الرسالة الثالثة: مناظرة الإمام المجتهد عبد الرحمن الأوزاعي لغيلان الدمشقي القدري
الرسالة الثالثة: مناظرة الإمام المجتهد عبد الرحمن الأوزاعي لغيلان الدمشقي القدري المتوفى سنة 157هـ
ترجمة الإمام الأوزاعي [1]
رضي الله عنه
– اسمه وكنيته:
هو الإمام المجتهد أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد المعروف بالأوزاعي إمام أهل الشام في زمانه في الحديث والفقه.
والأوزاع بطن من ذي الكلاع من اليمن وقيل بطن من همدان واسمه مرثد بن زيد وقيل الاوزاع قرية بدمشق على طريق باب الفراديس، ولم يكن أبو عمر منهم وإنما نزل فيهم فنسب إليهم.
– مولده:
ولد رحمه الله تعالى سنة 88هـ، وكان مولده في حياة الصحابة، وسكن محلة الاوزاع وهي العقيبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق ثم تحول إلى بيروت مرابطا إلى أن مات بها، وقال بعض من ترجم له بأنه ولد في بعلبك مدينة في لبنان ونشأ بالبقاع ثم نقلته أمه إلى بيروت.
– هيئته:
كان الاوزاعي فوق الربعة خفيف اللحم به سمرة يخضب بالحناء.
حدث عنه: عطاء بن أبي رباح وأبي حعفر الباقر وعمرو بن شعيب ومكحول والزهري ويحيى بن أبي كثير وقتادة بن دعامة ونافع مولى ابن عمر والوليد بن هشام وابن المنكدر وسليمان الأعمش وخلق كثير من التابعين وغيرهم.
روى عنه الزهري ويحيى بن أبي كثير وهما من شيوخه وهذه من رواية الاكابر عن الأصاغر، وشعبة ويونس بن يزيد ومالك بن أنس وبقية بن الوليد والوليد بن مزيد وابن المبارك وأبو عاصم النيل ومحمد بن شعيب ومسلمة بن علي ومحمد بن كثير المصيصي وخلق كثير.
– زهده وورعه وعبدته:
قال الوليد بن مسلم: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاة يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس قام بعضهم إلى بعض فأفاضوا في ذكر الله والتفقه في دينه.
وقال الوليد بن مزيد: كان الأوزاعي من العبادة على شئ ما سمعنا بأحد قوي عليه ما أتى عليه زوال قد إلا وهو قائم.
وقال الوليد أيضا: ما رأيت أكثر اجتهادا في العبادة من الأوزاعي.
وعن أبي مسهر قال: ما رئي الأوزاعي ضاحكا حتى تبدو نواجذه وإنما كان يبتسم أحيانا كما روى في الحديث، وكان يحيي الليل صلاة وقرءانا وبكاء، وأخبرني بعض إخواني في بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطبا من دموعه في الليل.
وعم عقبة بن علقمة البيروتي قال: أرادوا الاوزاعي على القضاء فامتنع وأبى فتركوه.
– ثناء العلماء عليه:
أثنى عليه الأئمة وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته وجلالته ومرتبته وكمال فضيلته وزهده وورعه وعبادته وقيامه في الحق وكثرة صدقته وفقهه وفصاحته واتباعه السنة ومجانبته للبدعة، وإجلال الأئمة له في زمانه وكذا من كان بعده في سائر الأقطار واعترافهم بارتفاع مرتبته وعلو شأنه يدل على عظيم منزلته رحمه الله تعالى.
قال الإمام مالك بن أنس: الأوزاعي إمام يقتدى به.
وقال الإمام الشافعي: ما رأيت رجلا أشبه فقهه بحديثه من الاوزاعي.
وقال الحافظ ابن عساكر: الأوزاعي إمام أهل الشام في الحديث والفقه.
وقال ابن سعد صاحب الطبقات: كان الاوزاعي ثقة مأمونا صدوقا فاضلا خيرا كثير الحديث والعلم والفقه حجة.
