الأحد ديسمبر 22, 2024

الخاتمة:

ذكر الحافظ السيوطي في رسالته [226] “المنحة في السبحة” جماعة ممن اتخذوا أو ما في معناها:

* منهم صفية: فقد أخرج حديثها الترمذي والحاكم والطبراني.

واخرج أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي في “عمل اليوم والليلة”، وابن حبان والحاكم وصححاه [227] من حديث سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح بهن، الحديث، وقد تقدم في هذه الرسالة تحسين الحديث عن الحافظ ابن حجر أيضًا.

* ومنهم أبو صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم: ذكره البغوي في “معجم الصحابة”، وابن عساكر في تاريخه، والإمام أحمد في “الزهد”، و”الجامع في العلل ومعرفة الرجال” [228]، قال الإمام أحمد: “حدثنا عفان، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا يونس بن عبيد، عن أمه قالت: رأيت أبا صفية رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان جارنا ها هنا فكان إذا أصبح يسبح بالحصى” ا.هـ.

قال البخاري في كتابه “التاريخ الكبير” في باب الكنى ما نصه [229]: “أبو صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم، روى عنه نُبَيْه. قال عبد الله بن أبي الأسود: حدثني المعلى بن الأعلم، وكان سعيد بن عامر يروي عنه، قال: سمعت يونس بن عبيد يقول لأمه: ما رأيت أبا صفية يصنع؟ قالت: رأيت أبا صفية وكان من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسبح بالنوى” ا.هـ.

والمعلى بن الأعلم هذا ذكره البخاري في تاريخه [230]، وذكر أيضًا أنه يروي عن أم يونس ابن عبيد، وهذا يفيد أن لأم يونس راوٍ ءاخر عنها غير ابنها.

وقال الحافظ ابن أبي حاتم في كتابه “الجرح والتعديل” ما نصه [231]: “أبو صفية رجل من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح بالنوى. روى يونس بن عبيد عن أمه عنه” ا.هـ.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر وابن عبد البر وابن الأثير وابن سعد [232] وغيرهم أبا صفية في عداد الصحابة مستدلين برواية أم يونس التي فيها ذكر التسبيح بالحصى من غير إنكار منهم، فهذا يدل على ثبوت رواية أم يونس عندهم، لذلك قال الحافظ ابن سيد الناس [233] عند ذكر موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نصه: “وأبو صفية، وكان يسبح بالنوى” ا.هـ.

ثم رأيت عند الحافظ البيهقي في كتابه “شعب الإيمان” [234] متابعة لأم يونس، فقد روينا بالإسناد المتصل إلى الحافظ البيهقي أنه قال: “أخبرنا أبو الفتح هلال بن محمد بن جعفر، أنا الحسين بن يحيى بن عياش، ثنا أبو الأشعث، ثنا المعتمر بن سليمان، ثنا أبو كعب، عن جده بقية، عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوضع له نطع ويؤتى بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النها ثم يرفع، فإذا صلى الأولى أتي به فيسبح به حتى يمسي” ا.هـ.

ونقله ابن كثير في تاريخه [235] عن البغوي، فقال: “قال أبو القاسم البغوي: ثنا أحمد بن المقدام، ثنا معتمر، ثنا أبو كعب، عن جده بقية، عن أبي صفية…” وذكره مثل رواية البيهقي.

 

ورواة هذا الأثر ثقات معروفون غير بقية جد أبي كعب، وهم:

 

– أبو الفتح هلال بن محمد: قال عنه الذهبي في “السير” [236]: “الشيخ الصدوق مسند بغداد، سمع من الحسين بن يحيى بن عياش القطان صاحب أحمد بن المقدام العجلي. وحدث عنه: أبو بكر الخطيب، وأبو بكر البيهقي” ا.هـ. وقال الحافظ أبو بكر الخطيب [237]: “كتبنا عنه وكان صدوقًا” ا.هـ.

– الحسين بن يحيى: قال عنه الذهبي في “السير” [238]: “الشيخ المحدث الثقة مسند بغداد، وثقه القواس” انتهى باختصار.

 وقال الحافظ أبو بكر الخطيب [239]: “سمع أبا الأشعث أحمد ابن المقدام، وحدثني الحسن بن أبي طالب أن يوسف القواس ذكره في جملة شيوخه الثقات” انتهى باختصار.

