الخميس مارس 28, 2024

الرد على من زعم أن سليمان عليه السلام
هو الذي علم الناس السحر

قال القرطبيّ في تفسيره ما نصّه: «قال محمد بن إسحاق: لـمَّا ذكر رسول الله ﷺ سليمان في المرسلين، قال بعض أحبارهم: يزعم محمد أن ابن داود كان نبيًّا، والله ما كان إلا ساحرًا، فأنزل الله سبحانه وتعالى:{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102]، أي: ألقت إلى بني آدم أنَّ ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحرًا. وقال الكلبيّ([1]): كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات – أي: التلبيس والشعوذة – على لسان آصف([2]) كاتب سليمان (كما زعموا)، ودفنوه تحت مصلاه» ثم قال: «فلمَّـا مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس: إنما مَلَكَكُم بهذا فتعلَّموه، فأما علماء بني إسرائيل – أي: المؤمنون المسلمون – فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان، وأما السفلة فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمدًا ﷺ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ على نبيّه عذر سليمان وأظهر براءته مما رُمي به فقال سبحانه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102]»([3]).اهـ.

وقال أيضًا في تفسير هاتين الآيتين: إن فيهما أربعًا وعشرين مسألة، منها: «الثامنة: قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضو إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. قالوا: ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوّات والخوخات والانتصاب على رأس قصبة، والجري على خيط مستدق، والطيران في الهواء والمشي على الماء وركوب كلب وغير ذلك. ومع ذلك فلا يكون السحر موجبًا لذلك، ولا علة لوقوعه ولا سببًا مولّدًا، ولا يكون الساحر مستقلًّا به، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والرّيَّ عند شرب الماء»([4]).اهـ.

ثم قال: «العاشرة: في الفرق بين السحر والمعجزة، قال علماؤنا: السحر يوجد من الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد. والمعجزة لا يمكّن اللهُ أحدًا – أي: من غير الأنبياء – أن يأتي بمثلها وبمعارضتها، ثم الساحر لم يدَّعِ النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدّي بها»([5]).اهـ.

[1])) هشام بن محمد أبي النضر بن السائب بن بشر الكلبيّ (ت204هـ)، أبو المنذر، مؤرخ عالم بالأنساب وأخبار العرب وأيامها كأبيه، كثير التصانيف. من أهل الكوفة، ووفاته فيها. له نيف ومائة وخمسون كتابًا، منها: (جمهرة الأنساب)، و(الأصنام)، و(افتراق العرب)، و(الموءودات)، و(أسواق العرب). الأعلام، الزركلي، (8/87، 88).

[2])) «قال الزبيدي: آصَف كهاجَر، قال الليث: هو كاتب سليمان صلوات الله عليه دعا بالاسم الأعظم فرأى سليمان العرش مستقرًّا عنده، قلت وهو ابن برخيا بن أشمويل كما أفاده بعض أصحابنا».اهـ. تاج العروس، الزبيدي، (23/20).

[3])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (2/41، 42).

[4])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (2/46، 47).

[5])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (2/47). وليس من شرط المعجزة أن تكون مقرونة بالتحدي وإنما من شرطها أن تكون صالحة للتحدي، فما كان من الأمور عجيبًا ولم يكن خارقًا للعادة فليس بمعجزة، وكذلك ما كان خارقًا لكنّه لم يقترن بدعوى النبوة كالخوارق التي تظهر على أيدي الأولياء أتباع الأنبياء فإنه ليس بمعجزة لهم بل يسمى كرامة، وقد تقدم.