الرد على من يُكَفّر المتوسّل بالأنبياء والأولياء
ليُعلم أن العبادةَ نهاية التذلل فلا يجوز أن يتذلل العبد هذا التذلل لغير الله فمن صرف ذلك لغير الله فقد عبد غير الله. وليس عبادة لغير الله مجرد النداء لحي أو ميتٍ ولا مجرد التعظيم ولا مجرد الاستغاثة [(1067)] بغير الله ولا مجرد قصد قبر وليّ للتبرك ولا مجرد طلب ما لم تجر العادة به بين الناس ولا مجرد صيغة الاستعاذة بغير الله تعالى أي ليس ذلك شركًا.
واعلم أنه لا دليل حقيقي يدلّ على عدم جواز التوسّل بالأنبياء والأولياء في حال الغيبة أو بعد وفاتهم بدعوى أن ذلك عبادة لغير الله لأنه لا ينطبق عليه تعريف العبادة عند اللغويين، لأن العبادة عندهم الطاعة مع الخضوع، قال اللغوي [(1068)] الزجاج وهو من أشهرهم «قوله عز وجل معنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، يقال هذا طريق معبَّد إذا كان مُذللاً بكثرة الوطء، وبعيرٌ مُعبَّدٌ إذا كان مطليًّا بالقَطِرَان، فمعنى: إياك نطيع الطاعة التي يخضع معها» اهـ. ونقل هذا عنه اللغوي الأزهري [(1069)] وهو من كبارهم، وقال مثلهما الفرَّاء [(1070)]، وقال التقي السبكي [(1071)] «العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل»، وقال الراغب الأصبهاني [(1072)] «غاية التذلّل» كما يفهم ذلك من كلام شارح القاموس محمد مرتضى الزبيدي خاتمة اللغويين [(1073)]، وهذا الذي يستقيم لغةً وعرفًا.
وليس مجرد التذلُّل عبادة لغير الله وإلا لكفر كلّ مَن يتذلَّل للملوك والعظماء، وقد ثبت أن معاذ بن جبل لما قَدِمَ من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الرسول «ما هذا» فقال يا رسول الله إني رأيت أهل الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم وأنت أولى بذلك، فقال «لو كنت ءامر أحدًا أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» [(1074)]، ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرت ولا قال له أشركت مع أن سجوده للنبيّ مظهر كبير من مظاهر التذلّل.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له فقال أصحابه يا رسول الله سجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك فقال «اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم» رواه أحمد وإسناده جيد [(1075)].
فهؤلاء الذين يكفّرون الشخص لأنه قصد قبر الرسول أو غيره من الأولياء للتبرّك جهلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون، لأن المسلمين سلفًا وخلفًا لم يزالوا يزورون قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس معنى الزيارة للتبرّك أن الرسول يخلق لهم البركة، بل المعنى أنهم يرجون أن يخلق الله لهم البركة بزيارتهم لقبره.
وكذلك نداء الغائب أو الميت لا يكون بمجرده كفرًا بل ولا معصية فقد أخرج البزار [(1076)] من حديث عبد الله بن عبَّاس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن لله ملائكة سيَّاحين في الأرض سوى الحَفَظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدَكم عرجةٌ بأرض فلاة فلينادِ أعينوا عباد الله». قال الحافظ الهيثمي [(1077)]: «رواه الطبراني [(1078)] ورجاله ثقات»، وحسَّنه الحافظ ابن حجر في أماليه [(1079)] مرفوعًا – أي أنه من قول الرسول – وأخرجه الحافظ البيهقي [(1080)] موقوفًا على ابن عباس بلفظ «إن لله عزَّ وجلَّ ملائكة سوى الحَفَظَة يكتبون ما سقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فلينادِ: أعينوا عباد الله يرحمكم الله تعالى». والرواية الأولى تقوي ما ورد بمعناها من بعض الروايات التي في إسنادها ضعف، وقد تقرر عند علماء الحديث أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال والدعوات والتفسير، كما ذكر الحافظ الحاكم في المدخل [(1081)].
وروى البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ [(1082)] عن مالك الدار وكان خازن عمر قال: «أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له أقرئ عمر السلام وأخبره أنهم يسقون وقل له عليك الكيس الكيس، فأتى الرجل عمرَ فأخبره فبكى عمر وقال يا ربّ ما ءالوا [(1083)] إلا ما عجزت». وقد جاء تفسير هذا الرجل ببلال ابن الحارث المزني [(1084)] الصحابي، فهذا الصحابي قد قصد قبر الرسول للتبرك واستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فلم ينكر عليه عمر ولا غيره من الصحابة فبطل دعوى ابن تيمية أن هذه الزيارة شركيَّة.
