الحلقة ((-3-))
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين وصلى اللهُ على سيِّدِنا محمّدٍ سيِّدِ الأولينَ والآخِرين وعلى آلِهِ وأصْحابِهِ الطيّبينَ الطاهرين.
كنتُ وصلْتُ معكمْ في الحلْقةِ الأخيرةِ في الكلامِ عنْ سيرةِ النبيِّ محمّدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ عنْ زِواجِ النبيِّ بخَديجةَ رضيَ اللهُ عنها. النبيُّ تزوَّجَ خديجة وكانَ لهُ منَ السنِّ خَمسٌ وعشرونَ سنة. لمّا بلغَ أربعينَ سنة نزَلَ على سيِّدِنا محمّدٍ الوحي. كانَ قبلَ ذلكَ حُبِّبَ إليه الخَلاء. كانَ يذهبُ إلى غارِ حِراء يَمْكُثُ نحوَ الشهرِ يَتَحَنَّثُ فيه، يتَعَبَّدُ فيه، ثمَّ يرْجِعُ إلى أهلِه. لمّا صارَ عمُرُهُ أربعينَ سنة نزَلَ عليه الوحي عندَما كانَ في غارِ حِراء. جاءَهُ جبريل قالَ له: اقرأ. النبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ قال “ما أنا بِقارئ” جبريلُ غطَّهُ، ضمَّهُ إليه وهذا قوّى النبيّ لِتَلَقّي الوحي. فعلَ ذلكَ ثلاثَ مرّاتٍ. ثمَّ ذكرَ جبريلُ الآيات منْ سورةِ العلَق أوّلَ خمسِ آياتٍ منْ سورةِ العلَق إلى قولِهِ تعالى: {عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}. فثَبَتَتْ هذه الآياتُ في قلبِ النبيِّ محمّدٍ عليه الصلاةُ والسلامُ. وعلّمَهُ جبريلُ الوضوء والصلاةُ ثمَّ رجَعَ النبيُّ إلى السيّدةِ خديجة وهو يقولُ “زمِّلوني زمِّلوني” ثمَّ حكى للسيّدةِ خديجةِ ما حصلَ معهُ. فالسيِّدةُ خديجةُ فوْرًا صدَّقَتْهُ، فكانتْ هيَ أولَ مَنْ آمَنَ، وقالتْ لهُ كلامًا فيه تشْجيعٌ لهُ، ثمَّ أخذَتْهُ إلى قريبٍ لها يُقالُ لهُ وَرَقةُ بنُ نَوْفَل كانَ قدْ قرأَ الكتُبَ القديمةَ وكانَ يعرِفُ العِبرانيّة. فوصَفَتْ لهُ ما جرى للنبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ فقالَ لهُ: هذا النّاموسُ الذي أُنزِلَ على موسى، قالَ يا ليْتَني أكونُ قويًّا حينَ يُخْرِجُكَ قوْمُكَ. فقالَ لهُ النبيُّ: “أوَمُخْرِجِيَّ همْ ؟” فقال لهُ: ما جاءَ أحدٌ بِمِثْلِ ما جِئْتَ بهِ إلّا عُودِي (معناهُ أنا كبيرٌ في السنِّ ضعيفٌ يا ليْتَني أحْيا إلى وقتِ يُخْرِجوكَ فأنْصُرَكَ).
ثمّ أقامَ النبيُّ في مكةَ ثلاثَ عشْرةَ سنة يدْعو الناسَ إلى توْحيدِ اللهِ فتَبِعَهُ على ذلك قوْمٌ ولَقِيَ تكذيبًا كثيرًا منْ بعضِ مُشْرِكي مكة. بعضُ مُشرِكي مكة كانوا قُساةً مُكَذِّبينَ لهُ.
في خلالِ هذه المُدّة صاروا يضطهِدونَ المسلمين وكانَ النبيُّ لهُ عشيرةٌ تَحْميه وبعضُ المسلمين هكذا كانَ لهمْ في عشيرَتِهِمْ حِمايةٌ لهم. أمّا الضُّعَفاء فواجَهوا أذًى كثيرًا عُذِّبوا وطُرِدوا وأُخِذَ مالُهُمْ بعضُهمْ ماتَ تحتَ التعْذيبِ، ولا يخْفَى عليكمْ ما حصلَ معَ سيِّدِنا عمّار بنِ ياسر رضيَ اللهُ عنهُ، وأهلِهِ، وما حصلَ معَ بلال رضيَ اللهُ عنهُ، وغيرِهم. لكن الإسلامُ انْتشر.