– أبو الأشعث: وهو أحمد بن المقدام، قال عنه الحافظ ابن حجر في “التقريب” [240]: “صدوق، صاحب حديث طعن أبو داود في مروءته” ا.هـ وقال الحافظ أيضًا في “مقدمة الفتح” [241]: “وتعقب ابن عدي كلام أبي داود هذا فقال: لا يؤثر ذلك فيه لأنه من أهل الصدق” ا.هـ، ووافقه الحافظ على ذلك ثم قال: “احتج به البخاري والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه وغيرهم” ا.هـ. وقال الحافظ في التهذيب [242]: “أحمد بن المقدام أبو الأشعث البصري، روى عن معتمر بن سليمان وطائفة وعنه البغوي والحسين بن يحيى بن عياش القطان خاتمة أصحابه” انتهى باختصار.

– معتمر بن سليمان: قال عنه الحافظ في “التقريب” [243]: “ثقة من كبار التاسعة” ا.هـ، وهو الذي يروي عن أبي كعب كما سيأتي إن شاء الله. ويروي عنه أبو الأشعث أحمد بن المقدام كما تقدم.

– أبو كعب وهو عبد ربه بن عبيد: قال عنه الحافظ في “التقريب” [244]: “عبد ربه بن عبيد الأزدي مولاهم أبو كعب صاحب الحرير، ثقة، من السابعة” ا.هـ. وذكر في “التهذيب” [245] من الرواة عنه معتمر بن سليمان.

– بقية جد أبي كعب الراوي عنه والذي روى عن أبي صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم، فهو على هذا من التابعين.

 

فتحصل عندنا روايتان عن أبي صفية:

الأولى: رواية أن يونس، والرواة إليها ثقات.

الثانية: رواية بقية، والرواة إليه ثقات أيضًا.

وبذلك يكون أثر أبي صفية ثابتًا عنه لا ينكره إلا مكابر أو معاند أو جاهل بعلم الحديث، فماذا يقول الألباني بعد ذلك!!

 

* ومنهم سعد بن أبي وقاص: قال ابن سعد في طبقاته [246] ما نصه: “أخبرنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان، عن حكيم بن الديلمي أن سعدًا كان يسبح بالحصى” ا.هـ، ورواته ثقات معروفون، غير أن ابن الديلمي لم يدرك سعدًا، فقد ذكره الحافظ ابن حجر في “التقريب” [247] في الطبقة السادسة وهي الطبقة التي لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة كما نص على ذلك الحافظ أيضًا في مقدمة “التقريب” [248]. وروى هذا الأثر ابن أبي شيبة في مصنفه موصولاً، فقال [249]: “حدثنا يحيى بن سعد، عن سفيان، عن حكيم بن الديلمي، عن مولاة لسعد أن سعدًا كان يسبح بالحصى والنوى” ا.هـ.

 

* ومنهم أبو هريرة كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، ذكره عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وذكره الذهبي في “تذكرة الحفاظ” و”السير” [250]، ورواه الحافظ أبو نعيم في “الحلية” [251] فقال: “حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا الحسن بن الصباح، ثنا زيد بن الحباب، عن عبد الواحد بن موسى، قال: أخبرني نعيم بن المحرر بن أبي هريرة، عن جده أبي هريرة أنه كان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به”. ومما يقول ذلك ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يستغفر الله كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، وقد مر تصحيح الحافظ لهذا الأثر.

فعُلم من ذلك أن الصحابي الجليل أبا هريرة رضي الله عنه كان يستعمل هذا الخيط الذي فيه ألفا عقدة لضبط عدد التسبيح، الذي اتخذه وردًا يذكره كل يوم، وهذا هو شأن الصالحين الذين يكثرون من ذكر الله تعالى بأعداد محصورة بالمئات والآلاف يواظبون على ذلك، في حين أنك تبدع كل من يلزم مثل هذا العدد لأنك تعتبر ذلك من البدع الضالة والعياذ بالله تعالى، ولقد قيل: “من أمَّر السنة على نفسه نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى نطق بالبدعة”.

