الخميس يناير 2, 2025

الحمدُ لله حمدًا يرضاه لذاتِه والصلاةُ والسلامُ على سيدِ مخلوقاتِه ورضي الله عن الصحابة والآل وأتْباعِهم مِن أهلِ الشرعِ والحال والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
اللهم صلّ صلاةً كاملًة وسلِّم سلامًا تامًّا على سيدِنا محمد الذي تنحلُّ به العقد وتنفرجُ به الكرب وتقضى به الحوائج وتُنالُ به الراغائب وحسنُ الخواتيم ويُستسقى الغمامُ بوجهِه الكريم وعلى آله وصحبِه وسلِّم

لك الحمدُ والفضلُ يا ربَّنا، لك الحمدُ والشكرُ يا ربَّنا

يا ربِّ صلّ على المصطفى صلاةً تكونُ أمانًا لنا يا ربّ سلّم على المصطفى سلامًا يكونُ أمانًا لنا.

نسألُ اللهَ تبارك وتعالى أن يجعلَ نيّاتِنا وأعمالَنا خالصةً لوجهِه الكريم ونحنُ في هذا المجلس الصوفيّ الرفاعي على مائدةِ السيد أحمدَ الرفاعي رضي الله عنه حيثُ قال في برهانِه “أي سادة، الزهدُ أولُ قدمِ القاصدينَ إلى الله عز وجل وأساسُه التقوى وهي خوفُ اللهِ رأسُ الحكمة”

بين كلامِنا في الزهدِ والتقوى والخوف

كان عمرُ بنُ الخطاب رضي اللهُ تعالى عنه وأرضاه تُعجِبُه أبياتَ لَبيدِ بنِ ربيعة:

“إنّ تقوى ربِّنا خيرُ نفَلْ              وبإذنِ اللهِ رَيْثي وعَجَلْ

أحمَدُ اللهَ   فلا   نِدَّ    له              بيديْهِ الخيرُ ما شاء فعلْ

مَن هداهُ سبُلَ الخيرِ اهْتَدى             ناعمَ البالِ ومَن شاءَ أضَلّ

خيرُ نفَلٍ خيرُ غنيمةٍ تقوى الله خيرُ ما يُؤتاهُ العبدُ من الغنيمة

إنّ تقوى ربِّنا خيرُ نفَل: أفضلُ ما نُؤتاه هو تقوى الله، رأسُ مالٍ كبير أنْ نكونَ على تقوى اللهِ عز وجل، أفضلُ غنيمةٍ نُؤتاها أفضلُ ما نكونُ عليه أنْ نكونَ على تقوى الله، خيرُ نفَل خيرُ غنيمة

وبإذنِ الله رَيْثي وعجَل: إبطائي وإسراعي بإذن الله، فما يُؤتاهُ العبدُ لا يكونُ له إلا بمشيئةِ الله، مَن شاء اللهُ تعالى له أنْ يكونَ من أهلِ التقوى كان من أهلِ التقوى وإننا  لنرجو اللهَ تبارك وتعالى في هذه الساعة أنْ نكونَ من أهلِ التقوى وأهلِ المغفرة، من الذين صُدِّرَت سورةُ البقرة بذِكرِهم بقولِه تعالى {هدًى للمتقين}[البقرة/٢] فلا يكونُ منْ تقوى ولا يكونُ مِن طاعة ولا يكونُ من قوةٍ على طاعة ولا رُقِيٍّ بتقوى إلا بمشيئةِ الله،  فمَن شاء اللهُ له الهدى اهْتَدى ومَن شاء اللهُ تعالى له الضلالةَ ضلَّ، اللهُ يهدي مَن يشاء ويُضِلُّ مَن يشاء

قدَّرَ اللهُ تعالى أنْ يكونَ بعضُ العبادِ مِن أهلِ التقوى والصلاح وأنْ يكونَ بعضٌ مِن أهلِ الخَيْبةِ والذِّلةِ والشقاء.

ما شاء اللهُ كان وما لم يشأ لم يكن.

فكما يقولُ المصطفى عليه الصلاة والسلام “فمَن وجدَ في نفسِه خيرًا فلْيَحْمَدِ الله ومَن وجدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسَه”

قال بعضُهم: ما رأيتُ رجلًا أعظمَ رجاءً لهذه الأمة ولا أشدَّ خوفًا على نفسِه -ومرادُه مِن أهلِ زمانِه- مِن ابنِ سيرين.