وأخرج الطبراني في معجميه الكبير والصغير [(1085)] عن عثمان بن حُنيفٍ أن رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي عثمان بن حُنيفٍ فشكى إليه ذلك وقال إئت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قلِ «اللَّهُمَّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمدٍ نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتُقضى لي» ثم رُح حتى أروح معك. فانطلق الرجل ففعل ما قال ثم أتى باب عثمان فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على طنفسته فقال ما حاجتك؟ فذكر له حاجته فقضى له حاجته، وقال ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت هذه الساعة ثم خرج من عنده فلقي عثمان بن حُنيف فقال جزاك الله خيرًا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حُنيفٍ والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضريرٌ فشكى إليه ذهابَ بصره فقال «إن شئت صبرت وإن شئت دعوت لك». قال يا رسول الله إنه شقَّ عليَّ ذهابُ بصري وإنه ليس لي قائد فقال له «إيت الميضأة فتوضأ وصل ركعتين ثم قل [(1086)] هؤلاء الكلمات» ففعل الرجل ما قال فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا المجلسُ حتى دخل علينا الرجلُ وقد أبصر كأنه لم يكن به ضرٌّ قط.
قال الطبراني: «والحديث صحيح» اهـ ففيه دليل أن الأعمى توسَّلَ بالنبيّ في غير حضرته بدليل قول عثمان بن حُنيف «حتى دخل علينا الرجل وقد أبصر». وفيه أنَّ التوسُّل بالنبي جائز في حال حياته وبعد مماته فبطل قولُ ابن تيمية لا يجوز التوسل إلا بالحي الحاضر فتبين مما ذكر أن هذا مخالف لإجماع المسلمين السلف والخلف وكل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرطٍ.
فإن قيل إن الطبراني لم يصحح بقوله «والحديث صحيح» إلا الأصل وهو ما حصل بين النبيّ والأعمى ويسمى مرفوعًا، وأمّا ما حصل بين عثمان بن حُنَيْف وذلك الرجل فلا يسمى حديثًا لأنه حصل بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم وإنما يسمى موقوفًا، فالجواب أن علماء الحديث يطلقون الحديث على المرفوع والموقوف، وقد نصَّ على ذلك غير واحد منهم كابن حجر العسقلاني [(1087)] والسيوطي، قال شمس الدين الرملي ما نصه [(1088)]: «سئل عن تعريف الأثر فأجاب إن تعريف الأثر عند المحدّثين هو الحديث سواء أكان مرفوعًا أو موقوفًا وإن قصره بعض الفقهاء على الموقوف» اهـ فحملُ الألباني وبعض تلامذته قول الطبراني «والحديث صحيح» على ما حصل للأعمى مع رسول الله دون ما حصل للرجل مع عثمان بن حُنَيْف دعوى باطلة مخالفة لقواعد الاصطلاح.
ومما يدل أيضًا على جواز التوسل ما قاله المناوي [(1089)] في شرح حديث: «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمَّد نبي الرحمة» ما نصه: «قال السبكي [(1090)]: يحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي إلى ربّه، ولم ينكر ذلك أحد من السلف ولا الخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم قبله وصار بين أهل الإسلام مُثْلَةً» اهـ.
ومما يدل على جواز التوسّل أيضًا ما رواه البخاريُّ [(1091)] ومسلم [(1092)] عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللَّهُمَّ كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبُق قبلهما أهلًا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أَرُح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما [(1093)] فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أَغبق قبلهما أهلًا أو مالا، فلبثت والقدح على يديَّ أَنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللَّهمَّ إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه»، الحديث. فإذا كان التوسّل بالعمل الصالح جائزًا فكيف لا يصحُّ بالذوات الفاضلة كذوات الأنبياء، فهذا يكفي دليلًا لو لم يكن دليل سواه للتوسّل بالأنبياء والأولياء.
وذكر المرداوي الحنبلي أيضًا في كتاب «الإِنصاف» [(1094)] تحت عنوان فوائد ما نصّه: «ومنها – أي ومن الفوائد – يجوز التوسل بالرجل الصالح على الصحيح من المذهب وقيل يستحب» اهـ. فماذا يقول هؤلاء عن المذهب الحنبلي الذي قرَّر أن التوسُّل بالنبي بعد موته سنةٌ على رأي، وجائز فقط على رأي فهل يُكفِرون الحنابلة؟ وما معنى اعتزاز هؤلاء بأحمد مع أن أحمد في وادٍ وهم في وادٍ ءاخر؟ وقد قال الإِمام أحمد للمرورُّوذي [(1095)]: «يتوسل – أي الداعي عند القحط وقلَّة المطر أو انقطاعه – بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه» اهـ.
وفي كتاب «إتحاف السادة المتّقين شرح إحياء علوم الدين» [(1096)] لخاتمة الحفاظ واللغويين السيد محمد مرتضى الزبيدي ما نصُّه: «وكان صفوان بن سُليم المدني أبو عبد الله وقيل أبو الحرث القرشي الزهري الفقيه العابد وأبوه سُليم مولى حُميد بن عبد الرَّحمن بن عوف قال أحمد: هو يُسْتَسْقَى بحديثه وينزل القَطر من السماء بذكره [(1097)]، وقال مرة: هو ثقة من خيار عباد الله الصالحين، قال الواقدي وغيره مات سنة مائة واثنتين وثلاثين عن اثنتين وسبعين سنة روى له الجماعة» اهـ أي أنه توفي قبل أن يولد الإِمام أحمد. فهذا أحمد رضي الله عنه لم يقل يستسقى بدعائه كما يقول ابن تيمية إن التوسل بدعاء الشخص لا بذاته ولا بذكره بل جعل أحمد ذكره سببًا لنزول المطر، فمن أين تحريم ابن تيمية للتوسُّل بالذوات الفاضلة؟.