– مذهبه:
كان الإمام الأوزاعي مجتهدا له مذهب مستقل مشهور يتبع الناس رأيه، وعمل به فقهاء الشام مدة وفقهاء الأندلس ثم فني وانقرض لأنه لم يدون كفقه المذاهب الأربعة: الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم.
– وفاته:
توفي الأوزاعي رحمه الله تعالى سنة 157هـ يوم الاحد بمدينة بيروت، ودفن قريبا من شاطئ البحر في قرية على باب بيروت يقال لها حنتوس وتعرف اليوم بمحلة الاوزاعي نسبة إليه رحمه الله تعالى.
الهوامش:
[1] من مصادر ترجمته: تاريخ مدينة دمشق [35/147] لابن عساكر، وفيات الأعيان [3/127] لابن خلكان، سير أعلام النبلاء [7/107] للذهبي، الطبقات الكبرى [7/339] لابن سعد، وغيرها كثير.
ترجمة غيلان بن أبي غيلان
أبو مروان القدري [1]
هو الضال أبو مروان غيلان الدمشقي المعتزلي صاحب معبد الجهني وعنه أخذ بعض ضلالاته، ويعد غيلان من بلغاء الكتاب المقتول في القدر أي لنفيه القدر وهو مولى عثمان بن عفان، وإليه تنسب فرقة “الغيلانية” من القدرية، وكان من أصحاب الحارث الكذاب وممن ءامن بنبوته فلما قتل الحارث قام غيلان إلى مقامه، وقال له خالد بن اللجلاج: ويلك ألم تك في شبيبتك ترامي النساء بالتفاح في شهر رمضان ثم صرت خادما تخدم امرأة الحارث [2] الكذاب المتنبي وتزعم أنها أم المؤمنين ثم تحولت فصرت قدريا زنديقا؟ ما أراك تخرج من هوى إلا إلى أشر منه.
وقال له العالم مكحول البيروتي لا تجالسني، وكان الإمام مالك ينهى عن مجالسته، ودعا عليه عمر بن عبد العزيز فقتل وصلب.
قال ابن السمعاني في “الأنساب” [3]: “وأما الغيلانية ففرقة من المرجئة [4] ينتمون إلى غيلان القدري، زعموا أن الإيمان هو المعرفة الثانية بالله عز وجل والخضوع له والإقرار بما جاء به الرسول وبما جاء من عند الله والمعرفة الأولى عندهم اضطرارية. فلذلك لم يجعلوها من الإيمان” اهـ، وذكر مثله البغدادي في “الفرق بين الفرق” [5] والشهرستاني في “الملل والنحل” [6] فمن مرجئة القدرية أي الذين جمعوا بين القدر والإرجاء ناظره الإمام الأوزاعي بحضرة هشام بن عبد الملك [7] فانقطع غيلان ولم يتب، وكان قد أظهر القدر في خلافة عمر بن عبد العزيز فاستتابه عمر فقال غيلان: لقد كنت ضالا فهديتني، وقال عمر: اللهم إن كان صادقا وإلا فاصلبه واقطع يديه ورجليه ثم قال: أمن يا غيلان، فأمن على دعائه.
فنفذت فيه دعوة الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز فأخذ وقطعت أربعته وصلب بدمشق في القدر نسأل الله السلامة وذلك في حياة عبادة بن نسي فإنه أحد من فرح بصلبه، وكان قتله بعد سنة 105هـ.
وعن ابن عون قال: مررت بغيلان فإذا هو مصلوب على باب الشام.
وعن حسان بن عطية أنه قال: يا غيلان والله لئن كنت أعطيت لسانا لم نعطه، إنا لنعرف باطل ما جئت به.
الهوامش:
[1] من مصادر ترجمته: لسان الميزان [4/492] للحافظ ابن حجر، الاعلام للزركلي [5/124]، تاريخ مدينة دمشق [48/186]، تاريخ الإسلام [حوادث سنة 101-102هـ، ص/441]، الضعفاء الكبير [3/436] للعقيلي، التاريخ الكبير [7/102] للبخاري.