ابنُ سيرين رضي الله عنه الذي كان من كبارِ السلف الصالح وكان من كبار الأولياء والصالحين، أعطاه اللهُ تعالى منَ العلمِ اللدُنيّ، أعطاهُ اللهُ تعالى علمَ تعبيرِ الرُّؤى فكان يُعَبِّرُ الرؤى بإلهامٍ يجعلُه اللهُ تعالى في قلبِه.

أما الوحي فذاك الذي ينزلُ على الأنبياء يكونُ للأنبياء، أما الأولياء فاللهُ تعالى يفتحُ عليهم بما شاء ويُلهِمُ قلوبَهم لِما شاء.

كيف بلغَ ابنُ سيرين هذه الدرجة؟ كان يأتيه اثْنان يقُصّانِ عليه نفسَ الرؤيا فيقولُ لهذا هذا تعبيرُه كذا ويقولُ للآخر هذا تعبيرُه كذا على خلافِ التعبيرِ الأول.

كيف بلغَ ابنُ سيرين هذه الدرجة العالية؟ بشدةِ الخوفِ من اللهِ عز وجل.

مرضَ سفيانُ الثوريّ رحمه الله فعُرِضَ دليلُه -أي ما يُستدَلُّ به على مرضِه- على الطبيب، ما هي علةُ سفيان؟ مرضٌ شديد أصابَه، تدرونَ ماذا قال الطبيب؟

هذا رجلٌ قطعَ الخوفُ كبِدَه.

ثم جاء وجسَّ عرْقَه ثم قال: ما علمْتُ أنّ في الحَنيفيّةِ مثلَه -أي فيمَن يعرفُه هو وإلا فإنّ الأنبياءَ في درجةٍ أعلى في الخوفِ والرجاءِ والتقوى-

هذا سفيان تفتّـتَ كبِدُه وقد بلغَ هذه المرتبة

مَن لم يَبِتْ والحبُّ حَشْوُ فؤادِه لم يدْرِ كيفَ تُفَتَّتُ الأكبادُ

الذي لا يَبيتُ لا ينامُ وحبُّ الله والخوفُ من الله حشوُ فؤادِه هذا ما عرَفَ كيف تُفَتَّتُ الأكباد، وهؤلاء سكنَ الخوفُ قلوبَهم وتفَتَّتتْ أكبادُهم خوفًا من الله عز وجل.

حُكيَ عن السّريِّ السقَطيّ رحمه الله أنه قال “إني لأنظرُ إلى أنفي في اليومِ كذا مرةً مخافةَ أنْ يكونَ قد اسْوَدَّ لِما أخافُه من العقوبة”

مع عظيمِ حالِهم وحُسنِ ظنِّهم بربِّهم وعدمِ قُنوطِهم إلا أنهم شديدو الاتهامِ لأنفسِهم والمحاسبةِ لها والخوفِ مِن تبدُّلِ الحال لِما علِموا مِن بعضِ أحوالِ الرجال ممنْ عاشوا زمانًا على طاعةِ الله ثم تبدّلَ حالُهم والعياذُ بالله قبلَ موتِهم بزمَنٍ قصير وخُتِمَ لهم والعياذ بالله على غير الإسلام.

يُحكَى عن أحمدَ بنَ حنبل رضي الله عنه أنه قال “سألتُ ربي عز وجل أنْ يفتحَ عليَّ بابًا من الخوف ففَتَحَ فخِفْتُ على عقلي فقلتُ يا ربّ أعطِني على قدْرِ ما أُطيق فسَكنَ ذلك عني”

الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل وكان صدّيقًا وكان معَ جلالةِ أمرِه في العلم كان إمامًا لأهل السنة كان وليًّا كبيرًا من أولياء الله الصالحين كان زاهدًا عابدًا خائفًا من الله عز وجل، سألَ اللهَ تعالى أنْ يفتحَ عليه بابًا من الخوف، فتحَ اللهُ عليه بابًا فصارَ يخافُ على عقلِه لأنّ هذا البابَ شديد فسألَ اللهَ تعالى أنْ يُعطيَه على قدْرِ ما يُطيق فسُكِّنَ عنه.