وفي فتاوى شمس الدين الرملي [(1098)] ما نصّه: «سئل عمَّا يقع من العامَّة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان، يا رسول الله ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل للرُّسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثةٌ بعد موتهم؟ وماذا يرجّح ذلك؟
فأجاب: بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة، وللرُّسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلّون [(1099)] ويحجُّون كما وردت به الأخبار [(1100)] وتكون الإِغاثة منهم معجزة لهم، وأمّا الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم» اهـ، وقوله «ويحجون» لم يثبت في السنة.
وقال نور الدين ملا علي القاري في شرح المشكاة ما نصّه: «قال شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحرين شمس الدين بن الجزري في مقدمة شرحه للمصابيح المسمى بتصحيح المصابيح: إني زرت قبره بنيسابور – يعني مسلم بن الحجاج القشيري – وقرأت بعض صحيحه على سبيل التيمّن والتبرّك عند قبره ورأيت ءاثار البركة ورجاء الإجابة في تربته» اهـ.
وأما توسل عمر بالعباس بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم فليس لأن الرسول قد مات بل كان لأجل رعاية حق قرابته من النبيّ صلى الله عليه وسلم بدليل قول العباس حين قدمه عمر «وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك» روى هذا الأثر الزبير بن بكار في الأنساب [(1101)].
وأيضًا فإن ترك الشىء لا يدل على منعه كما هو مقرَّر في كتب الأصول فترك عمر للتوسّل بالنبي صلى الله عليه وسلم لا دلالة فيه أصلًا على منع التوسّل إلا بالحيّ الحاضر، وقد ترك النبيُّ صلى الله عليه وسلم كثيرًا من المباحات فهل دلّ تركه لها على حرمتها؟
وقد أراد سيّدنا عمر بفعله ذلك أن يبيّن جواز التوسّل بغير النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح ممّن ترجى بركته، ولذا قال الحافظ [(1102)] في الفتح [(1103)] عقب هذه القصة ما نصّه «ويستفاد من قصة العبَّاس استحباب الاستشفاع بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة» اهـ.
فتبين بطلان رأي ابن تيمية ومن تبعه من منكري التوسل. ويستأنس له بما رواه الحاكم [(1104)] أن عمر رضي الله عنه خطب الناس فقال «أيُّها الناس إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد لوالده، يعظّمه ويفخّمه وَيَبَرُّ قسمَهُ، فاقتدوا أيُّها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمّه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم»، وهذا يوضّح سبب توسّل عمر بالعبّاس.
قال الحافظ ولي الدين العراقي في شرح حديث أن موسى قال رب أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر» ما نصه [(1105)]: «وفيه استحباب معرفة قبور الصالحين لزيارتها والقيام بحقها، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لقبر موسى عليه السلام علامة هي موجودة في قبر مشهور عند الناس الآن بأنه قبره والظاهر أن الموضع المذكور هو الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد دلَّ على ذلك حكايات ومنامات. وقال الحافظ الضياء [(1106)]: حدثني الشيخ سالم التل قال: ما رأيت استجابة الدعاء أسرع منها عند هذا القبر. وحدثني الشيخ عبد الله بن يونس المعروف بالأرمني أنه زار هذا القبر وأنه نام فرأى في منامه قبة عنده وفيها شخص أسمر فسلم عليه وقال له أنت موسى كليم الله أو قال نبي الله، فقال نعم، فقلت قل لي شيئًا فأومأ إلي بأربع أصابع ووصف طولهن فانتبهت فلم أدر ما قال، فأخبرتُ الشيخ ذيالاً بذلك فقال يولد لك أربعة أولاد فقلت أنا قد تزوجت امرأة فلم أقربها فقال تكون غير هذه فتزوجت أخرى فولدت لي أربعة أولاد» اهـ.
وابن تيمية هو أوَّل من منع التوسّل بالنبي عليه السلام كما ذكر ذلك الفقيه علي السبكي في كتابه «شفاء السَّقام» [(1107)] ونص عبارته: «اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل والاستعانة والتشفّع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربّه سبحانه وتعالى، وجوازُ ذلك وحُسْنُهُ من الأمور المعلومة لكل ذي دين المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين، ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ولا سُمِعَ به في زمن من الأزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلّم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار» انتهى إلى ءاخر كلامه.