وكذلك يروى عن أبي هريرة أنه كان يسبح بالنوى أو الحصى، فقد روى أبو داود في سننه، والإمام أحمد في مسنده [252] عن أبي نضرة قال: حدثني شيخ من طُفاوة قال: تثوَّيتُ [253] أبا هريرة بالمدينة فلم أرَ رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد تشميرًا ولا أقوم على ضيف منه، فبينما أنا عنده يومًا وهو على سرير له ومعه كيس فيه حصًى أو نوى، وأسفل منه جارية له سوداء وهو يسبح بها، حتى إذا نفذ ما في الكيس ألقاه إليها، فجمعته فأعادته في الكيس..” ا.هـ.

 

* ومنهم أبو الدرداء، ذكره الإمام أحمد في الزهد رواه عنه ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل فقال ما نصه [254]: “حدثني أبي، حدثنا مسكين بن بكير، أنبأنا ثابت بن عجلان، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان لأبي الدرداء نوى من نوى العجوة حسبت عشرًا أو نحوها في كيس، وكان إذا صلى الغداة أقعى على فراشه فأخذ الكيس فأخرجهن واحدة واحدة يسبح بهن، فإذا نفدن أعادهن واحدة واحدة، كل ذلك يسبح بهن، قال: حتى تأتيه أم الدرداء فتقول: يا أبا الدرداء إن غداءك قد حضر فربما قال ارفعوه فإني صائم” ا.هـ.

 

* ومنهم أبو سعيد الخدري، ذكره ابن أبي شيبة [255].

 

* ومنهم أبو مسلم الخولاني، ذكره أبو القاسم الطبري.

 

* ومنهم الإمام الجنيد البغدادي، ذكره ابن خلكان في “وفيات الأعيان” [256]، والخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” [257]، وقال ما نصه: “أخبرنا عبد الكريم بن هوزان، قال: سمعت أبا علي الحسن بن علي الدقاق يقول: رُؤي في يد الجنيد سبحة فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟ فقال: طريق به وصلت إلى ربي لا أفارقه” ا.هـ.

وفي كتاب “الغنية” فهرسة شيوخ القاضي عياض [258] قال القاضي عياض ما نصه: “وأخبرنا رحمه الله فيما كتبه لنا قال: سمعت أبا عمرو بن علوان وقد رأيت في يده بحة فقلت: يا أستاذ مع عظيم إشارتك وسني عبارتك وأنت مع السبحة فقال لي: كذا رأيتُ الجنيد بن محمد وفي يده سبحة فسألته عما سألتني عنه فقال لي: كذا رأيت أستاذي بشر بن الحارث وفي يده سبحة فسألته عما سألتني عنه فقال لي: كذا رأيت عامر بن شعيب وفي يده سبحة فسألته عما سألتني عنه فقال لي: كذا رأيت أستاذي الحسن بن أبي الحسن البصري وفي يده سبحة فسألته عما سألتني عنه فقال لي: يا بني هذا شيء كنا استعملناه في البدايات ما كنا بالذي نتركه في النهايات، أحبُّ أن أذكر الله تعالى بقلبي ويدي ولساني” ا.هـ.

قال الحافظ السيوطي في رسالته: “المنحة في السبحة” ما نصه: “ولم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عدّ الذكر بالسبحة بل كان أكثرهم يعدونه بها ولا يرون ذلك مكروهًا” ا.هـ.

ونقل ابن علان في شرح الأذكار [259] عن ابن حجر الهيتمي في شرح المشكاة عند شرح حديث سعد السابق ما نصه: “وهذا أصل صحيح بتجويز السبحة بتقريره صلى الله عليه وسلم –الحصى- فإنه في معناها إذ لا فرق بين المنظومة والمنثورة فيما يعد به، ولا يُعتد بقول من عدها بدعة” ا.هـ.

ثم قال ابن علان: “وقد أفردت السبحة بجزء لطيف سميته “إيقاد المصابيح لمشروعية اتخاذ المسابيح” وحاصل ذلك أن استعمالها في أعداد الأذكار الكثيرة التي يُلْهى الاشتغال بها عن التوجه للذكر أفضل من العقد بالأنامل ونحوه، والعقد بالأنامل فيما لا يحصل فيه ذلك سيما الأذكار عقب الصلاة ونحوها أفضل، والله أعلم” ا.هـ.

