الخميس نوفمبر 21, 2024

(25) رَوَى الْبَيْهَقِىُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ «إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ» أَىْ خِيَارَ عِبَادِ اللَّهِ لَيْسُوا كَذَلِكَ.

   وَالتَّنَعُّمُ هُوَ الِاسْتِمْرَارُ بِالتَّلَذُّذِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَمَفَاخِرِ الثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِى بَعْضِ الأَوْقَاتِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ اللَّذِيذَ أَوْ يَلْبَسُ اللِّبَاسَ الْجَمِيلَ لا بَأْسَ هَذَا لا يكُونُ تَنَعُّمًا. وَكَذَلِكَ إِذَا أَكَلَ اللَّحْمَ فِي بَعضِ الأَحْيَانِ لِحِفْظِ بَدَنِهِ هَذَا لا يُنَافِى تَرْكَ التَّنَعُّمِ. ثُمَّ إِنَّ تَرْكَ التَّنَعُّمِ عَمَلُ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِياءِ لِأَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى رَاحَةِ مُسْتَقْبَلِهِمْ وَهَذَا مَقَامٌ كَبِيرٌ يَصْعُبُ عَلَى النَّفْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّنَعُّمَ يَحُولُ بَيْنَ الشَّخْصِ وَبَيْنَ تَقْدِيمِ مَا يَنْفَعُهُ لِآخِرَتِهِ وَيكُونُ لَهُ ذُخْرًا لِأَنَّ الَّذِى يَلْزَمُ التَّنَعُّمَ فِى عِيشَتِهِ نَفْسُهُ تَمْنَعُهُ عَنْ تَقدِيمِ مَا يَكُونُ ذُخْرًا لَهُ فِى الآخِرَةِ تَقُولُ لَهُ «إِذَا قَدَّمْتَ هَذَا تَنْقُصُ عَلَيْكَ وَسَائِلُ التَّنَعُّمِ» فَيَمْنَعُهُ عَنْ تَقدِيمِ هَذَا الْعَمَلِ الَّذِى هُوَ عَمَلُ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ.

   حُبُّ الدُّنْيَا إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى القَلْبِ هَانَ عَلَى صَاحِبِهِ كُلُّ الْمَفَاسِدِ. عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَلْبَسُ الشَّعَرَ أَىِ الصُّوفَ الَّذِى يَخْرُجُ مِنَ الْغَنَمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْسَجَ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَيَأْكُلُ الشَّجَرَ أَىْ مِنْ بُقُولِ الأَرْضِ مِنْ نَحْوِ الْمُلُوخِيَّةِ وَالْهِنْدِبَاءِ وَالْخُبَّيْزَةِ مِنْ دُونِ طَبْخٍ. يَبِيتُ حَيْثُ يُدْرِكُهُ الْمَسَاءُ كَانَ يَبِيتُ فِى الْمَسْجِدِ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِيعَةً أَوْ يَبِيتُ فِى الْبَرِيَّةِ تَحْتَ شَجَرَةٍ. والرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْقَعُ لَهُ الزَّبِيبُ فَيَبِيتُ اللَّيْلَةَ ثُمَّ يَشْرَبُ مِنهُ ثُمَّ اللَّيلَةَ الثَّانِيَةَ يَشْرَبُ وَالثَّالِثَةَ يَشْرَبُ ثُمَّ قَدْ يَسْقِيهِ غَيْرَهُ أَوْ يَشْرَبُهُ أَوْ يُرْمَى لِأَنَّهُ فِى الْبِلادِ الْحَارَّةِ يُخْشَى أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا فِى الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَوِ الْخَامِسِ. فَالَّذِى يَتْرُكُ التَّنَعُّمَ أَقْرَبُ إِلَى مُوَاسَاةِ الْغَيْرِ لِذَلِكَ تَرْكُ التَّنَعُّمِ طَرِيقٌ إِلَى تَنْوِيرِ الْقَلْبِ.

   وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ فَمَعْنَاهُ لا تَنْسَ أَنْ تَتَزَوَّدَ مِنْ دُنْيَاكَ لِآخِرَتِكَ. الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْضِى عَلَيْهِ الشَّهْرُ ثُمَّ الشَّهْرُ وَلا يُوقَدُ فِى بَيْتِهِ نَارٌ كَانَ يَأْكُلُ التَّمْرَ وَالْمَاءَ، التَّنَعُّمُ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الأَنْبِيَاءِ.     

   اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْعِلْمَ الإِسْلامِىَّ نُشِرَ فِى الصَّدْرِ الأَوَّلِ بِشِدَّةِ الْهِمَّةِ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرَّاحَةِ فَمِنْ حَيْثُ الرَّاحَةُ كَانُوا أَقَلَّ مِنَّا بِكَثِيْرٍ، الْفَقِيرُ مِنَّا الْيَوْمَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ يَعِيشُ عِيشَةَ الْمُلُوكِ كَانَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْحِجَازِ نَاحِيَةَ الْمَدِينَةِ أَغْلَبُ قُوتِهِمُ التَّمْرُ وَالْمَاءُ أَمَّا الضَّوَاحِى الَّتِى هِىَ بِلادٌ زِرَاعِيَّةٌ يَقتَاتُونَ بِالْقَمْحِ وَالشَّعِيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.