قال بعض أهل العصر [(1108)] في كلام له في الرد على ابن تيمية [(1109)]: «فسَعْيُ ابن تيمية في منع الناس من زيارته صلى الله عليه وسلم يدل على ضغينةٍ كامنةٍ فيه نحو الرسول، وكيف يتصور الإِشراك بسبب الزيارة والتوسل في المسلمين الذين يعتقدون في حقّه عليه السلام أنه عبده ورسوله وينطقون بذلك في صلواتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقلّ تقدير إدامةً لذكرى ذلك، ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كل شؤونهم ويرشدونهم إلى السنة في الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شىء، ولم يعدُّوهم في يوم من الأيام مشركين بسبب الزيارة أو التوسّل، وكيف وقد أنقذهم الله من الشرك وأدخل في قلوبهم الإِيمان. وأول من رماهم بالإِشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد استباحة أموال المسلمين ودمائهم لحاجة في النفس، ولم يَخَف ابن تيمية من الله في رواية عدّ السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم سفرَ معصية لا تقصر فيه الصلاة عن الإِمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي وحاشاه عن ذلك – راجع كتاب التذكرة له تجد فيه مبلغ عنايته لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتوسّل به كما هو مذهب الحنابلة – وإنما قوله بذلك في السفر إلى المشاهد المعروفة بالعراق لما قارن ذلك من البدع في عهده وفي نظره، وإليك نصُّ عبارته في التذكرة المحفوظة بظاهرية دمشق: فصل.
ويستحب له قدوم مدينة الرسول صلوات الله عليه فيأتي مسجده فيقول عند دخوله: بسم الله اللَّهمَّ صلّ على محمَّد وعلى ءال محمَّد، وافتح لي أبواب رحمتك، وكُفَّ عني أبواب عذابك، الحمد لله الذي بلغ بنا هذا المشهد وجعلنا لذلك أهلًا، الحمد لله رب العالمين، إلى أن قال: واجعل القبر تلقاء وجهك وقم مما يلي المنبر وقل السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللَّهمَّ صلّ على محمَّد وعلى ءال محمَّد إلى ءاخر ما تقوله في التشهد الأخير، ثم تقول اللَّهمَّ أعط محمَّدًا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود الذي وعدته، اللَّهمَّ صلّ على روحه في الأرواح وجسده في الأجساد كما بلَّغ رسالاتك وتلا ءاياتك وصدع بأمرك حتى أتاه اليقين، اللَّهمَّ إنك قلت في كتابك لنبيّك صلى الله عليه وسلم ﴿… وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *﴾ [سورة النساء] وإني قد أتيت نبيَّك تائبًا مستغفرًا فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللَّهمَّ إني أتوجه إليك بنبيّك صلى الله عليه وسلم نبيّ الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي ليغفر لي ذنوبي، اللَّهمَّ إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي، اللَّهمَّ اجعل محمدًا أوَّل الشافعين وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين، اللَّهمَّ كما ءامنا به ولم نره وصدقناه ولم نلقه فأدخلنا مدخله واحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربًا صافيًا رويًّا سائغًا هنيًا لا نظمأ بعده أبدًا غير خزايا ولا ناكثين ولا مارقين ولا مغضوبًا علينا ولا ضالّين، واجعلنا من أهل شفاعته. ثم تقدم عن يمينك فقل السلام عليك يا أبا بكر الصدّيق، السلام عليك يا عمرُ الفاروق، اللَّهمَّ اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرًا، ﴿…رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ … *﴾ [سورة الحشر] الآية. وتصلي بين القبر والمنبر في الروضة، وإن أحببت تمسَّح بالمنبر وبالحنانة وهو الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم فلما اعتزل عنه حنَّ إليه كحنين الناقة. وتأتي مسجد قباء فتصلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصده فيصلي فيه، وإن أمكنك فأتِ قبور الشهداء وزرهم وأَكْثر من الدعاء في تلك المشاهد حتى كأنك إلى مواقفهم، واصنع عند الخروج ما صنعت عند الدخول» اهـ.
وابن عقيل هذا من أساطين الحنابلة قال ابن تيمية عن كتابه عمدة الأدلة له إنه من الكتب المعتمدة في المذهب، ويقال عن كتابه المسمى بالفنون إنه في ثمانمائة مجلد.
ومن الدليل أيضًا على جواز التوسل بالأنبياء والصالحين حديث أبي سعيد الخدري [(1110)] الذي حسَّنه الحافظ ابن حجر في «نتائج الأفكار» [(1111)] وغيرُه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة فقال اللَّهمَّ إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وكَّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته».
قال الحافظ الخطيب البغدادي [(1112)] وهو الذي قيل فيه إن المؤلفين في كتب الحديث درايةً عيالٌ على كتبه ما نصه: «أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن محمد بن رامين الأَستَرْباذي قال أنبأنا أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي قال سمعت الحسن بن إبراهيم أبا علي الخلال يقول ما همّني أمر فقصدت قبر موسى [(1113)] ابن جعفر فتوسلت به إلا سهل الله تعالى لي ما أحبّ» اهـ.