بعضٌ من الصوفيةِ العابدين لما يكونونَ عليه مِن جِدٍّ في طاعةِ اللهِ عز وجل واجتهادٍ في العبادة يفتحُ اللهُ تعالى عليهم في المقامات فبعضُهم عقلُه لا يحتمِل، قلبُه لا يحتمل، فقد ينجذبُ عقلُه وقد ينجذِبُ قلبُه وقد ينجذِبُ عقلُه وقلبُه.

الإمامُ أحمد دعا اللهَ تعالى أنْ يُعطى على قدْرِ ما يُطيق ليَبقى في عقلِه ليَنفعَ هذه الأمة وكان، فرفَع اللهُ تعالى له علَمًا لِما نصرَ به أهلَ السنةِ والجماعة عندَما ثبّتَه اللهُ تعالى في مواجهةِ المعتزلةِ الذين كذّبوا بالقدر ونفَوا عن الله صفةَ الكلام وقالوا بأنّ القرآنَ مخلوق على معنى نفيِهم لصفةِ الكلامِ عن الله.

وقف هذا الصدّيق في وجهِ هؤلاء فرفَع اللهُ تعالى له علَمًا إلى ما شاء الله.

سُئلَ بعضُ المُرشِدين المُرَبّين من خلفاء السيدِ أحمد الرفاعي عما يصيرُ مع بعض الصوفية أنهم بضعَ الأحيان مع اشتغالِهم بالذكر يشتدُّ الأمرُ عليهم على قلوبِهم وعلى عقولِهم فما يصنعُ المريد إنْ اعتَراهُ مثلُ ذلك؟

فأجابَ بعضُ خلفاءِ الرفاعي: مَن حصلَ منه ذلك فليُكثِرْ من الاستغفار فإنْ كان في خلوةٍ وحدَه لا يسمعهُ أحد يستغفرُ اللهَ بصوتٍ مرتفِع، يرفعُ صوتَه بالاستغفار بأيِّ صيعة أستغفرُ الله أستغفرُ الله أستغفرُ الله، أو يقول: ربِّ اغفرْ لي ربِّ اغفرْ لي ربِّ اغفرْ لي

وأما إذا كان مع الناس هناك مَن يسمعُه فيستغفرُ اللهَ سرًّا بلسانِه بحيثُ يُسمِعُ نفسَه فقط، فهذا مما يُسَكِّنُ قلبَ هذا المريد.

ومما رواه الإمامُ أحمدُ الرفاعيُّ رضي الله عنه منَ الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه كذلك الإمامُ البيهقيُّ رحمه الله في شُعَبِ الإيمان مِن حديثِ قَتادة رضي الله عنه أنه سمعَ أنسَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه يقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم “الإسلامُ عَلانِية والإيمانُ في القلب والتقوى ههُنا” يقولُها ثلاثًا ويُشيرُ بيدِه إلى صدرِه صلى الله عليه وسلم.

الإيمانُ في القلب يطّلِعُ اللهُ تعالى عليه والإسلامُ علانية تصلي تزكي تحجّ، أي هذه الأعمالُ الظاهرة، والإيمانُ في القلب على أنه لا يخفى أنّ الإسلامَ والإيمانَ مُتلازِمانِ فهما كالظهرِ مع البطن كما قال الإمامُ أبو حنيفةَ النعمان رضي الله عنه.

وماذا عن التقوى؟ يُشيرُ المصطفى صلى الله عليه وسلم بيدِه إلى صدرِه الشريف يقول: التقوى ههُنا، التقوى ههُنا، يقولُها صلى الله عليه وسلم ثلاثًا ويُشيرُ إلى صدرِه الشريف.

يقولُ الإمامُ أحمدُ الرفاعيُّ رضي الله عنه “التقوى التي تَقَرُّ في القلبِ فتُحْكِمُ فيه الإيمان هي روحُ المعرفة، أي سادة، إنّ اللهَ تعالى جعلَ لكلِّ شىءٍ قدْرًا ولكلِّ قدْرٍ حدًّا ولكلِّ حدٍّ سببًا ولكلِّ سببٍ أجلًا ولكلِّ أجلٍ كتابًا ولكلِّ كتابٍ أمرًا ولكلِّ أمرٍ معنى ولكلِّ معنًى صدقًا ولكلِّ صدقٍ حقًّا ولكلِّ حقٍّ حقيقة ولكلِّ حقيقةٍ أهلًا ولكلِّ أهلٍ علامة، فبالعلامةِ يُعرَفُ المُحِقُّ منَ المُبطِل”

تريدُ أنْ تعرفَ الحق؟ اعرِف الحقَّ تعرفْ أهلَه

كثيرٌ مَن يدّعي أنه على الحق، كثيرٌ مَن يدّعي أنه على الطريق، كثيرٌ مَن يدّعي أنه شيخٌ في الطريق.