[2] هو حارث بن سعيد المتنبئ وقد ظهر في أيام عبد الملك بن مروان.
[3] الأنساب [4/326].
[4] كذا قال، وفي “اللباب” [2/398] لابن الأثير: “القدرية” بدل “المرجئة”.
[5] الفرق بين الفرق [ص/205].
[6] الملل والنحل [ص/146].
[7] هو العاشر من خلفاء بني أمية استخلف بعهد من أخيه يزيد.
نص المناظرة [1]
أخبرنا أبو طالب علي بن عبد الرحمن، أنبأنا أبو الحسن علي بن الحسن الخلعي، أنبأنا أبو محمد بن النحاس، أنبأنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا صالح بن علي النوفلي –بحلب- حدثنا الحمصي واسمه خالد بن عمرو السلفي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن الاوزاعي قال:
أرسل هشام بن عبد الملك إلى غيلان فقال له: يا غيلان، ما هذه المقالة التي تبلغني عنك في القدر؟ فقال: يا أمير المؤمنين هو ما بلغك، وقال: أحضر من أحببت يحاجني، فإن غلبني فاضرب رقبتي، فأحضر الأوزاعي فقال له الأوزاعي: يا غيلان إن شئت ألقيت عليك سبعا وإن شئت خمسا وإن شئت ثلاثا، قال: ألق علي ثلاثا، قال: فقال له: قضاء الله على ما نهى عنه، قال: ما أدري أيش تقول، قال: وأمر الله بأمر حال دونه، فقال: هذه أشد علي من الأولى، قال: فحرم الله حراما ثم أحله، قال: ما أدري أيش تقول، قال: فأمر به فضربت رقبته.
قال: ثم قال هشام للأوزاعي: يا أبا عمرو فسر لنا ما قلت، قال: قضى الله على ما نهى ءادم أن يأكل من الشجرة ثم قضى عليه فأكل منها، وأمر إبليس أن يسجد لآدم وحال بين إبليس وبين السجود، وقال: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} [سورة المائدة/3]، وقال: {فمن اضطر} [سورة المائدة/3] فأحله بعدما حرمه.
أخبرنا أبو الفتح نصر الله بن محمد، أنبأنا نصر بن إبراهيم، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن الوليد الأنصاري الأندلسي –قراءة عليه في منزله-.
ح [2] أخبرنا خالي أبو المعالي محمد بن يحيى أنبأنا الحافظ أبو عبد الله الحميدي –إجازة- أنبأنا الشيخ الصالح أبو الحسن عبد الباقي بن فارس بن أحمد المقرئ –إملاء في مسجد عمرو بن عبد الباقي بمصر- قالا: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن إدريس الرازي الشافعي بمصر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، حدثنا أبو الحسين –وفي حديث نصر الله: أبو الحسن- أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد الأنماطي، حدثنا أبو إسحاق- زاد نصر الله: إبراهيم بن عبد الله بن ثمامة –حدثنا إبراهيم بن إسحاق- وقال المصيصي: حدثنا محمد بن كثير قال:
كان على عهد هشام بن عبد الملك رجل يقال له غيلان القدري، فشكاه الناس إلى هشام بن عبد الملك، فبعص هشام إليه –زاد نصر الله: وأحضره- فقال له: قد كثر كلام الناس فيك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، ادع من شئت فيحاجني –وقال نصر الله: فيجادلني- فإن أدرك علي سبب- وقال نصر الله: فإن أدركت علي شيئا فقد أمكنتك من علاوتي –يعني رأسه- قال هشام: قد أنصفت، فبعص هشام إلى الأوزاعي، فلما حضر الأوزاعي قال له – زاد نصر الله: هشام، وقالا: -يا أبا عمرو ناظر لنا هذا القدري، فقال له الاوزاعي –وفي حديث خالي: فقال الأوزاعي للقدري: اختر إن شئت ثلاث كلمات، وإن شئت أربع كلمات، وإن شئت واحدة، فقال القدري: بل ثلاث كلمات.