ثم قال [(1114)]: «أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحِيري قال أنبأنا محمد ابن الحسين السُّلَمي قال سمعت أبا الحسن بن مقْسَم يقول سمعت أبا علي الصفَّار يقول سمعت إبراهيم الحربي يقول «قبر معروف الترياق المجَرّب».
أخبرني أبو إسحق إبراهيم بن عمر البَرْمَكي قال نبأنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمّد الزهري قال سمعت أبي يقول قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج، ويقال إنه من قرأ عنده مائة مرة ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *﴾ [سورة الإخلاص] وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له حاجته.
حدّثنا أبو عبد الله محمّد بن علي بن عبد الله الصوري قال سمعت أبا الحسين محمّد بن أحمد بن جميع يقول سمعت أبا عبد الله بن المحاملي يقول «أعرف قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة، ما قصده مهموم إلا فرّج الله همّه».
أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري قال أنبأنا عمر بن إبراهيم المُقرئ قال نبأنا مكرم بن أحمد قال نبأنا عمر بن إسحق بن إبراهيم قال نبأنا علي بن ميمون قال سمعت الشافعي يقول «إني لأتبرّك بأبي حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم – يعني زائرًا – فإذا عرضت لي حاجة صلّيت ركعتين وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى» اهـ. قال الخطيب [(1115)]: «ومقبرة باب البَرَدَان فيها أيضًا جماعة من أهل الفضل، وعند المصلّى المرسوم بصلاة العيد كان قبر يعرف بقبر النذور ويقال إن المدفون فيه رجل من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتبرَّك الناس بزيارته ويقصده ذو الحاجة منهم لقضاء حاجته.
حدّثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال حدّثني أبي قال كنت جالسًا بحضرة عضد الدولة ونحن مخيمون بالقرب من مصلى الأعياد في الجانب الشرقي من مدينة السلام نريد الخروج معه إلى همذان في أوّل يوم نزل المعسكر، فوقع طرفه على البناء الذي على قبر النذور فقال لي ما هذا البناء؟ فقلت هذا مشهد النذور، ولم أقل قبر لعلمي بِطِيَرته من دون هذا، واستحسن اللفظة وقال قد علمت أنه قبر النذور وإنما أردت شرح أمره، فقلت هذا يقال إنه قبر عبيد الله بن محمّد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ويقال إنه قبر عبيد الله بن محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب وإن بعض الخلفاء أراد قتله خفيًّا فجُعلت له هناك زُبْيَةٌ وسُيّر عليها وهو لا يعلم فوقع فيها وأهيل عليه التراب حيًّا، وإنما شهر بقبر النذور لأنه ما يكاد ينذر له نذر إلا صح وبلغ الناذر ما يريد ولزمه الوفاء بالنذر، وأنا أحد من نذر له مرارًا لا أحصيها كثرة نذورًا على أمور متعذرة فبلغتها ولزمني النذر فوفيت به فلم يتقبّل هذا القول وتكلّم بما دلّ أن هذا إنما يقع منه اليسير اتفاقًا فيتسوق العوام بأضعافه ويسيرون الأحاديث الباطلة فيه فأمسكت، فلما كان بعد أيام يسيرة ونحن معسكرون في موضعنا استدعاني في غُدوة يوم وقال اركب معي إلى مشهد النذور فركبت وركب في نفر من حاشيته إلى أن جئت به إلى الموضع فدخله وزار القبر وصلى عنده ركعتين سجد بعدهما سجدة أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد ثم ركبنا معه إلى خيمته وأقمنا أيامًا ثم رحل ورحلنا معه يريد همذان فبلغناها وأقمنا فيها معه شهورًا، فلما كان بعد ذلك استدعاني وقال لي ألستَ تذكر ما حدثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد فقلت بلى فقال إني خاطبتك في معناه بدون ما كان في نفسي اعتمادًا لإِحسان عشرتك، والذي كان في نفسي في الحقيقة أن جميع ما يقال فيه كذب، فلما كان بعد ذلك بمديدة طرقني أمر خشيت أن يقع ويتم، وأعملت فكري
في الاحتيال لزواله ولو بجميع ما في بيوت أموالي وسائر عساكري فلم أجد لذلك فيه مذهبًا، فذكرت ما أخبرتني به في النذر لقبر النذور [(1116)]، فقلت لِمَ لا أجرّب ذلك، فنذرت إن كفاني الله تعالى ذلك الأمر أن أحمل إلى صندوق هذا المشهد عشرة ءالاف درهم صحاحًا، فلما كان اليوم جاءتني الأخبار بكفايتي ذلك الأمر، فتقدمت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف – يعني كاتبه – أن يكتب إلى أبي الريان وكان خليفته ببغداد يحملها إلى المشهد، ثم التفت إلى عبد العزيز وكان حاضرًا فقال له عبد العزيز قد كتبت بذلك ونفذ الكتاب» اهـ.
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر [(1117)] «حدثني الشيخ الصالح الأصيل أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر [بن] الصفار الأسفرايني أن قبر أبي عَوانة بأسفراين [(1118)] مَزارُ العالمِ ومتبرَّك الخلق» اهـ.