وكيف تعرف مَن المُحِقّ مَن المُبطِل، تريدُ أنْ تعرفَ أهلَ الحق، أين الرفاعيةُ الصادقون؟ أين الصوفية؟ أين أهلُ السنة؟ أين أهلُ الحق؟

اعرِف الحقّ تعرِفْ أهلَه

إذا تعلّمتَ علمَ الدين وهذا من التقوى، إذا تعلمتَ ما فرضَ اللهُ تعالى عليك عرَفتَ ما هو الواجب ما هو الحرام، في زمانٍ كم تسمعُ من الناس هذا واجبٌ في الدين وهذه ضرورةٌ شرعية وهذا فرضٌ مؤكّد، وكلامُه يكونُ على خلافِ ما جاء به الشرع

كم من الناس مَن يقول هذا حرام وهذا لا يجوز وعندما تسأل مِن أين هذا يقول هذا قياسٌ على النصوص الشرعية وهو ليس من أهل القياس

وكم من الناس اليوم ينتسبُ إلى الإسلام وهو يحاربُ الإسلام، كم مِن فرَقٍ مُبتدِعة وأهلِ الضلال مَن يحاربُ الدين ويحاربُ الإسلام وهم يدّعونَ أنهم على الطريق الصحيح.

كم من الأبناء اليوم وكم من الإخوة يبحثون عن الطريق، وبعضُ الناس يأتي ويقول أنا محتار أين هو الطريق هذا يقول أنا على الحق وهذا يقول أنا على الحق وهذا يقول أنا على الحق أقول كيف أعرف مَن الصادق، فيقالُ له تعلّمْ علمَ الدين تعلّم الحق تعرِفْ أهلَ الحق.

وهنا تأتي كلمةُ السيد الكبير أحمدُ الرفاعي الكبير التي ذكرْناها

“إنّ اللهَ تعالى جعلَ لكلِّ شىءٍ قدْرًا ولكلِّ قدْرٍ حدًّا ولكلِّ حدٍّ سببًا ولكلِّ سببٍ أجلًا ولكلِّ أجلٍ كتابًا ولكلِّ كتابٍ أمرًا ولكلِّ أمرٍ معنى ولكلِّ معنًى صدقًا ولكلِّ صدقٍ حقًّا ولكلِّ حقٍّ حقيقة ولكلِّ حقيقةٍ أهلًا ولكلِّ أهلٍ علامة فبالعلامةِ يُعرَفُ المُحِقُّ منَ المُبطِل”

كان من أورادِ الإمام أحمدَ الرفاعي رضي الله عنه عقِبَ الصلواتِ الخمس هذا الدعاء “اللهم إني أسألُك من النعمةِ تمامَها ومنَ العصمةِ دوامَها ومنَ الرحمةِ شمولَها ومنَ العافيةِ حصولَها ومنَ العيشِ أرْغَدَه ومنَ العمرِ أسْعَدَه ومنَ الإحسانِ أتمَّه ومنَ الإنعامِ أعَمَّه ومنَ الفضلِ أعْذبَه ومنَ اللطفِ أنفَعَه”

اللهم أمِدَّنا بمددِ نبيِّك الكريم إمامِ المتقين إمام الزاهدين إمام العابدين نبيِّنا المصطفى وبمددِ الأنبياء والمرسلين وبمددِ شيخِ طريقتِنا أبي العلمين صاحبِ كرامةِ مدِّ اليمين

سبحانك اللهم وبحمدِك نشهدُ أنْ لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوبُ إليك

سبحان ربِّك ربِّ العزةِ عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمدُ لله رب العالمين وصلى الله على سيدِنا محمد وعلى آله وأصحابهِ الطيبين الطاهرين.