بقي أن نذكر بعض من استعمل أو قال بجواز استعمالها على سبيل الاختصار لا الحصر لأن معرفة من استعمل السبحة أو ما في معناها من أهل العلم والتقوى والصلاح وغيرهم من المسلمين لا يُحصيهم إلا الله تبارك وتعالى، فمنهم:

 

* الحافظ المحدث المجتهد يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة 198هـ: قال الذهبي في “تذكرة الحفاظ” [260]: “قال ابن معين، وكان له –أي يحيى بن سعيد- سبحة يسبح بها” ا.هـ، وقال أيضًا في كتابه “السير” [261]: “قال ابن معين: وكان يحيى يجيء معه بِمِسْباح فيُدخل يده في ثيابه فيسبح” ا.هـ. ويحيى القطان يقول فيه ابن حبان “كان من سادات أهل زمانه حفظًا وورعًا وعقلاً وفهمًا وفضلاً ودينًا وعلمًا، وهو الذي مهد لأهل العراق رسم الحديث، وأمعن في البحث عن النقل وترك الضعفاء، ومنه تعلم علم الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وسائر شيوخنا” ا.هـ.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في “التهذيب” [262]: “قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: حدثني يحيى القطان وما رأت عيني مثله..، وقال إسحاق بن إبراهيم بن أبي حبيب الشهيد: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند، فيقف بين يديه علي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والشاذكوني وعمرو بن علي يسألونه عن الحديث وهم قيام هيبة له..، وعن يحيى بن معين قال: أقام يحيى القطان عشرين سنة يختم القرءان في كل ليلة، ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة” ا.هـ، فهل تعتبر يا ألباني يحيى بن سعيد القطان أحد أئمة الحديث والجرح والتعديل مرتكبًا لبدعة الضلالة لأنه كان يسبح بالسبحة؟! وهل يُترك عمل وقول أهل الحديث ويؤخذ بكلامك الشاذ، وأنت لا تحفظ عشرة أحاديث بأسانيدها المتصلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.

كما وأن يحيى بن معين لم ينكر على يحيى بن سعيد القطان استعماله السبحة، وهذا يدل على جواز استعمالها عنده أيضًا وإلا لكان أنكر عليه، وهو الذي قال عنه الحافظ ابن حجر [263]: “إمام الجرح والتعديل” ا.هـ.

 

* الحافظ المنذري المتوفى سنة 656هـ، صاحب كتاب “الترغيب والترهيب”، فقد ذكر عن بعض مشايخه الذين سمع منهم أنه كان يسبح بالنوى، فقال ما نصه: “وفي الثاني عشر من شهر ربيع الأول –من سنة ستمائة- توفي الشيخ الصالح أبو الثناء حمد بن ميسرة بن حمد بمصر ودفن من الغد بسفح المقطَّم. سمعت منه وسمع معنا على علو سنه على شيخنا أبي عبد الله محمد بن حمد الأرتاحي. وأمّ بالمسجد المعروف به مدة طويلة. وكان بمسجده كوم من نوى التسبيح” انتهى باختصار [264]، وهذا إقرار من الحافظ المنذري على جواز استعمال السبحة أو النوى في عد التسبيح كما هو معروف عند أهل الحديث.

 

* الحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ: قال الحافظ السخاوي في كتابه “الجواهر والدرر” [265] الذي ترجم فيه لشيخه الحافظ ابن حجر ترجمة واسعة ما نصه: “وكان –أي شيخه الحافظ ابن حجر رحمه الله- إذا جلس مع الجماعة بعد العشاء وغيرها للمذاكرة تكون السبحة داخل كمه بحيث لا يراها أحد، ويستمر يديرها وهو يسبح أو يذكر غالب جلوسه، وربما تسقط من كمه فيتأثر لذلك رغبة في إخفائها” ا.هـ.

وشهرة الحافظ ابن حجر في علم الحديث لا تخفى على أدنى طالب علم، وهو الذي لقب بخاتمة الحفاظ وأمير المؤمنين في الحديث.

 

* وتلميذه الحافظ السخاوي نقل ذلك مقرًا له وموافقًا لجواز استعمال السبحة، وفي ذلك دليل أيضًا على جواز ذكر الله في عدد محصور يستعان بضبطه باستعمال السبحة سواء كان العدد بالمئات أو الآلاف.