فقال الأوزاعي للقدري: أخبرني عن الله عز وجل، هل تعلم أنه قضى على ما نهى؟ فقال القدري: ليس عندي في هذا شئ، فقال الاوزاعي: هذه واحدة.
ثم قال الأوزاعي: أخبرني عن الله عز وجل أنه حال دون ما أمر؟ فقال القدري: هذه أشد –زاد نصر الله: علي وقالا: -من الأولى، ما عندي من هذا شئ، فقال الأوزاعي: هذه اثنتان يا أمير المؤمنين.
فقال الاوزاعي للقدري: أخبرني عن الله عز وجل أنه أعان على ما حرم، فقال القدري: هذا –وقال نصر الله: هذه- أشد علي من الاولى والثانية، ما عندي في هذا شئ، فقال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين هذه ثلاث –زاد نصر الله: كلمات-.
فأمر به هشام فضربت عنقه.
فقال هشام بن عبد الملك للأوزاعي: فسر لنا هذه الثلاث كلمات –وقال نصر الله: هذه الثلاثة- ما هي؟ قال الأوزاعي –وفي حديث نصر الله: قال: نعم، وقالا: -يا أمير المؤمنين أما تعلم أن الله قضى [3] على ما نهى؟ نهى ءادم عن أكل الشجرة ثم قضى عليه أكلها –وقال نصر الله: بأكلها- فأكلها.
ثم قال الأوزاعي: أما تعلم يا أمير المؤمنين أن الله حال دون ما أمر أمر إبليس بالسجود لآدم ثم حال بينه وبين السجود.
ثم قال الاوزاعي: أما تعلم يا أمير المؤمنين أن الله تعالى أعان على ما حرم، حرم الميتة –زاد نصر الله: والدم قالا: -ولحم الخنزير، ثم أعان عليه بالاضطرار إليه.
فقال هشام: فأخبرني عن الواحدة ما كنت تقول له؟ قال: أقول له –زاد نصر الله وقالا: -مشيئتك مع مشيئة الله، أو مشيئتك دون مشيئته –وقال نصر الله: مشيئة الله- فأيهما أجابني فيه حل فيه ضرب عنقه.
قال: فأخبرني عن الأربع ما هي؟ قال: كنت أقول له: أخبرني عن الله عز وجل، خلقك كما شاء أو كما شئت؟ فإنه كان يقول: كما شاء، ثم أقول له: أخبرني عن الله عز وجل يتوفاك إذا شاء أو إذا شئت؟ فإنه كان يقول إذا شاء، ثم أقول له: أخبرني عن الله يرزقك إذا شاء أو إذا شئت؟ فإنه كان يقول: إذا شاء، ثم كنت أقول له: أخبرني عن الله عز وجل إذا توفاك إلى أين تصير؟ حيث شئت أو حيث شاء؟ فإنه كان يقول: حيث شاء.
ثم قال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين من لم يمكنه أن يحسن خلقه، ولا يزيد في رزقه ولا يؤخر في أجله ولا يصير نفسه حيث شاء –وقال نصر الله: حيث شاء- فأي شئ في يديه –وقال نصر الله: في يده – من المشيئة يا أمير المؤمنين؟ قال: صدقت يا أبا عمرو.
ثم قال الأوزاعي: يا أمير المؤمنين، إن القدرية ما رضوا بقول الله عز وجل ولا بقول الأنبياء ولا بقول أهل الجنة ولا بقول أهل النار ولا بقول الملائكة ولا بقول أخيهم إبليس، فأما قول الله عز وجل: {فاجتباه ربه فجعله من الصالحين} [سورة القلم/50]، وأما قول الملائكة: {لا علم لنا إلا ما علمتنا} [سورة البقرة/32]، وأما قول الأنبياء، فما قال شعيب: {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت} [سورة هود/88]، وقال نصر الله: قال إبراهيم: {لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} [سورة الأنعام/77]، وقول نوح: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} [سورة هود/34]، وأما قول أهل الجنة فإنهم قالوا: {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} [سورة الأعراف/43]، وأما قول أهل النار: {لو هدانا الله لهديناكم} [سورة إبراهيم/21]، وأما قول أخيهم إبليس: {رب بما أغويتني} [سورة الحجر/39].
