الأحد يونيو 16, 2024

الدرس السابع والعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

الردُّ على أهل الوَحدة المطلقة

هذه رسالة أملاها الشيخُ المحدثُ عبد الله بن محمّد الهرري الحبشي على الشيخ الفقيه النحويّ أبي سليمان سهل بن الزبِيبيّ الدمشقي وهيَ موجهة إلى رجل فرنسي اسمه عبد الله بونو درس إلى الصف الرابع في المدرسة الدينية التي كان يدرّس فيها أبو سليمان في دمشق. وهذا نص الرسالة:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى ءاله وصحبه. من أبي سليمان الزبيبي إلى عبد الله حفظه الله.

أما بعد فقد بلغني أنك ترجمت كتاب المواقف للأمير عبد القادر الجزائري وفيه ما فيه من عقيدة الوَحدة المطلقة فإنني أحذرك من هذه العقيدة وهيَ مخالفةٌ لعقيدة أئمة الصوفية الصادقين كما هو مُبيَّنٌ بالنقل عنهم في رسالة القشيريّ وغيرها وكما صرح بذلك الكلاباذيُّ في التعرُّف وهو من قدمائهم وكما صرح به أيضًا السيدُ أحمد الرفاعيُّ وليُّ الله بلا خلاف وغيرُهُما من متقدمين ومتأخرين. وما هو مذكور في كتاب الفتوحات المكية من عبارات الوَحدة المطلقة مدسوس على الشيخ مُحيي الدين كما بيَّنَ ذلك الشعرانيُّ وغيره. فإن كنتَ دعوتَ إلى هذه العقيدة فعليك بالتوبة منها بالرجوع إلى الإسلام فإنَّ الله تعالى ذمَّ مَنْ جعلَ له أجزاءً فقال: ﴿وجَعَلُوا لهُ من عبادِهِ جُزْءًا([i]) ومَن زعم أن العالـمَ هو الله فقد ضاهَى النصارى الذين زعموا أن عيسى تجسُّدٌ لله تعالى ونسبَ الغيُّرَ والتَّجَرُّؤَ لربّ العزة بل أجاز عليه سبحانه الضعفَ والتعبَ وغيرَ ذلك من صفات النقصان. ولله درُّ صوفيّ عصرِه بهاء الدين الرواس القائل:

دَعْ وَهْمَ أهلِ الوَحدةِ المطلقةْ
كلُّ اتحادٍ حُكْمُهُ باطلٌ
مَنْ غيَّرَ الأيامُ أحوالَهْ
ثمَّ حَنَتْهُ ثم طاحَتْ به
ومَنْ كلَّ حينٍ كُلُّهُ حاجةٌ  
يبُولُ مقهُورًا تلوَى بهِ
يكونُ عينَ اللهِ جلَّ اسمُهُ
ما وحَّدَ اللهَ تعالى امرؤٌ

 

وافهمْ رُمُوزَ الجمعِ والتَّفْرِقَةْ
وشاهدُ الظاهرِ قد مزَّقَهْ
وشَيَّبَتْ رُغْمًا له مَفْرِقَهْ
تحتَ الثَّرَى في حُفرةٍ مغلقةْ
لِأَكْلِهِ والخُبزِ والـمِلعَقَةْ
في نَومِهِ جُثَّتُهُ الـمُعَرَّقَةْ
حاشا وذا مِنْ دَنَسِ الزَّنْدَقَةْ
معتقدٌ بالوَحدةِ الـمُطلَقَةْ اهـ.

بل يكفي من له لُبٌّ قولُ الله تعالى: ﴿الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ([ii]) فإنه عز وجل أثبت به وجودَ ذاته ووجودَ غيرِه الذي هو العالَمُ وأنه تعالى هو الربُّ والعبيدَ هم المربوبونَ ومَنْ لم يفرق بين الرب والمربوب ويزعُمُ أنَّ الخالقَ هو المخلوق فلم يعرف اللهَ تعالى ولم يُوَحّدْهُ ولم يفهم صريحَ القرءان الذي لا يجهلُ معناه عاميٌّ ولا عالمٌ من المسلمين.