وظهر بذلك أن تشنيع الألباني علينا لاتباعنا أهل الحديث في تجويز استعمال السبحة إنما هو تشنيع على أهل الحديث، وظهر أيضًا أننا مع أهل الحديث وأن هذا الرجل هو الذي شذ عنهم وأنكر عليهم استعمالهم للسبحة، بل ذهب إلى أشنع من ذلك حيث ادعى أن اتخاذ السبحة من شعار الكفار [266]، فشتان بين أهل الحديث وبين الألباني المتطفل على الحديث وأهله.

 

* قال الحافظ محي الدين النووي الشافعي المتوفى سنة 676هـ في “تهذيب الأسماء واللغات” ما نصه [267]: “والسبحة بضم السين وإسكان الباء خرز منظومة يسبح بها معروفة تعتادها أهل الخير مأخوذة من التسبيح” ا.هـ.

قلتُ: انظر إلى قوله: “تعتادها أهل الخير” أي يستعملها أهل التقوى والفضل الصلاح وغيرهم وكذلك أولياء الله تعالى يستعملونها، وأما عندك وعند الوهابية فهي من عادة أهل البدع والمشركين.

 

* أبو سعيد عبد السلام بن سعيد بن حبيب المالكي المعروف بسحنون المتوفى سنة 240هـ: قال الذهبي في “السير” [268]: “فقيه المغرب..، وعن إسماعيل بن إبراهيم قال: دخلتُ على سحنون وهو يومئذ قاض وفي عنقه تسبيح يسبح به” ا.هـ.

 

* الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي المالكي الشهير بالخرشي صاحب الحاشية على مختصر خليل المتوفى سنة 1101هـ، قال علي العدوي: “كان له سبحة ألف حبة” [269].

 

* الحافظ المحدث محمد بن طولون الحنفي له رسالة في جواز استعمال السبحة [270] سماها: “الملحة فيما ورد في أصل السبحة” [271].

 

* الشيخ الفقيه محمد أمين بن عمر الشهير بابن عابدين الحنفي المتوفى سنة 1252هـ، قال في حاشيته عند قول صاحب “الدرر المختار”: “فرع: لا بأس باتخاذ المسبحة لغير رياء كما بسط في البحر” ما نصه [272]: “قوله: “لا بأس باتخاذ المسبحة” بكسر الميم ءالة التسبيح، والذي في البحر، والحلية، والخزائن بدون ميم، والمشهور شرعًا إطلاق السبحة بالضم على النافلة، قال في “المغرب” لأنه يسبح فيها. ودليل الجواز ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيح الإسناد عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال: “أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل”، فقال: “سبحان الله عدد ما خلق في السماء..”، فلم ينهها عن ذلك وإنما أرشدها إلى ما هو أيسر وأفضل، ولو كان مكروهًا لبيّن لها ذلك، ولا تزيد السبحة على مضمون هذا الحديث إلا بضم النوى في خيط، ومثل ذلك لا يظهر تأثيره في المنع، فلا جرم أن نقل اتخاذها والعمل بها عن جماعة من الصوفية الأخيار وغيرهم اللهم إلا إذا ترتب عليه رياء وسمعة فلا كلام لنا فيه” ا.هـ، وعلى ذلك مذهب الحنفية فإنهم يجيزون استعمال السبحة وعد الأذكار بها.

 

* وللحافظ السيوطي الشافعي المتوفى سنة 911هـ رسالة في جواز استعمال السبحة سماها: “المنحة في السبحة” وهي مطبوعة ضمن كتابه الحاوي للفتاوي [273].

 

* وكذلك ألف في جواز استعمالها المحدث محمد بن علان الصديقي الشافعي المتوفى سنة 1057هـ حيث قال ما نصه [274]: “وقد أفردت السبحة بجزء لطيف سميته “إيقاد المصابيح لمشروعية اتخاذ المسابيح” ا.هـ.

 

* وقال عصرينا الشيخ عبد الله الغماري رحمه الله تعالى المتوفى سنة 1413هـ ما نصه [275]: “السبحة تضبط الأعداد المأثورة، وللوسائل حكم المقاصد، فالسبحة مشروعة” ا.هـ، وقال أيضًا: “وزعم المبتدع الألباني المتزمت أن الحديث –أي حديث: “نعم المذكر السبحة”- موضوع، وضعّف حديث سعد بن أبي وقاص وحديث صفية. وقد ردّ عليه العلامة الشيخ عبد الله الهرري في كتابه: “التعقب الحثيث على من طعن فيما صح من الحديث” وهو رد جيد متقن، أبطل مزاعمه وبيّن جهله بقواعد أصول الحديث” ا.هـ.