أخبرنا أبو الحرم مكي بن الحسن بن معافى، وأبو القاسم نصر بن أحمد بن مقاتل، قالا: أنبأنا أبو محمد مقاتل بن مطكود بن أبي نصر، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن شجاع، أنبأنا أبو الفتح محمد بن إبراهيم بن يزيد النصري بالقدس سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، حدثنا أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة العكبري، وأبو الحسن علي بن محمد بن ينال الشافعي –شك الشيخ أبو الفتح- أنبأنا أبو بكر القاسم بن إبراهيم الصفار، حدثنا حجر بن محمد السامري البصري، حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله البصري، حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل المنقري، حدثنا حماد أبي سلمة [4]، عن أبي جعفر الخطمي قال:
بلف عمر بن عبد العزيز كلام غيلان القدري في القدر، فأرسل إليه فدعاه، فقال له: ما الذي بلغني عنك؟ تكلم [5] في القدر؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لم أقل، قال: فما تقول في العلم؟ ويلك أنت مخصوم إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدت بالعلم كفرت، ويلك أقر بالعلم تخصم خير من أن تجحد فتلعن، والله لو علمت أنك تقول الذي بلغني عنك لضربت عنقك، أتقرأ: {يس* والقرءان الحكيم} [سورة يس/1-2]؟ قال: نعم، قال، فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم يس* والقرءان الحكيم* إنك لمن المرسلين* على صراط مستقيم} إلى أن بلغ: {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} قال له: قف، كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية قط، قال: زد: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} قف، من جعل الأغلال في أعناقهم؟ قال: لا أدري، قال: ويلك، الله والله، قال زد: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا} قال: قف، قال: ويلك، من جعل السد بين أيديهم؟ قال: لا أدري، قال: ويلك، الله والله، زد ويلك: {وسواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون* إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم} [سورة يس/10-11]، قف، كيف ترى؟ قال: كأني والله لم أقرأ هذه السورة قط، فإني أعاهد الله أن لا أعود في شئ من كلامي أبدا، فانطلق.
فلما ولى قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان أعطاني بلسانه ومحنته في قلبه فأذقه حر السيف.
فلم يتكلم في خلافة عمر بن عبد العزيز، وتكلم في خلافة يزيد بن عبد الملك، فما مات يزيد أرسل إليه هشام فقال: ألست كنت عاهدت الله لعمر بن عبد العزيز أنك لا تكلم في شئ من كلامك؟ قال: أقلني يا أمير المؤمنين، قال: لا أقالني الله إن أنا أقلتك يا عدو الله، أتقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم فقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم* الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين* إياك نعبد وإياك نستعين} [سورة الفاتحة/1-2-3-4-5] قال: قف يا عدو الله، على ما تستعين الله، على أمر بيدك أم على أمر بيده؟ من ههنا، انطلقوا به فاضربوا عنقه واصلبوه، قال: يا أمير المؤمنين أبرز لي رجلا من خاصتك أناظره، فإن أدرك علي أمكنته من علاوتي فليضربها، وإن أنا أدركت عليه فاتبعني به، قال هشام: من لهذا القدري؟ قالوا: الأوزاعي، فأرسل إليه وكان بالساحل، فلما قدم عليه، قال له الأوزاعي: أخبرني يا غيلان إن شئت ألقيت عليك ثلاثا وإن شئت أربعا وإن شئت واحدة، قال: ألق علي ثلاثا.
قال: أخبرني عن الله، قضى على ما نهى؟ قال: لا أدري كيف هذا، قال الأوزاعي: واحدة يا أمير المؤمنين.