وفي هذا مع ما حصل من بلال بن الحرث من قصد قبر الرسول صلى الله عليه وسلم للتبرُّك والاستعانة به بيان لما كان عليه السلف والخلف من قصد قبور الأنبياء والصالحين للتبرّك وأنهم كانوا يرون ذلك عملًا حسنًا، وفي ذلك نقض زعم ابن تيمية وابن قيّم الجوزية أن زيارة القبر للتبرّك شرك، وفي ذلك أيضًا بيان واضح أن هذا كان عمل المسلمين بلا نكير، إنما التشويش على المتبرّكين جاء من ابن تيمية وأتباعه، ولو تتبعنا شواهد ذلك من كتب المحدّثين وغيرهم لطال الكلام جدًّا، وهذا الحافظ ابن عساكر كان شيخ المحدّثين في عصره في برّ الشام كلّه.
وقد قال الإمامُ مالك للخليفة المنصور لما حجَّ وزار قبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وسأل مالكًا قائلًا: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك ءادم عليه السلام إلى الله تعالى. بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله». ذكره القاضي عياض في «الشفا» [(1119)] وساقه بإسناد صحيح، والسيد السمهودي في وفاء الوفا [(1120)]، والقسطلاني في المواهب اللدنية [(1121)]، وابن حجر الهيتمي في الجوهر المنظَّم [(1122)]، وغيرهم [(1123)].
وقد روى البيهقي في دلائل النبوّة [(1124)] عن عمر رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما اقترف ءادم الخطيئة قال يا رب أسألك بحقّ محمد إلا ما غفرتَ لي، فقال الله عزَّ وجلَّ يا ءادم كيف عرفت محمدًا ولم أخلقه، قال لأنك يا ربُّ لما خلقتني بيدك [(1125)] ونفخت فيَّ من روحك [(1126)] رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبًا لا إله إلا الله محمّد رسول الله، فعلمتُ أنك لم تُضف إلى اسمك إلا أحبَّ الخلق إليك» الحديث، ورواهُ الحاكم [(1127)] وصحَّحه، ووصفه السبكي بأنه جيد [(1128)]، وأخرجه الطبرانيُّ في الأوسط [(1129)] والصغير [(1130)].
وروى البخاري في كتاب الأدب المفرد [(1131)] عن عبد الرحمن بن سعد قال «خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل اذكر أحبّ الناس إليك فقال يا محمدُ، فذهب خدر رجله» اهـ. وفي كتاب «الحكايات المنثورة» للحافظ الضياء المقدسي الحنبلي أنه سمع الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي يقول «إنه خرج في عَضُدِهِ شىء يشبه الدُّمَّل فأعيته مداواته، ثم مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم يعد إليه» اهـ وهذا الكتاب بخط الحافظ المذكور محفوظ بظاهرية دمشق [(1132)].
وأخرج أحمد في المسند [(1133)] بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن حجر [(1134)] أن الحرثَ بن حسان البكري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم «أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد». ولفظ الحديث كما في مسند أحمد: حدّثنا عبد الله حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب قال حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي قال ثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحرث بن يزيد البكري [(1135)] قال خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالرَّبَذة فإذا عجوز من بني تميم مُنْقَطَع بها فقالت لي يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة فهل أنت مبلغي إليه. قال فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجدُ غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق وبلال متقلّد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت ما شأن الناس، قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجهًا، قال فجلست، قال فدخل منزله أو قال رحله فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فسلّمت فقال «هل كان بينكم وبين بني تميم شىء»، قال فقلت نعم، قال وكانت لنا الدَّبَرَة [(1136)] عليهم ومررتُ بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب فأذن لها فدخلت، فقلتُ يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزًا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت قالت يا رسول الله فإلى أين تضطر مضرك.
قال قلت إنما مثلي ما قال الأول مِعزاء حملت حتفها، حملتُ هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصمًا، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد، قال «هيه وما وافد عاد» – وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه – قلت إن عادًا قُحِطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له قَيْل فمرّ بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرًا يسقيه خمرًا وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة فنادى اللَّهمَّ إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويَه ولا إلى أسير فأفاديَه، اللَّهمَّ اسق عادًا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها خذها رمادًا رِمدِدًا لا تبقي من عاد أحدًا، قال فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا. قال أبو وائل وصدق، قال فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا لا تكن كوافد عاد» اهـ.
فماذا يقول هؤلاء الجاعلون التوسّل بالنبيّ شركًا في إيراد أحمد ابن حنبل لهذا الحديث أيجعلونه مقررًا للشرك أم ماذا يقولون؟ قال ابن الحاج المالكي المعروف بإنكاره للبدع في كتابه «المدخل» [(1137)] ما نصُّه: «فالتوسّل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب إذ أنها أعظم من الجميع فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيّه عليه الصلاة والسلام مَنْ لم يزره، اللّهمّ لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك. ءامين يا رب العالمين. ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم، ألم يسمع قول الله عز وجل ﴿… وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا *﴾ [سورة النساء] فمن جاءه ووقف ببابه وتوسَّل به وجد الله توابًا رحيمًا، لأن الله عزّ وجلّ منزَّه عن خُلْف الميعاد وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه فهذا لا يَشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، نعوذ بالله من الحرمان» انتهى كلام ابن الحاج.