 

* وفي حاشية أبي عبد الله محمد الطالب بن حمدون ما نصه [276]: “للسبحة أصل في الشرع، روى الديلمي في مسند الفردوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “نعم المذكر السبحة”، وروى الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “عليكن فإنهن مسؤولات ومستنطقات”. فإن قلتَ: هذا الحديث إنما فيه الأمر بالعقد بالأنامل لا بالسبحة، فاعلم أن العقد بالأنامل إنما يتيسر في الأذكار القليلة من المائة فدون، أما أهل الأوراد الكثيرة والأذكار المتصلة فلو عدوا بأصابعهم لدخلهم الغلط واستولى عليهم الشغل بالأصابع، قاله الساحل.

وقد صنف الجلال السيوطي فيما يتعلق بها “المنحة في استعمال السبحة” وهي رسالة لطيفة استنبط لها أصلاً من السنة وذكر فيه أن جمعًا من الصحابة منهم عائشة وأبو هريرة وأبو الدرداء كانت لهم السبحة وكذلك جمع من الأولياء كالجنيد والجيلاني ومعروف الكرخي، وللمحدثين حديث مسلسل بمناولة السبحة رويناه عن جماعة من الشيوخ ومنتهاه إلى الحسن البصري، وفي رائية الساحلي في الذكر:

ولابد  يا هذا من أعمال سبحة *** تنظمها وترا فحافظ على الوتر

وإنما استحب أن تكون وترًا لحديث: “إن الله وترٌ يحب الوتر” وحكمتها كما قال الشريف المقدسي: حفظُ عدد الأوراد وتذكيرُ صاحبها عند الفترة، قال: فلو جعلت للخيلاء والرياء حرمت، ولو نظمت في خيط حرير لا للخيلاء فلا حرمة كما لابن الصلاح في فتاويه وجزم به النووي في شرح التهذيب.

وفي السبحة قيل على سبيل اللغز:

ومنظومةُ الشمل يخلو بها اللبيبُ فتجمع في همتهِ

إذا ذكر الله جلَّ اسمُهُ *** عليها تفرق من هيبتهِ

وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه لقوم يذكرون الله: لقد جئتم ببدعة ظلمًا أو لقد فقتم أصحاب محمد علمًا، فالجواب عنه أنه لم يبلغه حديث الترغيب فيها أو أنه أنكر الهيئة ونحوها وإلا فلا يصح إنكاره لهذا الوجه بعد صحة الحديث” انتهى باختصار.

 

* وفي الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي ما نصه [277]: “وسئل رضي الله عنه هل للسبحة أصل في السنة أو لا؟

فاجاب بقوله: نعم، وقد ألّف في ذلك الحافظ السيوطي، فمن ذلك ما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده، وما صح عن صفية رضي الله عنها: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة ءالاف نواة أسبح بهن فقال: “ما هذا يا بنت حيي؟” قلت: أسبح بهن، قال: “قد سبحتُ منذ قمت على رأسك أكثر من هذا”، قلت: علمني يا رسول الله، قال: “قولي سبحان الله عدد ما خلق من شيء”، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي: “عليكم بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين التوحيد واعقدن بالأنامل فإنهم مسؤولات ومستنطقات”، وجاء التسبيح بالحصى والنوى والخيط المعقود فيه عقد عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وأخرج الديلمي مرفوعًا: “نعم المذكر السبحة”، وعن بعض العلماء عقد التسبيح بالأنامل أفضل من السبحة لحديث ابن عمر، وفصل بعضهم فقال: إن أمِنَ المُسبّح الغلطَ كان عقده بالأنامل أفضل وإلا فالسبحة أفضل” ا.هـ.

وبهذا وبما تقد يُعلم بطلان ما تبجح به ناصر الألباني في مجلة التمدن الإسلامي.

 

انتهى والحمد لله،

وسبحان الله، والحمد لله رب العالمين.