ثم قال: أخبرني عن الله، أمر بأمر ثم حال دون ما أمر؟ قال القدري: هذه والله أشد من الأولى، قال الأوزاعي: هاتان اثنتان يا أمير المؤمنين.
ثم قال: أخبرني عن الله، حرم حراما ثم أحله؟ قال: هذه والله أشد من الأولى والثانية، قال الأوزاعي: كافر [6]، ورب الكعبة يا أمير المؤمنين.
فأمر به هشام فقطعت يداه ورجلاه [7] وضربت عنقه وصلب، فقال حين أمر به: أدركتني دعوة العبد الصالح عمر بن عبد العزيز.
قال هشام: يا أبا عمرو فسر لنا الثلاث التي ألقيت عليه، قال: قلت له: أخبرني عن الله، قضى على ما نهى، إن الله نهى ءادم عن أكل الشجرة، ثم قضى عليه أن يأكل منها، قلت له: أخبرني عن الله أمر بأمر ثم حال دون ما أمر، إن الله عز وجل أمر إبليس بالسجود لآدم فحال بينه وبين أن يسجد له، وقلت له: أخبرني عن الله عز وجل، حرم حراما ثم أحله، حرم الميتة وأعان على أكلها للمضطر إليها.
قال له هشام: فأخبرني عن الأربع ما هي؟
قال: كنت أقول له: أخبرني عن الله عز وجل خلقك كما شاء أو كما شئت؟ فإنه يقول: كما شاء.
ثم كنت أقول له: أخبرني عن الله أرازقك إذا شاء أم إذا شئت؟ فإنه يقول: إذا شاء.
ثم كنت أقول له: أخبرني عن الله يتوفاك حيث شاء أم حيث شئت؟ فإنه يقول: حيث شاء.
ثم كنت أقول له: أخبرني عن الله يصيرك حيث شاء أم حيث شئت؟ فإنه يقول: حيث شاء، فمن لا يقدر أن يزيد في رزقه ولا ينقص في عمره فما إليه من المشيئة شئ.
قال هشام: فأخبرنا عن الواحدة ما هي؟
قال: كنت أقول له: أخبرني عن مشيئتك، مع مشيئة الله أو دون مشيئة الله؟ فعلى أيهما أجابني حل قتله، إن قال: مع مشيئة الله صير نفسه شريكا لله، وإن قال: دون مشيئة الله انفرد بالربوبية.
فقال هشام: لا أحياني الله بعد العلماء ساعة واحدة.
الهوامش:
[1] ذكرها الحافظ ابن عساكر في كتابه “تاريخ مدينة دمشق” [48/204].
[2] الحاء إشارة وضعها المحدثون علامة للتحويل في السند.
[3] اعلم أن علماء التوحيد قد قسموا الامور إلى أربعة:
الاولى: شئ شاءه الله وأمر به وهو إيمان المؤمنين وطاعة الطاعين.
والثاني: شئ شاءه ولم يأمر به وهو عصيان العصاة وكفر الكافرين، وعلى هذا القسم يحمل قضاؤه على ءادم بالأكل من الشجرة مع نهيه عن ذلك فقد نهاه الله عن الأكل منها وشاء له حصول الأكل.
والثالث: أمر لن يشأه وأمر به وهو الإيمان بالنسبة للكافرين الذين علم أنهم يموتون على الكفر. وعلى هذا يحمل أمره لإبليس بالسجود ولم يشأ حصول السجود منه.
والرابع: أمر لم يشأه ولم يأمر به وهو الكفر بالنسبة للأنبياء والملائكة.
[4] يعني حماد بن سلمة.
[5] أي تتكلم.
[6] هذا دليل لأهل السنة على جواز تكفير الشخص المعين الذي تكلم بلفظ صريح في الكفر ورد على من منع ذلك من بعض أهل هذا العصر.
[7] في النسخة المطبوعة: “يديه ورجليه”.