فإن قيل: أليس في حديث ابن عبّاس الذي رواه الترمذي [(1138)] «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» ما يدلّ على عدم جواز التوسّل بغير الله؟
فالجواب: أن هذا ليس فيه معارضة ما ذكرنا إذ إن المتوسّل يسأل الله، والحديث ليس معناه لا تسأل غير الله ولا تستعن بغير الله، إنما معناه أن الأولى بأن يُسأل ويُستعان به هو الله تعالى، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لا تصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكلْ طعامك إلا تقيّ» رواه ابن حبّان وصححه [(1139)]، فكما لا يفهم من هذا الحديث عدم جواز صحبة غير المؤمن وعدم جواز إطعام غير التقيّ وإنما يُفهم منه أن الأولى بالصحبة المؤمن وبالإِطعام التقي، كذلك حديث ابن عباس لا يُفهم منه إلا الأولوية، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لا تسأل غير الله ولا تستعن بغير الله. أليس هناك فرق بين أن يُقال لا تسأل غير الله وبين أن يُقال إذا سألت فاسأل الله؟
ـ[1067] شعب الإيمان (1/ 445).
ـ[1068] المدخل إلى الإكليل (ص/4).
ـ[1069] دلائل النبوة (7/ 47)، وصحح إسناده ابن كثير في كتابه البداية والنهاية (7/ 92).
ـ[1070] يعني أعمل جهدي ولا أُقَصّر.
ـ[1071] رواه سيف في الفتوح كما في فتح الباري (2/ 496).
ـ[1072] المعجم الكبير (9/ 30 – 31)، المعجم الصغير (ص/201 – 202).
ـ[1073] أي بعد الفراغ من الصلاة.
ـ[1074] شرح نخبة الفكر (ص/14)، تدريب الراوي (ص/15).
ـ[1075] فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 371).ـ[1076] فيض القدير (2/ 134).
ـ[1077] شفاء السقام (ص/160 – 161).
ـ[1078] صحيح البخاري: كتاب البيوع: باب إذا اشترى شيئًا لغيره بغير إذنه فرضي.
ـ[1079] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (كتاب الرقاق): باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال.
ـ[1080] الغَبوق: شُرب ءاخر النهار مقابل الصَّبُوح، النهاية في غريب الحديث (3/ 341).
ـ[1081] و [(1302)] الإنصاف (2/ 456).
ـ[1082] إتحاف السادة المتقين (10/ 130).
ـ[1083] انظر السير للذهبي (5/ 365)، تهذيب الكمال للحافظ المزي (13/ 186).
ـ[1084] فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 382).
ـ[1085] انظر حياة الأنبياء بعد وفاتهم (ص/27 و28).
ـ[1086] قال النووي في شرح مسلم (2/ 228 – 229) نقلاً عن القاضي عياض: «فإن قيل كيف يحجون ويلبون وهم أموات وهم في الدار الآخرة وليست دار عمل فاعلم أن للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة. أحدها أنهم كالشهداء بل هم أفضل منهم والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما ورد في الحديث الآخر وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل حتى إذا فنيت مدتها وتعقبتها الآخرة التي هي دار الجزاء انقطع= = العمل. الوجه الثاني أن عمل الآخرة ذكر ودعاء قال الله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ … *} [سورة يونس]. الوجه الثالث أن تكون هذه رؤية منام في غير ليلة الإسراء أو في بعض ليلة الإسراء كما قال في رواية ابن عمر رضي الله عنهما بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة وذكر الحديث في قصة عيسى صلى الله عليه وسلم. الوجه الرابع أنه صلى الله عليه وسلم أري أحوالهم التي كانت في حياتهم ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا وكيف حجهم وتلبيتهم كما قال صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى موسى وكأني أنظر إلى عيسى وكأني أنظر إلى يونس عليهم السلام. الوجه الخامس أن يكون أخبر عما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم رؤية عين هذا ءاخر كلام القاضي عياض رحمه الله والله أعلم» اهـ، وانظر السيرة الحلبية (2/ 433).
ـ[1087] فتح الباري (2/ 497).
ـ[1088] أي ابن حجر العسقلاني.
ـ[1089] فتح الباري (2/ 497).
ـ[1090] مستدرك الحاكم، كتاب معرفة الصحابة (3/ 334) من حديث داود بن عطاء المدني عن زيد بن أسلم عن ابن عمر. قال الذهبي في التلخيص: هو في جزء البانياسي بعلو، وصح نحوه من حديث أنس، فأما داود فمتروك. قلت: تابعه عليه هشام بن سعد أخرجه البلاذري (أنساب الأشراف القسم الثالث – ص6) من طريقه عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر، انظر الفتح (2/ 497).