ربنا اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات

فرغ بحمد الله من تأليفه مؤلفه

خادم علم الحديث عبد الله بن

محمد الهرري الحبشي

سنة 1375 هجرية

 

 

الهوامش:

[226] المستدرك للحاكم [1/548]، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [2/101].

[227] الجامع في العلل ومعرفة الرجال [2/188].

[228] التاريخ الكبير: باب الكنى [8/44].

[229] التاريخ الكبير [7/395].

[230] الجرح والتعديل [9/395].

[231] الإصابة في تمييز الصحابة [4/109] الاستيعاب في أسماء الأصحاب [4/108-109]، أسد الغابة [5/175]، الطبقات الكبرى [7/43].

[232] عيون الأثر [2/381].

[233] شعب الإيمان [1/460].

[234] البداية والنهاية: عند ذكر موالي النبي صلى الله عليه وسلم [م3/ج5/ص/244].

[235] سير أعلام النبلاء [17/293].

[236] تاريخ بغداد [14/75].

[237] سير أعلام النبلاء [15/319].

[238] تاريخ بغداد [8/148].

[239] تقريب التهذيب [ص/107].

[240] مقدمة فتح الباري [ص/387].

[241] تهذيب التهذيب [1/70].

[242] تقريب التهذيب [ص/627].

[243] تقريب التهذيب [ص/395].

[244] تهذيب التهذيب [6/117].

[245] الطبقات الكبرى [3/106].

[246] تقريب التهذيب [ص/213].

[247] تقريب التهذيب [ص/97].

[248] مصنف ابن أبي شيبة: باب في عقد التسبيح وعدد الحصى [2/161].

[249] تذكرة الحفاظ [1/35]، وسير الذهبي [2/623].

[250] حلية الأولياء [1/383].

[251] أخرجه أبو داود في سننه: كتاب النكاح: باب ما يكره من ذكر الرجل ما يكون من إصابته أهله، وأحمد في مسنده [2/540-541].

[252] أي جئته ضيفًا.

[253] كتاب الزهد [ص/141].

[254] مصنف ابن أبي شيبة [2/161].

[255] وفيات الأعيان [1/373]، الوافي بالوفيات [11/203].

[256] تاريخ بغداد [7/245].

[257] الغنية فهرسة شيوخ القاضي عياض [ص/180-181].

[258] الفتوحات الربانية [1/252].

[259] تذكرة الحفاظ [1/299].

[260] سير أعلام النبلاء [9/180].

[261] الثقات [7/611].

[262] تهذيب التهذيب [11/190].

[263] تهذيب التهذيب [11/246].

[264] التكملة لوفيات النقلة [2/17].

[265] الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر [1/111].

[266] انظر رسالته المسماة الرد على التعقب [ص/64].

[267] تهذيب الأسماء واللغات [3/143-144].

[268] سير أعلام النبلاء [12/63 و66]، ترتيب المدارك للقاضي عياض [2/617].

[269] حاشية الخرشي [1/2].

[270] الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون [ص/134].

[271] ومن العجب أن أحمد بن تيمية الحراني المتوفى سنة 728هـ أجاز التسبيح بالحصى واستعمال السبحة مع انحرافه عن أهل السنة والجماعة ومخالفته لهم في كثير من مسائل العقيدة والأحكام، فقد قال في فتاويه [22/506] ما نصه: “فصل: وعد التسبيح بالأصابع سنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: “سبحن واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات”. وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن، وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يفعل ذلك، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين تسبح بالحصى وأقرها على ذلك، وروي أن أبا هريرة كان يسبح به. وأما التسبيح بما يجعل في نظام من الخرز ونحوه فمن الناس من كرهه ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه” ا.هـ. والعجب أن محمد بن عبد الوهاب وأتباعه الذين تخرجوا على كتب ابن تيمية يعتبرونها من البدع المنكرات التي لا يجوز استعمالها، فهم بذلك وشيخهم ابن تيمية على طرفي نقيض.

[272] رد المحتار على الدر المختار [1/650-651].

[273] الحاوي للفتاوى [2/2].

[274] الفتوحات الربانية [1/252].

[275] إتقان الصنعة في تحقيق معنى البدعة [ص/54-46].

[276] حاشية الطالب بن حمدون [2/163-164].

[277] الفتاوى الكبرى الفقهية [1/152].