وانتساب قسم من الشاذليةِ إلى هذه العقيدة أي عقيدة الوَحدة المطلقة لا يشهد على صحتها فإنَّ هذا مخالف لعقيدة أبي الحسن الشاذليّ إذ لا تثبت هذه العقيدة عنه كما لا يثبت عنه الذكرُ بآه ونحوها مما فيه تحريف لاسم الله تعالى. بل نصَّ شيخ الأزهر سليم البشريُّ على عدم جواز الذكر بآه إذ إنّ ءاه لفظٌ موضوع للشكاية والتوجعِ ولا يدل على الكمال. ولا يجوز تسمية الله تعالى باسم غير دالٍّ على الكمال كما قال ربنا تعالى: ﴿وللهِ الأسماءُ الحُسْنَى فادْعُوهُ بها وذَرُوا الذينَ يُلحِدُونَ في أسمائِهِ([iii]) وءاه ليس دالاًّ على الحُسْنِ بالإجماعِ بل هذا اللفظُ وضعه العرب للشكاية والتوجع. قال الأبوصيريُّ الذي هو من تلاميذ أبي العباس المرسي:

ءاهٍ مِمَّا جنيتُ إنْ كان يُغني

 

ألِفٌ من عظيم ذنبٍ وهاءُ اهـ

ويكفي أنَّ المذاهب الأربعة اتفقوا على أنَّ الأنين يفسد الصلاة لكون ءاه ليست ذكرًا لله. وارجع إلى سادة الصوفية وأئمتهم كالإمام الجنيد الذي قال التوحيد إفراد القديم من المحدث اهـ وهو الذي قال الطريق إلى الله مسدودةُ إلا على الـمُقتفين ءاثارَ رسول الله اهـ.

وخذ بالحديث الصحيح الذي رواه الترمذيُّ والحافظُ المجتهد ابن المنذر: إذا تثاءبَ أحدُكم فلْيَضَعْ يدَهُ على فِيهِ ولا يَقُلْ ءاه ءاه فإنَّ الشيطانَ يضحكُ منه([iv]) اهـ ولا يغُرَّنَّكَ قولُ شارح الجامع الصغير العزيزيّ قال شيخنا حديث الأنين اسم من أسماء الله حديثٌ حسنٌ لغيره اهـ فإنَّ العزيزيَّ وشيخَهُ ليسا منَ الـمُحدّثين ليس لهما ذكر في طبقات المحدّثين. ثم هذا الحديث ليس فيه ءاه اسم من أسماء الله وإنما فيه الأنين والأنين في كتب اللغة عشرون كلمة منها أَهْ ومنها ءاه ومنها أوَّتاه إلى ءاخرِ ما ذكره الفقيه اللغويُّ شارح القاموس مرتضى الزبيديُّ. فمن أين لهؤلاء قولهم ءاه اسم من أسماء الله وليس في هذا الحديث الضعيف لفظ ءاه إنما فيه الأنين. وهذا الحديث الضعيف يجعل من تلك العشرين كلمة للأنين أسماء الله فكيف اخترتم من بين العشرين ءاه وأين الدليل على ذلك.

ننصحك لله أن ترجع عن هذا وتعتقد عقيدة أهل السنة أنَّ الله لا يحُلُّ في العالم ولا يحل العالم فيه ولا هو متصلٌ بالعالم ولا منفصل عنه ولا يقال موجود في داخل العالم ولا موجود خارجَ العالم.

ويا سخافة عقول من يعتقد أن الله حالٌّ في البشر والبشرُ معروفٌ أنَّ جوفه فيه القذرُ وفيه الدم والرطوباتُ القبيحة، فالله تعالى لا يجوز أن يحل في الملائكة الذين خُلقوا من نورٍ ليس فيهم شيء من القاذورات فكيف في البشر.

وإياك أن تقتديَ بالحلّاج وأمثاله من الذين انحرفوا عن دين الله ثم أُخِذَ بسيف الشرع فقُتِلَ وأخذه الخليفة المقتدر بالله فقطع يديه ورجليه ثم قطع رأسه وأحرق جثته وذرَّ رمادَهُ في نهر دجلة.

قال الإمام الـمُحدث الصوفيُّ أبو عبد الرحمن السُّلَميُّ في كتابه طبقات الصوفية الذي ذكرَ فيه ألفَ صوفيّ إنَّ الحلاج نفاه أكثرُ الصوفية ولم يعدوه منهم والذينَ عدُّوه منهم وهم أربعة في ذلك العصر اعتبروه غائبَ العقل عندما تكلم بكلمات الوَحدة المطلقة. وقد روى الترمذيُّ وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّ اللهَ لا يجمَعُ أمَّتي على ضلالةٍ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ في النار([v]) اهـ ولا تنظر إلى أنه اتَّبعك عددٌ كثيرٌ من الناس فإنك لا بُدَّ تفارقَهُم وتمكثُ في القبر وحيدًا ثم تحشر يوم القيامة وَحْدَكَ وكذلك كلُّ فرد ممن هم اليوم مجتمعون عليك يكون وحيدًا في قبره ويُحشَرُ وحده. وبالله التوفيق اهـ.

انتهى والله سبحانه وتعالى أعلم

[i])) سورة الزخرف/الآية 15.

[ii])) سورة الفاتحة/الآية 2.

[iii])) سورة الأعراف/الآية 180.

[iv])) رواه الترمذي في سننه باب ما جاء إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب.

[v])) رواه الترمذي في سننه باب ما جاء في لزوم الجماعة.