ـ[1091] طرح التثريب (3/ 303).
ـ[1092] وهو حنبلي مشهور بذلك.
ـ[1093] شفاء السقام (ص/160).
ـ[1094] هو محمد زاهد الكوثري، انظر كتابه السيف الصقيل (ص/158).
ـ[1095] السيف الصقيل (ص/158 – 159).
ـ[1096] رواه ابن ماجه في سننه: كتاب المساجد والجماعات: باب المشي إلى الصلاة، وأحمد في مسنده (3/ 21)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/ 166): «لكن رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق فضيل بن مرزوق فهو صحيح عنده».
ـ[1097] نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار (1/ 268).
ـ[1098] تاريخ بغداد (1/ 120).
ـ[1099] تاريخ بغداد (1/ 122 – 123).
ـ[1100] أي موسى الكاظم.
ـ[1101] تاريخ بغداد (1/ 123 – 125).
ـ[1102] النذر للأولياء من أهل القبور كالأوزاعي والسيدة زينب إن كان هذا النذر بنية التقرب إلى الله بالتصدق عن روح الأوزاعي مع نية أن يقضي الله حاجته فلا بأس به، فإن كان النذر شاة مثلاً ينوي أن يُطعم لحمها للفقراء الذين هناك أو الخادم الذي يرعى المقام مع نية أن يقضي الله حاجته هذا لا بأس به، وأما إذا كان لم يخطر بباله التقرب إلى الله وإنما يعتقد أن هذا الولي بخصوصية له تنقضي الحاجات فيعمل نذرًا له للتقرب له من غير أن يقصد التقرب إلى الله بالصدقة عنه فهذا نوع من أنواع الشرك.
ـ[1103] نقله عنه صاحب كتاب وفيات الأعيان (6/ 394).
ـ[1104] بُليدة حصينة من نواحي نيسابور، معجم البلدان (1/ 177).
ـ[1105] الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/ 92 – 93).
ـ[1106] وفاء الوفا (4/ 1376).
ـ[1107] المواهب اللدنية (4/ 589 – 590).
ـ[1108] الجوهر المنظم (ص/113).
ـ[1109] شفاء السقام (ص/69 و154 – 155).
ـ[1110] دلائل النبوة (5/ 489).
ـ[1111] أي بعنايتك.
ـ[1112] أي نفخ الملَكُ فيَّ الروحَ المشرفة عندك.
ـ[1113] مستدرك الحاكم، كتاب التاريخ (2/ 615).
ـ[1114] انظر شفاء السقام (ص163).
ـ[1115] عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 253) وقال: «وفيه من لم أعرفهم».
ـ[1116] المعجم الصغير (ص355).
ـ[1117] الأدب المفرد (ص324).
ـ[1118] تحت رقم (مجموع 98) حديث.
ـ[1119] مسند أحمد (3/ 482).
ـ[1120] فتح الباري (8/ 579).
ـ[1121] الحرث بن حسّان البكري ويسمى الحرث بن يزيد البكري كما في الإصابة للحافظ ابن حجر العسقلاني (1/ 277).
ـ[1122] أي الغلبة.
ـ[1123] المدخل (1/ 259 – 260).
ـ[1124] جامع الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: باب (59). وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح».
ـ[1125] صحيح ابن حبان: كتاب البر والإحسان: باب الصحبة والمجالسة، انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/ 383، و385).
ـ[1126] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق: باب ما جاء في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … *} [سورة الروم]، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص/375).
ـ[1127] صحيح البخاري: كتاب التوحيد: باب وكان عرشه على الماء.
ـ[1128] الأسماء والصفات (ص/231).
ـ[1129] رواه البخاري في صحيحه: كتاب التوحيد: باب (قل أي شىء أكبر شهادة قل الله).
ـ[1130] فتح الباري (13/ 410).
ـ[1131] فتح الباري (6/ 289).
ـ[1132] أي راوي رواية كتاب «التوحيد»: «كان الله ولم يكن شىء قبله».
ـ[1133] عزاه في الإصابة (3/ 544) لابن شاهين في الصحابة.
ـ[1134] صحيح مسلم: كتاب القدر: باب حجاج ءادم وموسى.
ـ[1135] رواه أحمد في مسنده (2/ 323)، والحاكم في المستدرك (4/ 160) وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص/380)، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 16): «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح خلا أبي ميمونة وهو ثقة»، وقال الحافظ في فتح الباري (5/ 29): «إسناده صحيح».
ـ[1136] صحيح ابن حبان: كتاب الصلاة: فصل في قيام الليل، راجع الإحسان (4/ 115).
ـ[1137] فتح الباري (6/ 289).
ـ[1138] سنن الترمذي: كتاب التفسير: باب ومن سورة ن (3319)، قال الترمذي: «حديث حسن»، ورواه أحمد في مسنده (5/ 317).
ـ[1139] فتح الباري (6/ 289).