ثمَّ النبيُّ عليه السلام أمرَ أصْحابَهُ بالهجرةِ إلى الحبشةِ قالَ لهُمْ فيها ملِكٌ لا يُظْلَمُ عنْدَهُ أحد. فهاجرَ المسلمون هجرَتَيْنِ إلى الحبشة، منهمْ مَنْ تُوُفِّيَ هناكَ ومنهمْ مَنْ رجَعَ بعدَ ذلك. وممّنْ أسلَمَ في تلكَ المُدّة عبدُ اللهِ بنُ مسعود رضيَ اللهُ عنهُ ولإسْلامِهِ قصّة.
مرَّ به النبيُّ وسيِّدُنا أبو بكرٍ وهو يَرْعَى غنَمًا. فقالَ النبيُّ: “هلْ عندَكَ واحدةٌ تَدُرُّ اللبن؟” قال هذه ليستْ لي أنا مُسْتَأجَر، فقالَ النبيّ: “فهلْ عنْدَكَ شاةٌ لمْ يَنزُ عليها الفَحل؟” (يعني بعدُ لا تُخْرِجُ الحليب)، قال نعم، فأَتاهُ بواحدة فوضَعَ يدَهُ على ضَرْعِها وسمّى اللهَ تعالى ثمَّ حلَبَ، فنزَلَ اللبَنَ.
فرأى ذلك عبدُ اللهِ بنُ مسعود فقالَ لهُ علِّمْني ممّا علَّمَكَ الله. آمَنَ فقالَ النبيُّ: “إنّكَ غلامٌ مُعَلّمٌ” وهكذا كان.
وأولُ مَنْ دخلَ في الإسلامِ من الرجال أبو بكر. ما إنْ أخْبَرَهُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم بنُزولِ الوحيِ عليه حتى صدَّقَ مباشرةً وذلكَ لِما كانَ قدْ رأى منَ النبيِّ قبلَ ذلك منَ العلاماتِ وعرَفَ منَ الأمورِ التي تُمَهِّدُ لذلك.
وأمّا منَ الأطفال فأوّلُ منْ أسلَمَ كانَ سيِّدَنا عليّ بنَ أبي طالب رضيَ اللهُ عنه، لأنَّ عليًّا كانَ عندَ النبيِّ بعدَ موْتِ والِدِه.
وكذلك أوّلِ مَنْ أسلَم زيدُ بنُ حارثة منَ العَبيدِ، وذلكَ أنَّ زيدًا كانَ عبدًا عندَ خديجة رضيَ اللهُ عنها أهْدَتْهُ للنبيّ. وكانَ زيدٌ قد اخْتُطِفَ منْ بينِ أهلِهِ ثمَّ بِيعَ عبدًا كما كانَ يحصُلُ في الجاهلية. أهلُهُ كانوا يَبْحَثونَ عنهُ عرَفوا أنّهُ عندَ النبيَّ فجاءوا إليهِ فقالوا لهُ: ولَدُنا عندَك، ماذا تُريدُ لهُ فِداءً نُعْطيك؟ كمْ تُريدُ منَ المالِ نُعْطِيَكَ حتى تُعْطِيَنا الولد؟ أبوهُ وعمُّهُ، قال النبيُّ: “لا أفعل إنّما تسألونَهُ إذا كانَ يريدُ أنْ يذهبَ معكمْ يذهبُ منْ غيرِ مال أمّا إذا اخْتارَ البقاءَ معي فما أنا بمُخْتارٍ على مَنِ اخْتارَني أحدًا” يعني إذا اخْتارَ البقاءَ معي لا أُسَلِّمُكُمْ إيّاه، قالوا أنصَفْتَ وزيادة.
فذهبوا إليه، قالَ النبيُّ: “تَعْرِفُهُما؟” قال نعم هذا أبي وهذا عمي، قال: “فهُما يُريدانكَ أنْ تذهبَ معها” قال ما أنا بِمُخْتارٍ عليك أحدًا. ثمَّ قالَ لهما: إنّي رأيتُ منْ هذا الرجلِ شيئًا ما أنا بِمُخْتارٍ عليه أحدًا منَ البشر. فعندَ ذلك النبيُّ خرجَ إلى الناسِ وتَبَنّاهُ، وكانَ هذا قبلَ نزولِ الوحي، يعني قبلَ نزولِ تَحْريمِ التّبَنّي. فصارَ يُقالُ لهُ زيدُ بنُ محمّد، إلى أنْ نزَلَ الوحيُ ثمَّ بعدَ ذلكَ نزَلَ تحْريمُ التّبَني فرجع يُدْعَى زيدَ بنَ حارثة.
واللهُ سبحانَهُ وتعالى أعلَمُ وأحكم