسِ مِنْهَا (فَيَنْبَغِى الِاطِّلاعُ عَلَيْهَا) لِلْحَذَرِ مِنْهَا (فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الشَّرَّ يَقَعُ فِيهِ) وَأَعْظَمُ الشُّرُورِ هُوَ الْكُفْرُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى.
(وَالْقَاعِدَةُ) فِى هَذِهِ الْمَسَائِلِ (أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ) أَىِ اعْتِقَادٍ (أَوْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ يَدُلُّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ) وَاسْتِهْزَاءٍ (بِاللَّهِ أَوْ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ أَوْ مَلائِكَتِهِ أَوْ شَعَائِرِهِ أَوْ مَعَالِمِ دِينِهِ) وَالشَّعَائِرُ وَالْمَعَالِمُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَىْ مَا كَانَ مَشْهُورًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالْحَجِّ وَالأَذَانِ (أَوْ أَحْكَامِهِ أَوْ وَعْدِهِ) لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْجَنَّةِ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ (أَوْ وَعِيدِهِ) لِلْكَافِرِينَ وَالْعُصَاةِ بِالنَّارِ وَالْعَذَابِ الأَلِيمِ فَهُوَ (كُفْرٌ فَلْيَحْذَرِ الإِنْسَانُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ عَلَى أَىِّ حَالٍ) أَىْ لِيَعْمَلِ الإِنْسَانُ عَلَى تَجَنُّبِ الْكُفْرِ غَايَةَ مُسْتَطَاعِهِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.
(فَصْلٌ) فِى بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ.
(يَجِبُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِى الرِّدَّةِ) أَىِ الْكُفْرِ (الْعَوْدُ فَوْرًا إِلَى الإِسْلامِ) وَيَكُونُ ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ (بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ) بِلَفْظِ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ بِلَفْظِ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّه أَوْ بِمَا يُعْطِى مَعْنَاهُ وَلَوْ بِغَيْرِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ (وَالإِقْلاعِ عَمَّا وَقَعَتْ بِهِ الرِّدَّةُ) أَىْ تَرْكِ الأَمْرِ الَّذِى حَصَلَتْ بِهِ الرِّدَّةُ. (وَيَجِبُ عَلَيْهِ النَّدَمُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ لِمِثْلِهِ) أَىْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْدَمَ لِأَجْلِ أَنَّهُ وَقَعَ فِى الْكُفْرِ وَيَعْزِمَ بِقَلْبِهِ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ (فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ كُفْرِهِ بِالشَّهَادَةِ) أَىْ بِالنُّطْقِ بِهَا (وَجَبَتِ اسْتِتَابَتُهُ) أَىْ يَجِبُ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ (وَلا يُقْبَلُ مِنْهُ إِلَّا الإِسْلامُ أَوِ الْقَتْلُ بِهِ) أَىْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ (يُنَفِّذُهُ عَلَيْهِ الْخَلِيفَةُ) أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ (بَعْدَ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إِلَى الإِسْلامِ) وَلا يَجُوزُ قَتْلُهُ قَبْلَ اسْتِتَابَتِهِ (وَيَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ فِى ذَلِكَ) أَىْ فِى الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ (عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ) ذَكَرَيْنِ (عَدْلَيْنِ) وَالْعَدْلُ هُوَ الْمُسْلِمُ الْمُجْتَنِبُ لِكَبَائِرِ الذُّنُوبِ وَلا يُكْثِرُ مِنَ الذُّنُوبِ الصَّغِيرَةِ بِحَيْثُ تَزِيدُ عَلَى طَاعَاتِهِ الْمُجْتَنِبُ لِمَا يُخِلُّ بِمُرُوءَتِهِ كَتَطْيِيرِ الْحَمَامِ (أَوْ) يَعْتَمِدُ الْخَلِيفَةُ (عَلَى اعْتِرَافِهِ) أَىِ اعْتِرَافِ الْمُرْتَدِّ بِأَنَّهُ قَالَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ أَوْ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفْرِ (وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبُخَارِىِّ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) أَىْ مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلامِ إِلَى غَيْرِهِ فَاقْتُلُوهُ إِنْ لَمْ يَرْجِعْ.
(وَ)مِنْ أَحْكَامِ الرِّدَّةِ أَنَّهُ (يَبْطُلُ بِهَا صَوْمُهُ) لِعَدَمِ صِحَّةِ الصَّوْمِ مِنَ الْكَافِرِ (وَ)كَذَا (تَيَمُّمُهُ) بِخِلافِ الْوُضُوءِ فَلا يَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ (وَ)يَبْطُلُ بِهَا عَقْدُ (نِكَاحِهِ) بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الرِّدَّةِ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ (قَبْلَ الدُّخُولِ) بِالزَّوْجَةِ فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ لا تَعُودُ إِلَيْهِ زَوْجَتُهُ إِلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ (وَكَذَا) يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِحُصُولِ الرِّدَّةِ (بَعْدَهُ) أَىْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ (إِنْ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِسْلامِ فِى) مُدَّةِ (الْعِدَّةِ) فَإِنْ عَادَ إِلَى الإِسْلامِ قَبْلَ انْتِهَاءِ الْعِدَّةِ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ الْعَقْدِ عِنْدَ الشَّافِعِىِّ. وَالْعِدَّةُ ثَلاثَةُ أَطْهَارٍ لِمَنْ تَحِيضُ وَثَلاثَةُ أَشْهُرٍ قَمَرِيَّةٍ لِمَنْ لا تَحِيضُ أَمَّا الْحَامِلُ فَعِدَّتُهَا تَنْتَهِى بِوَضْعِ الْحَمْلِ.
(وَلا يَصِحُّ عَقْدُ نِكَاحِهِ) أَىِ الْمُرْتَدِّ (عَلَى مُسْلِمَةٍ وَ)لا (غَيْرِهَا) حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الإِسْلامِ (وَتَحْرُمُ ذَبِيحَتُهُ) أَىْ يَحْرُمُ أَكْلُهَا (وَلا يَرِثُ) مَنْ مَاتَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ الْمُسْلِمِينَ (وَلا يُوَرَّثُ) أَىْ لا يَرِثُهُ قَرِيبُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ (وَلا يُصَلَّى عَلَيْه) أَىْ لا تَجُوزُ الصَّلاةُ عَلَيْهِ إِذَا مَاتَ لِكُفْرِهِ وَلا يَجُوزُ التَّرَحُّمُ عَلَيْهِ وَلا الِاسْتِغْفَارُ لَهُ (وَلا يُغَسَّلُ وَلا يُكَفَّنُ) أَىْ لا يَجِبُ غَسْلُهُ وَلا تَكْفِينُهُ وَلا يَحْرُمُ ذَلِكَ (وَلا يُدْفَنُ فِى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ) أَىْ لا يَجُوزُ دَفْنُهُ فِيهَا لِأَنَّهَا وُقِفَتْ لِدَفْنِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فَقَطْ (وَمَالُهُ) بَعْدَ مَوْتِهِ (فَىْءٌ أَىْ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ) يُوجَدُ (بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ) قَائِمٌ عَلَيْهِ ثِقَةٌ أَمِينٌ (أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ) بَيْتُ مَالٍ مُسْتَقِيمٌ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ (فَإِنْ تَمَكَّنَ رَجُلٌ صَالِحٌ) أَمِينٌ عَارِفٌ بِمَصَارِفِ هَذَا الْمَالِ (مِنْ أَخْذِهِ وَصَرْفِهِ فِى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَ ذَلِكَ) أَىْ جَازَ لَهُ ذَلِكَ.
(فَصْلٌ) فِى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ.
(يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَدَاءُ جَمِيعِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ) مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ (وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ) أَىْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِى أَمَرَ اللَّهُ بِهِ (مِنَ الإِتْيَانِ بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ وَ)أَنْ (يَجْتَنِبَ مُبْطِلاتِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَمْرُ مَنْ رَءَاهُ تَارِكَ شَىْءٍ مِنْهَا أَوْ يَأْتِى بِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا بِالإِتْيَانِ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا) أَىْ يَجِبُ أَمْرُهُ بِالإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِى تَصِحُّ بِهِ (وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَهْرُهُ عَلَى ذَلِكَ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ) أَىْ يَجِبُ إِرْغَامُهُ عَلَى تَأْدِيَةِ الْفَرَائِضِ عَلَى وَجْهِهَا إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لا يَمْتَثِلُ إِلَّا بِالْقَهْرِ وَالأَمْرِ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ (وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الإِنْكَارُ) أَىْ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ (بِقَلْبِهِ إِنْ عَجَزَ عَنِ الْقَهْرِ وَالأَمْرِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ أَىْ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ عِنْدَ الْعَجْزِ) عَنِ الْقَهْرِ وَالأَمْرِ لِيَسْلَمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. (وَيَجِبُ) عَلَى الْمُكَلَّفِ (تَرْكُ جَمِيعِ الْمُحَرَّمَاتِ) الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ (وَنَهْىُ مُرْتَكِبِهَا وَمَنْعُهُ قَهْرًا مِنْهَا إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ) أَىْ إِنْ قَدَرَ عَلَى النَّهْىِ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ (وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ).
(وَالْحَرَامُ) هُوَ (مَا تَوَعَّدَ اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ بِالْعِقَابِ وَوَعَدَ تَارِكَهُ) امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ (بِالثَّوَابِ وَعَكْسُهُ الْوَاجِبُ) وَهُوَ مَا وَعَدَ اللَّهُ فَاعِلَهُ بِالثَّوَابِ وَتَوَعَّدَ تَارِكَهُ بِالْعِقَابِ.
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/5FDuGCNVt2Y
لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/mokhtasar-1
الإشعارات